الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان..» إلى «لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب تحريم لعن إنسان بعينه أو دابة" أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذي[1]، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

ليس المؤمن بالطعان طعان كثير الطعن، ويحتمل: أن يكون المراد بذلك أنه يطعن في الأنساب، كما أخبر النبي ﷺ أن ذلك من خصال الجاهلية التي لا تتركها أمته من بعده.

ويحتمل: أن يكون يطعن في أعراض الناس، ويقع فيهم تارة بالقذف، وتارة بألوان البهتان، وما أشبه ذلك، فهذا كله من الطعن، تقول: فلان يطعن في أعراض المسلمين، ويطعن في عرض فلان، إذا قدفه، أو رماه بفرية، ونحو ذلك.

ويدخل فيه الطعن بالأنساب دخولاً أوليًا ليس المؤمن بالطعان فإذا ذكر عنده فلان، قال: فلان فيه كذا، وفلان ما فيه خير، أو فلان أصله من كذا، ويرجع إلى كذا، وفي نسبه كذا، لا يصح انتسابه إلى كذا، ويتكلم  في هؤلاء الناس، ويطعن في أنسابهم، والناس مؤتمنون على أنسابهم، فيأتي هذا ويتكلم، ويقول: ليس بصحيح، هذا لا يثبت نسبه إلى القبيلة الفلانية، وإنما هو دعي فيها، أو هذا ليس له نسب، ولا يعرف له كذا، فهذا ليس من شأن المؤمن، فالمؤمن يحفظ لسانه، ويأتي الناس ما يحب أن يؤتى إليه، فكما أنه لا يحب أن يتعرضه الناس، أو أحد من الناس في عرضه، ويطعنون في نسبه، وما إلى ذلك، فكذلك ينبغي أيضًا أن يضع الآخرين هذا الموضع.

قال: ولا اللعان وهذا هو الشاهد، وقد مضى الكلام على هذا، يعني: كثير اللعن، وظاهره الإطلاق، بمعنى: أنه لعان، سواء كان لمن يستحق اللعن، أو لمن لا يستحق اللعن، بمعنى: أنه مضى الكلام على لعن المعين عند من يقول: بجواز لعن المعين المستحق مثلاً، هل يكون المؤمن لعانًا؟

الإمام أحمد -رحمه الله- سأله ابنه عبد الله أتحب يزيدًا؟ -يعني: يزيد بن معاوية- قال: وهل يحبه مؤمن؟ فقال: أفلا تلعنه؟ فقال: وهل رأيت أباك لعانًا[2]، ويدخل في ذلك لعن غير الناس، أما لعن من لا يستحق اللعن، فهذا ظاهر، وقد مضى أن لعن المؤمن كقتله، ولكن لعن الدابة، كما سيأتي، ولعن السيارة، ولعن الأشياء التي من الآلات، ونحوها، مما يستعمله الناس، كل هذا داخل فيه، فبعض الناس إذا ضجر من آلة، أو دابة، أو سيارة، أو جهاز، أو نحو ذلك، صار يلعن هذا الجهاز، ويلعن من صنعه، ومن ورده، ومن... إلخ، فهذا لا يجوز.

ولا الفاحش الفاحش: هو الذي يقول الفحش من القول، وأصل هذه المادة (فَحُشَ) تدل على الكثرة، وعظم الشيء، فيكون الفحش فيما يقال، مما لا يليق أن يقال، مما يتصل بالكلام القبيح، ويدخل فيه أيضًا ما فحش مما يتعلق بالفواحش، وما إلى ذلك، كأن يتكلم فيما يدل عليها، أو ما يتعلق بالمعاشرة، أو نحو ذلك بكلام فج صريح، فهذا فاحش من الناس، أو كان ذلك عن طريق السباب والشتام، وما إلى هذا، فهو لا يستحي، ولا يرعوي.

وكذلك أيضًا ولا البذيء بذيء اللسان، كإنسان يتأذى الناس منه، إذا تكلم لا يحتشم، ولا يحفظ لسانه، ويتكلم بعبارات يستحي العقلاء أن يتفوهوا بها، سواء كان ذلك مما يتصل بالفواحش وبعض الممارسات الفاحشة، وما إلى ذلك، أو كان ذلك في غيره، مما يستحي العاقل أن يتفوه به، فهذا الإنسان البذيء لسانه ينطلق في مثل هذه الأمور، ويتكلم بها على سبيل التصريح، لا التلميح، ومن الأدب -كما هو الأدب في القرآن والأدب في سنة النبي ﷺ أن يُكنى عن مثل هذه الأشياء، كقوله: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِه [الأعراف:189] إذا التقى الختانان[3]، إلى آخر ذلك من العبارات المعروفة المهذبة اللطيفة، التي لا يعرق الجبين عند نطقها، أما هذا الإنسان الفاحش والبذيء فهو بذيء في سبابه وشتائمه، وبذيء في وصفه وتعبيره، وفي مخاصماته، وفي كلامه مع الناس، وفي مزاحه، فيمزح ويجرح جروحًا غائرة بسبب هذه الكلمات الصعبة التي يطلقها.

