الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
حديث «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة..» إلى «البخيل من ذكرت عنده..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي باب فضل الصلاة على رسول الله ﷺ أورد المصنف -رحمه الله- حديث أوس بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ فقالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أَرَمْتَ؟ وضبطه بعضهم: أَرِمْتَ، قال: يقول: بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء[1].

قوله ﷺ: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة و(من) هذه للتبعيض، ولا يخفى ما ورد في يوم عرفة، وأنه أيضًا من أعظم الأيام، وأفضل الأيام عند الله -تبارك وتعالى-، وكذلك يوم النحر، وهكذا يوم القر، وهو اليوم الحادي عشر، فهذه أيام شريفة، فأفضل أيام الأسبوع هو يوم الجمعة، وأفضل أيام العام اُختُلف فيه، هل هو يوم النحر، أو يوم عرفة؟

وعلى كل حال تلك أيام شريفة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة والأحاديث الواردة في فضله كثير، وليس هذا موضع الحديث عنها، وقد مضى طرف من ذلك.

قال: فأكثروا عليّ من الصلاة فيه الفاء هنا تدل على تعليل، وعلى ترتيب ما بعدها على ما قبلها، بما أن من أفضل الأيام يوم الجمعة فأكثروا من الصلاة عليّ، المعنى: لأنه من أفضل الأيام أكثروا عليّ من الصلاة فيه (لأنه) هذا تعليل، وإلا فالصلاة على النبي ﷺ لا تختص بيوم الجمعة، وليلة الجمعة، ولكن ذلك يتأكد بالنسبة للأيام بيوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه بمعنى: أن تكون الصلاة على النبي ﷺ يوم الجمعة، وكما جاء في بعض الأحاديث ليلة الجمعة أيضًا: أن يكون ذلك أكثر من غيره من سائر الأيام، أن تزيد صلاتنا على النبي ﷺ في ليلة الجمعة ويوم الجمعة عن غيرها؛ ولهذا لو قال قائل مثلاً: لو أنني مثلاً استعيض عن كثير من التهليل والتسبيح والتحميد، بل لربما وقراءة القرآن بيوم الجمعة بكثرة الصلاة على النبي ﷺ، فيقال: ذلك به أعلق، يعني الذكر وقراءة القرآن لا تختص بيوم الجمعة، ولكن الإكثار من الصلاة على النبي ﷺ في يوم الجمعة هذا مقصود للشارع.

فإن صلاتكم معروضة عليّ تعرض عليه، يعرضها عليه ملائكة مختصون بذلك، أو ما شاء الله -جل جلاله-.

"فقالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرَمت؟" يعني صرت رميمًا، وكما سبق أن الكثيرين ضبطوه بالكسر، أرِمت بمعنى: صرت رميمًا، يعني هنا فسره وقال: يقول: بليت، يعني: صار إلى البِلى، حيث يتحلل الجسد، ويذهب في الأرض.

قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء فهذا نص في أن أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض كرامة من الله لهم، وقد يشكل على ذلك ما جاء في قصة موسى ، حينما أراد الخروج من أرض مصر، وأنه طلب قبر يوسف -عليه السلام-، ودلتهم عليه تلك المرأة العجوز، واشترطت ما اشترطت، والقصة معروفة في هذا.

فالشاهد: أنهم وجدوا قبره تحت بحيرة من الماء، أو مستنقع، أو نحو ذلك، فحملوا عظامه، ما المقصود بـ"حملوا عظامه" هل معنى ذلك أنه تحلل جسده؟ الجواب: لا، حملوا عظامه يعني حملوا جسده، وقد ذُكر -كما أشرت في بعض المناسبات- بأنه لما فتحت بلاد فارس والمدائن وجدوا رجلاً لم يتغير يقال: إنه دانيال، وأنه من أنبياء بني إسرائيل، وأنه من جملة من أخذ بختنصر من أشراف بني إسرائيل وأنبيائهم من بيت المقدس، في قصة خراب بيت المقدس، ويذكرون في خبره أنه حبسوه عندهم، الشاهد: أنه مات هناك في بلاد فارس، فكانوا إذا أجدبوا -أعني الفرس- خرجوا بجنازته محمولة بادية إلى السماء، يستمطرون بها، وأنهم سألوا عمر بعد الفتح ما يفعلون به، فأمرهم أن يحفروا أربعة عشر قبرًا، وأن يغيبوه في واحد منها ليلاً، بحيث لا يهتدى لقبره؛ لأجل لا يقدس، ولا يعظم.

