الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
مقدمة الباب، حديث «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب بيان ما يجوز من الكذب.

لما ذكر المصنف -رحمه الله- في الباب الذي قبله: دلائل تحريم الكذب، ذكر هنا ما يستثنى من ذلك، كما فعل عند ذكر باب الغيبة، قال:

"اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرمًا، فيجوز في بعض الأحوال بشروط قد أوضحتها في كتاب: (الأذكار) ومختصر ذلك: أن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا كان الكذب مباحًا، وإن كان واجبًا، كان الكذب واجبًا"[1].

هنا قول المصنف -رحمه الله-: "كل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب" يعني: هذا الإطلاق فيه إشكال، والأقرب -والله أعلم- أن الكذب لا يجوز مطلقًا، إلا في الحالات التي ورد فيها الدليل، ورد فيها الاستثناء عن النبي ﷺ.

قال: "ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا كان الكذب مباحًا، وإن كان واجبًا، كان الكذب واجبًا.

ثم مثل لذلك بقوله: "فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله، وأخفى ماله، وسئل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه" يعني حفظًا لمال المسلم، وكذا حقنا لدم المسلم.

يقول: "وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها، وجب الكذب بإخفائها، والأحوط في هذا كله أن يوري، ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودًا صحيحًا، ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبًا في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب، ولو ترك التورية، وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرام في هذا الحال".

على كل حال الحالات التي سترد في الحديث يستثنى فيها الكذب، يجوز في هذه الحالات يكون فيها مباحًا، وما عدا ذلك، فإنه يعمد إلى التورية، فالتورية فيها مندوحة، والمعاريض فيها مندوحة عن الكذب.

وحقيقة التورية والمعاريض: أن يذكر لفظًا يحتمل معنيين، أو معانٍ متعددة، فهو يقصد معنى، والسامع يفهم معنى آخر، فهما كأن يقول مثلاً لو أنه سئل: هل عندك مال فلان؟ فيقول: ليس بيدي، ويشير إلى يده، أو يقول: هل فلان ها هنا؟ فيقول: فلان ليس ها هنا، ويشير بيده، ليس بيدي، هل رأيت فلانًا؟ فيقول: ما رأيته، يعني ما ضربته على رئته، وما أشبه ذلك من العبارات التي تحتمل معنيين، لكنه لا يكذب، ولو كذب في مثل هذه الحال التي يكون فيها حقن الدم، أو رد الظلم، فهذا لا إشكال فيه، لكن ليس كل مقصود صحيح يريد أن يتوصل إليه يعني كذب للمصلحة، يقال: إن ذلك يجوز، لا، ليس بهذا الإطلاق، لكن في مثل هذا في رد الظلم، في أموال الناس، وعن نفوسهم ودمائهم، وما أشبه هذا، يجوز فيه الكذب، لكن لا يطلق، فيقال: يجوز في كل المقاصد الصحيحة، وإنما يكون ذلك بالمعاريض، لكن لا يكثر، بحيث لا يعرف للإنسان جادة، فيتكلم بالمعاريض، فيكون عند ذلك عند الناس كذابًا، لا يصدقونه ويفهمون أنه يعرض في كل شيء.

قال: "واستدل العلماء بجواز الكذب في هذا الحال بحديث أم كلثوم -رضي الله عنها-" وهي بنت عقبة بن أبي معيط، وهي التي نزلت فيها الآيات من سورة الممتحنة، آيات الامتحان، وهي أخت لعثمان لأمه.

قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا أو يقول خيرًا[2]، متفق عليه.

ينمي خيرًا يعين يوصل خيرًا ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فهذه حالة من الحالات التي يجوز فيها الكذب، وهي الإصلاح بين الناس، بمعنى: بين الناس قتال أو شر او خصومة أو نزاع أو نحو هذا كعداوة، فيأتي إلى هذا فيقول: فلان يذكرك بخير، وفلان يثني عليك، وفلان كذا، ويأتي للآخر، ويقول: سمعت فلانًا يثني عليك، ويذكرك بما أنت أهله من الخير، والمعروف، وما إلى ذلك، وليس بصحيح، ولكنه يقول مثل هذا لتقريب القلوب، وتطييب النفوس، فمثل هذا جائز بنص هذا الحديث.

زاد مسلم في رواية: قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث، تعني: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها[3].

فقولها: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس" هذا يدل على أنه لا يطلق القول بأن الكذب يجوز للتوصل إلى مصلحة معتبرة، إنما يكون في هذه الثلاث: الحرب؛ لأن الحرب خدعة، فهذا يجوز، والإصلاح بين الناس، وقد مضى وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها، يعني فيما يجلب المودة، ويجمع القلوب، ويزيد الوفاق والمحبة والقرب بين الزوجين، لا فيما عدا ذلك، يعني لا يأخذ مالها مثلاً، ثم يقول: ما رأيته، أو أنه مثلاً يكذب عليها كأن يقول: مات أبوك، ثم يقول: أمزح، فهذا لا يجوز، وهكذا في غير ذلك من الكذب الذي لا يكون لهذه الغاية، يعني: لا يكون مما يصل به إلى تأليف القلب، وتقريب القلوب، والمحبة بين الزوجين، فهذا لا إشكال فيه، كأن يقول له مثلاً: بأنه يحبها، وقد لا يكون كذلك، والمرأة تقول لزوجها: بأنها تحبه، وقد لا تكون كذلك؛ لأن هذه الأمور لا يد للإنسان فيها، يعني قد يكون الإنسان لا يحب، لكن العشرة لا تُبنى على المحبة، والكلمة الطيبة صدقة.

ومن الناس من يمتحن الآخرين على هذا، يعني المرأة قد تمتحن الزوج كثيرًا: هل تحبني؟ وبعض الرجال أيضًا قد يتحول إلى مثل هذه الحال، فيكرر عليها هذا السؤال في اليوم والليلة مرات كثيرة، فلا بأس أن تقول: نعم أحبك كثيرًا، وهي ليست كذلك، فهذا لا إشكال فيه، وهكذا حينما تصنع له طعامًا، أو نحو ذلك، فتقول: هل أعجبك؟ أو تتزين له، وتتصنع بلباس أو زينة، أو نحو ذلك، فتقول: هل أعجبك؟ فيقول: هذا جميل، فيقول لها نحو هذا، مما يحصل تأليف القلوب، لا أنه يفاجئها، أو يصدمها بكلام لا يليق، أو نحو ذلك، مما يدل على جفاف المشاعر، والله تعالى أعلم.

والشريعة جاءت بكل معروف وخير، وعلى كل حال ينبغي أن يكون الزوج يراعي مشاعر الزوجة، والمرأة تراعي مشاعر الزوج، لكنه لا يخرج عن هذا الحد، فيتوسع ويكذب في كل شيء.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص: 377-378).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس برقم (2692) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه برقم (2605).
  3. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه برقم (101).

مواد ذات صلة