الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
حديث «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها..» إلى «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان"، أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة ، أنه سمع النبي ﷺ يقول: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب[1]، متفق عليه.

قوله ﷺ: إن العبد ليتكلم بالكلمة، الكلمة هنا تصدق على الكلمة الواحدة المفردة تكون من سخط الله -تبارك وتعالى-، وتصدق على الكلام، فإن الكلمة قد تقال لكلام يقوله الإنسان كالخطبة، وما كان دون ذلك، أو أكثر، كل ذلك يقال له: كلمة، والجملة يقال لها: كلمة، والكلمة الواحدة كذلك، وهذا يمكن أن يحمل على هذين فيكون من قبيل حمل المشترك على معانيه.

إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، ما يتبين فيها يعني ما يفكر هل هي خير أو شر؟! وإنما يطلق لسانه قبل أن ينظر ويفكر في عقله هل هذا الكلام ينفعه أو يضره؟! هل في هذا الكلام نفع للآخرين أو فيه ضرر؟! هل هذا الكلام يرضي الله -تبارك وتعالى- أو يسخطه؟! هل هذا الكلام يراد به ما عند الله أو أنه تكلم رياء وسمعة أو لغير ذلك من المقاصد السيئة؟!

فكثير من الناس ليس لألسنتهم زمام، وكما قال الله : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور:15]، فكأن هذا لسرعة نقله كما سبق في قصة الإفك لسرعة نقله كأنه يقع مباشرة على الألسن، كأنه لا يمر بالأسماع، فأولئك الذين يلقون الكلام على عواهله، ولا يتفكر في الكلمة، ولا يزنها، قد تكون هذه الكلمة من قبيل القذف وهو لا يشعر، وبعض الناس يعرف عنه هذا أنه يطلق لسانه فينطلق هذا اللسان بكلام لربما أنه لا يقصد مضامينه، ولو طلب منه أن يقف عند كل ما قال، وبُين له ما تحت هذا المقال ما تحت هذه الألفاظ لربما لم يتفكر في هذا، ولم يمحص هذه الألفاظ التي يطلقها، فهذا أمر خطير، وقد يودي بآخرة العبد.

وهنا يقول: ما يتبين فيها يزل، يزل بمعنى يقع ويسقط -نسأل الله العافية- لكن هذا السقوط إلى أين إلى النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب هذا يدل على أن الكلمة التي قالها أنها يظن أنها سهلة ولكنها عند الله -تبارك وتعالى- ليست كذلك.

إذن الميزان ينبغي أن يكون بمثاقيل الذر عندنا قبل أن تلقى الله -تبارك وتعالى- فتوزن أقوالنا وأعمالنا بموازين الذر، ولهذا أخبر النبي ﷺ عن هذا المنافق الذي يرى الذنب كأنه ذباب جاء على وجهه قال به هكذا[2]، فهو لا يبال بذلك، ولا يتفكر، ولا ينظر، ولا يعتبر، ولربما لكثرة هذه المعافسات والذنوب والممارسات وإطلاق اللسان صار ذلك هينًا سهلاً عليه فخف عليه القول المحرم فصار في المجلس الواحد لو أحصيت عليه الكلام الكثير الذي يقوله فيما لا يرضي الله -تبارك وتعالى- لوجدت من ذلك أشياء وأشياء، ولهذا قال الله : أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، فهؤلاء لربما نسوه؛ لكثرته، نسوه لأنهم لا يبالون أصلا ما كانوا يتوقعون أن مثل هذه الأشياء تسجل عليهم.

فينبغي أن الإنسان إذا تكلم أن يستحضر دائمًا أنه كأنما يملي على الملك؛ لأن هذا الكلام يكتب ويرصد، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] فلا يفرط ولا يتساهل ثم بعد ذلك لما ينشر كتابه فيجد فيه ما يسوؤه.

 قال: وعنه عن النبي ﷺ قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم[3]، رواه البخاري.

إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً ما يلقي لها بالاً يعني ما يتفكر فيها ولا يتوقع آثارها ونتائجها ولا يكترث بها يرفعه الله بها درجات، هذه كلمة طيبة كلمة يحبها الله -تبارك وتعالى-، وفي مقابل ذلك، إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم، فهذا كسابقه يهوي بها في جهنم إلى أي مدى؟ كما بين المشرق والمغرب يفسره الحديث أو الرواية الأخرى.

ثم ذكر حديث أبي عبد الرحمن بلال بن الحارث المزني ، أن رسول الله ﷺ قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه[4]، رواه مالك في الموطأ، والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح".

فهنا: ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، وفي الحديث الذي قبله: ما يلقي لها بالاً، وفي الأول قال: ما يتبين فيها، هذا كله بمعنى واحد، أنه يقول الكلام من غير إمعان ولا تفكر، ولا نظر في مضامين هذا الكلام، وأبعاده وما يحتف به، وما يؤدي إليه فيطلق لسانه بهذا الكلام.

وحديث أبي عبد الرحمن بلال بن الحارث المزني ، قال ابن عبد البر -رحمه الله- عنه: "لا أعلم خلافًا في أن ذلك مما يقال عند السلطان"[5]، يعني: يتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، ينهاه عن ظلم، يأمره بالعدل، وما إلى ذلك-، وهكذا أيضًا: ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت مما يستعين به السلطان على ظلم الناس، أو أخذ الحقوق، أو مصادرة مال الناس بالباطل، وما إلى ذلك من الأمور مما يزينه له بعض الناس، ولربما يكون هذا الإنسان يتكلم بصفة عالم، أو يتكلم باعتبار أنه يبدي عن حكم شرعي، وما إلى ذلك فيزداد ذاك في ظلمه ويتكئ على مثل هذه المقالة التي سمعها من هذا المنتسب للعلم، هذا لربما يريد بذلك عرضًا من الدنيا، ولكن ذلك قد يذهب بآخرته، ولهذا جاء عن علقمة بن وقاص -رحمه الله-: أنه رأى رجلاً من أهل المدينة من أهل الوجاهة ممن له حظوة عند السلطان فذكر له هذا الحديث[6]، وحذره من مغبة ما يقول، فهذا يدخل فيه الكلام عند السلطان لخطورته؛ لأن ذلك يترتب عليه ما يترتب من كف عن الظلم، أو من تزيين للظلم، أو للباطل، والإمعان في ذلك.

وهكذا أيضًا يؤخذ من عمومه أن ذلك عند السلطان وعند غيره كما تدل عليه الأحاديث الأخرى.

فهذه الأحاديث الثلاثة هي في معنى واحد، فينبغي للإنسان أن يزن قوله، وأن يحاسب نفسه، وأن ينظر في الكلمة التي يتكلم بها سواء كان ذلك عن طريق المشافهة للآخرين، أو ما يكتبه لهم في رسالة جوال، أو بغير ذلك من الوسائط، أو كان ذلك عبر الهاتف والاتصال سواء كان يتكلم مع أهله، أو يتكلم مع أصحابه، أو يتكلم في مجلس مرح، أو كان يتكلم في مجلس عن السلطان، أو غير السلطان، فإذا كان العبد يضبط هذا اللسان فكما سبق في الحديث: من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة[7]، فهذا اللسان شأنه عظيم، وسيأتي من الأحاديث ما يبين هذا، والله تعالى أعلم.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6477)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، برقم (2988).
  2. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11846)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (5177)، وقال محققه حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".
  3. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6478).
  4. أخرجه مالك في الموطأ، برقم (3611)، تحقيق الأعظمي، والترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب في قلة الكلام، برقم (2319)، وأحمد في المسند، برقم (15852)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (2878).
  5. انظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (13/51).
  6. المصدر السابق.
  7. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6474).

مواد ذات صلة