فالشاهد: أن مثل هذا -يعني إن ثبت وأنه نبي- فهذا مثال، ويكفي قول النبي ﷺ، وقد يحصل ذلك لغير الأنبياء كرامة من الله لهم قديمًا وحديثًا، وهذا حصل لبعض أصحاب النبي ﷺ، فالشهداء في أحد دفنوا في القبر الرجلان والثلاثة، ونحو ذلك، وعبد الله بن حرام، والد جابر كان منهم، فجابر - ما طابت نفسه، فبعد مدة حفر قبر أبيه، وبالعادة يبدأ الجسد يتغير ويتحلل، فحفر فوجده لم يتغير، ووجد الدم كما هو، وبعد أربعين سنة تقريبًا في عهد معاوية أراد أن يجري عينًا، فكان مجراها على قبور الشهداء، فأرادوا نقلهم، فحفروا فأصابت المسحاة رجل أحدهم، فظهر الدم، ووجدوه لم يتغير، مع أن الإنسان إذا مات -وهذا يعرفه الأطباء وغير الأطباء- لا يوجد في جسمه شيء من الدم، يعني لو قطعته ما يخرج دم، ولو وضعت إبرة، وحاولت أن تسحب دم ما يخرج شيء، يذهب الدم، فلم تتغير، وهكذا وقع ذلك لطوائف من الناس من أهل الفضل والصلاح، لكن لا يعني هذا أن هؤلاء جميعًا كل أهل العلم والصلاح والخير، أو الشهداء، أو نحو ذلك أنهم لا يتغيرون، لا، الأصل أن الأرض تأكل أجسادهم، هذا الأصل، سوى الأنبياء، لكن قد يحصل هذا لبعض الصالحين، ولبعض أهل الفضل كرامة من الله لهم، وقد يحصل؛ وتعرفون لما حصل ما حصل من حريق في المسجد النبوي قديمًا، ثم بعد ذلك أرادوا تجديده، وتجديد الحجرة النبوية، والحجرة التي فيها قبر النبي ﷺ وهي حجرة عائشة -رضي الله عنها-، فكان قد وقع بعض البناء على بعض، ونحو ذلك، وكانوا يزيحونه، فخرج لهم رِجل، ففزعوا أن تكون رِجل النبي ﷺ في البناء الذي كان في عهد الوليد بن عبد الملك، أمر عمر بن عبد العزيز أن يفعل هذا، حينما كان أميرًا على المدينة، فخرجت لهم رِجل يعني مع الحفر، ففزعوا أن تكون رِجل النبي ﷺ فنظروا، فإذا هي رِجل عمر ، وما تغيرت.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن[2].

قوله: رغم أنف رجل يعني: كأنه يدعو عليه، يقول: التصق أنفه بالتراب، وهذا يحتج به من يقول: إن الصلاة على النبي ﷺ إذا ذكر أنها واجبة، وقد مضى الكلام على هذا بالأمس، وقلت: إن من أهل العلم من يوجبها، ويبقى النظر إذا تكررت مرارًا في المجلس الواحد، هل يكفي مرة واحدة؟ أو كلما تكرر بناء على الأمر إذا كان معلقًا على شرط أنه يتكرر بتكرره وإلا لا؟

فالشاهد: أن من أهل العلم من يقول: يجب إذا ذكر أن يصلى -عليه الصلاة والسلام-، أخذًا من هذا الحديث والحديث الآخر: البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ[3]، وللأمر بذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] وممن قال بهذا الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-، وقال به آخرون، كابن بطة الحنبلي صاحب الإبانة الكبرى والصغرى، وبعض الأحناف.

وعنه قال: قال رسول الله ﷺ: لا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم[4]، رواه أبو داود بإسناد صحيح.

قوله: لا تجعلوا قبري عيدًا ما المراد به؟ العيد يقال للعيد الزماني، يعني: الذي يجتمع الناس فيه في وقت معين، ويقال للعيد المكاني، المكان الذي يقصده الناس للاجتماع، وما يتكرر ويعود يقال له: عيد، وكأن هذا هو المراد والله تعالى أعلم، ألا يتخذ قبر النبي ﷺ مكانًا يعتاد الناس المجيء إليه، ويترددون عليه مرة بعد مرة؛ ولهذا فإن أصحاب النبي ﷺ ما كانوا يأتون إلى القبر، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إن الواحد منهم إذا جاء من سفر صلى في المسجد ركعتين، وسلم على النبي ﷺ من المكان الذي صلى فيه، ولا يذهب إلى القبر، وما نقل عن أحد من الصحابة أنه كان يأتي القبر، إلا ابن عمر فقط إذا جاء من سفر، أو أراد سفرًا يأتي ويسلم[5].