ثم ذكر حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: إن العبد إذا لعن شيئًا فقوله: إذا لعن شيئًا ظاهره أنه لعن أي شيء، سواء كان لعن دابة، أو لعن إنسانًا، صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها الله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] وهذا اللعن ليس من الكلم الطيب ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها يعني: لا تستطيع الدخول فيها، لا الدخول في السماوات، ولا الدخول في الأرض حينما تهبط، ثم تأخذ يمينًا وشمالاً تبحث عن مكان تتجه إليه فإذا لم تجد مساغًا يعني: طريقًا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلاً يعني: وقعت عليه وإلا رجعت إلى قائلها[4]، رواه أبو داود، والحديث صحيح.

وفي حديث آخر يشبه هذا عن ابن مسعود -، وهو أيضًا حديث حسن الإسناد أو حسن لغيره، أن اللعنة تقول لله : يا رب وجهت إلى فلان فلم أجد عليه سبيلاً، ولم أجد فيه مسلكًا، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت[5]، أو كما قال النبي ﷺ.

فقوله: ارجعي من حيث جئت يعني: ارجعي إلى الذي تفوه بك، وأطلقك، وتكلم باللعن، فترجع عليه، وهو بمعنى هذا الحديث.

فإذا كان الأمر كذلك وهو أن اللعنة تغلق دونها أبواب السماء والأرض، فهي إما أن تقع على هذا الذي وجهت إليه، وإما أن ترجع إلى هذا الذي قالها، فما بال هذا الإنسان الذي يطلق اللعن، وهو لا يدري، هل وقع ذلك على محل قابل، أو على محل غير قابل، فيكون قد لعن نفسه، ونزلت اللعنة عليه، والعبد في غنى عن مثل هذا.

ثم ذكر حديث عمران بن الحصين قال: بينما رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت فلعنتها" يعني: المرأة تسوق الناقة، والناقة غير منقادة، فضجرت المرأة منها، فلعنتها.

"فسمع ذلك رسول الله ﷺ فقال: خذوا ما عليها، ودعوها يعني: من الرحل والمتاع فإنها ملعونة قال عمران: "فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد"[6]، يعني: الناقة، رواه مسلم.

هنا قال: خذوا ما عليها، ودعوها ظاهره أنه لا ينتفع بها بوجه من الوجوه، لا بأكل، ولا ببيع، ولا بركوب، ولا بحمل.

قال: دعوها وهذا على سبيل الإطلاق، والأصل: أن المطلق يحمل على إطلاقه، وأن حذف المقتضى يحمل على أعم معانيه، فلم يقل: دعوا بيعها، أو دعوا اصطحابها، أو دعوا أكلها، أو نحرها، بل قال: دعوها إذًا لا ينتفع بها بوجه من الوجوه، لكنه جاء في حديث آخر، وهو الحديث الذي بعده عند مسلم أيضًا، وهو حديث أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي قال: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم؛ إذ بصرت بالنبي ﷺ، وتضايق بهم الجبل" يمشون في مضيق "فقالت: حل" حل هذه كلمة تقال للإبل؛ لحثها وزجرها، يقال: حل، كما يقال لكل الدواب عبارات جرت العادة أنها تطلق لزجرها، أو نحو ذلك، كما يقال: للبغل عدس، يعني: لزجره وسوقه، ونحو ذلك، ويقال للحمار عبارات معروفة أيضًا، وهكذا.

قال: "فقالت: حل، اللهم العنها، فقال النبي ﷺ: لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة[7]، رواه مسلم.