أما ما يعتقده كثير من العامة من أنه إذا جاء للمسجد النبوي سواء جاء من سفر، أو غير ذلك أنه يأتي إلى القبر ويسلم، فهذا ليس له أصل، لكن لو أن الإنسان إذا جاء من سفر أو قدم من سفر، أو أراد سفرًا، فله أسوة بابن عمر ، لكن الذي يكون في البلد، ويتردد على القبر، ويعتقد إنه إذا مضى عليه أسبوع جمعة، أو نحو ذلك، وما جاء إلى القبر أن ذلك من الجفاء، فهذا غير صحيح، وإنما يسلم على النبي ﷺ، من موضعه الذي صلى فيه؛ ولهذا أنكر بعض السلف مثل علي بن الحسين زين العابدين على من رآه يأتي إلى القبر، ويتردد عليه، وبيّن له أن ذلك خلاف المشروع[6].

فالنبي ﷺ يقول: لا تجعلوا قبري عيدًا فكون الناس يعتادون المجيء، ويترددون على قبره، فيأتي كل يوم، أو يأتيه كل أسبوع، أو كل جمعة، أو نحو ذلك، فهذا من جعله بهذه المثابة، والله تعالى أعلم.

قال: وصلوا عليّ لاحظ هذا أمر فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم يخاطب الصحابة ، وهذا خطاب يرشدهم فيه إلى ما يكون بعد موته -عليه الصلاة والسلام-، وكيف يفعلون؟ يقول: لا تأتون إلى القبر لا تجعلوا قبري عيدًا تتردون عليه صلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ولهذا كانوا يأتون إلى المسجد، ويصلون ركعتين، ويسلمون على النبي ﷺ من مكانهم.

وبهذا نعلم أن قوله: فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم أنه لا فرق بين الذي يأتي القبر ويصلي على النبي ﷺ، وبين الذي يصلي عليه هنا، وما يظنه بعض العامة إذا رأى أحدًا يقصد المدينة قال له: سلم لي على النبي ﷺ، فهذا لا أصل له، ولا يشرع مثل هذا، فلا فرق بين هذا الذي يذهب وبين القاعد هنا، من هذه الحيثية.

وعنه: أن رسول الله ﷺ قال: ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام[7].

ما من أحد يسلم عليّ قريب أو بعيد، ما قيده بالمجيء إلى القبر.

إلا رد الله عليّ روحي النبي ﷺ حياته في القبر حياة برزخية، ولا شك أن روحه ﷺ تنعم، والروح من أمر الغيب، والإنسان في حال البرزخ لروحه أحوال وتنقلات لا ندركها، ولا يمكن أن تقاس على هذه الحياة الدنيا، وعالم المادة الذي نشاهده، فهي تصعد إلى الملأ الأعلى، ويكون لها نوع اتصال بالقبر، وارتباط بالجسد، نوع ارتباط، والله أعلم بكيفيته، لكن هنا بهذه الحال إلا رد الله عليّ روحي فالروح لها نوع اتصال بالجسد في البرزخ، لكن هنا رد خاص، حتى أرد -عليه السلام-، فدل على أنه -عليه الصلاة والسلام- يرد على من سلم عليه.

وجاء في بعض الأحاديث: أن الله وكّل به ملكًا يبلغه تسليم أمته، فيقول: هذا فلان ابن فلان، فيبلغه أنه سلم أو صلى عليه.

ثم ذكر حديث علي قال: قال رسول الله ﷺ: البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح[8].

البخيل يعني: كأن هنا دخول (أل) تشعر بالوصف الكامل، استحقاق الوصف الكامل، يعني البخيل حقًا، البخيل تام البخل، تقول: الكريم فلان، والبخيل هو الذي يبخل بكذا، يعني البخيل حقيقة، البخيل بخلاً تامًا هو من ذكر عنده النبي ﷺ فلم يصل عليه؛ وذلك أن رسول الله ﷺ قد أمر بالصلاة عليه؛ وذلك لا يكلف شيئًا، والنبي ﷺ هو سبب لسعادته ونجاته في الدنيا والآخرة، حيث جعله الله بهذه المثابة أرسله إلى الناس، فجاء بهذا الدين، وبهذا الوحي، وبهذه الشريعة من عند ربه -تبارك وتعالى-، فما يحصل للناس من علم وخير وهداية، ونحو ذلك، إنما تعلموه من طريق النبي ﷺ، فإذا ذُكر فيصلون عليه -عليه الصلاة والسلام-.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستغفار برقم (1531) وصححه الألباني.
  2. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم (3545) وقال الألباني: "حسن صحيح".
  3. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم (3546) بلفظ: ((البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل علي)) وصححه الألباني.
  4. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور برقم (2042) وصححه الألباني.
  5. قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 84).
  6. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 175).
  7. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور برقم (2041) وحسنه الألباني.
  8. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم (3546) بلفظ: ((البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل علي)) وصححه الألباني.


 

مواد ذات صلة