فهنا: لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة فهذا الحديث فيه المنع من مصاحبة الناقة للنبي ﷺ في هذه القافلة أو في هذا المسير، أو نحو ذلك، فهذا الحديث يفهم منه أنه يمكن أنها تنحر وتؤكل، وممكن أنها تباع، وممكن أنها تصرف بطريق آخر، فتذهب عليها صاحبتها، أو تستأجر، أو يذهب أحد إلى مكان، أو من طريق آخر، المهم أنها لا تصحب هؤلاء في مسيرهم، لا تصاحب النبي ﷺ، وليس فيها المنع من الانتفاع بها بوجه من الوجوه، فهل يحمل ذاك على هذا؟ فيحمل المطلق على المقيد فيقال مثلاً النبي ﷺ قال: خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة لماذا قال لهم: دعوها يعني: من أجل ألا تصحبه ناقة ملعونة فيحتمل هذا، وبعض أهل العلم يفهم هذا، ويحمل المطلق على المقيد، ويقول: إنما المنع فقط من مصاحبتها لهم في مسيرهم، يعني: النبي ﷺ، وأن ذلك خاص به، لكن لغيره هل يقال: يحرم أن تصحبهم ناقة ملعونة، أو سيارة ملعونة، أو شيء من هذا القبيل كآلة أو جهاز، أو شاة، أو نحو هذا؟

لو أن أحدًا لعن شاة، كناس خرجوا للبرية، أو سوق الغنم، يريد أن يشتري دابة، وسمع الراعي يلعن هذه البهيمة، هل له أن يشتريها أو لا؟ وهل يجوز أكلها حينما توجه لها اللعنة؟

مقتضى كلام من قال من أهل العلم: بأن المطلق يحمل على المقيد، وأن المقصود اصطحاب النبي ﷺ في هذا السفر، أو نحو ذلك، يقولون: لا بأس، وأن هذا لا يحرم، لكن يدل على تحريم لعن الدواب، هذا هو الشاهد، فلا يجوز أن توجه اللعنة لهذه الدواب، وكذلك الآلات من المراكب وغيرها، كالأجهزة، والأثاث، وما شابه ذلك، فكل ذلك لا يجوز أن يلعن.

يقول النووي -رحمه الله- ختامًا لهذا الباب:

"واعلم أن هذا الحديث قد يستشكل معناه، ولا إشكال فيه، بل المراد النهي أن تصاحبهم تلك الناقة، وليس فيه نهي عن بيعها، وذبحها، وركوبها في غير صحبة النبي ﷺ، بل كل ذلك وما سواه من التصرفات جائز، لا منع منه، إلا من مصاحبته ﷺ بها؛ لأن هذه التصرفات كلها كانت جائزة، فمنع بعض منها، فبقي الباقي على ما كان، والله أعلم"[8].

يعني: جاز ركوبها... إلخ.

فقال في هذا الحديث الثاني حديث أبي برزة: لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة لكن الأول مطلق، ولو قال قائل: بأن ذاك لا يحمل على هذا؛ لأنه نهاهم في ذاك المقام، وهذا في مقام آخر إذا كانت في واقعتين، فمقتضى ذلك أنهم في ذلك المقام لا ينتفعون بها، وهنا ذكر لهم قضية المصاحبة، ولكن مقتضى الصناعة الأصولية -والله تعالى أعلم- أن قول النبي ﷺ في مقام يكفي عن سائر المقامات، وأن كلام النبي ﷺ المتفرق كالكلام المتحد، يضم بعضه إلى بعض، ويؤلف بعضه مع بعض، بحيث يحمل مطلقه على مقيده، وعامه على خاصه، وما أشبه ذلك، هذا بالإضافة إلى أن الواقعة قد تكون واحدة أصلاً، يعني: هذا المرأة وهذه الجارية التي لعنت هذه الناقة، قد تكون هي نفس الواقعة، لكن هنا عبر عنها بأنها جارية، وعليها المتاع، وهنا "امرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت، فلعنتها" قد تكون واقعة واحدة، وأن النبي ﷺ قال: لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة لاحظ هل يظن مثلاً أنه تكرر هذا في واقعتين لامرأتين كلتاهما لعنت؟ مع أن هذا قد يبلغهم في الغالب؛ لأن هذا فيه ترك لهذه الناقة، والنوق هي من أفضل وأجل المال عندهم، فيتكرر مثل هذا، هذا ممكن أنه يتكرر، لكن قد يكون في الغالب -والله أعلم- أنها واقعة واحدة، عبّر عنها بمثل هذه العبارات، فيكون النبي ﷺ قال: لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة فنهى عن المصاحبة، والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب البر والصلة باب ما جاء في اللعنة برقم (1977) وصححه الألباني.
  2. غذاء الألباب شرح منظومة الآداب - العلمية (1/95).
  3. أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان برقم (608) وصححه الألباني.
  4. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في اللعن برقم (4905) وحسنه الألباني.
  5. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (3876) وقال محققو المسند: "إسناده محتمل للتحسين".
  6. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها برقم (2595).
  7. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها برقم (2596).
  8. رياض الصالحين - الفحل (2/218).

مواد ذات صلة