الثلاثاء 22 / جمادى الآخرة / 1446 - 24 / ديسمبر 2024
الحديث عن آيات الباب، حديث «سباب المسلم فسوق..»، «لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا "باب تحريم سب المؤمن بغير حق".

قال: قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].

قوله -رحمه الله- أعني المصنف في هذا الباب "باب تحريم سب المسلم بغير حق" السب يقال: للشتم، ويقال: لكل ما يضاف إلى العرض من قبيح في القول والوصف، فذلك يقال له سب، سواء كان ذلك باللعن، أو بغيره.

وقوله هنا: "تحريم سب المسلم بغير حق" لا شك أنَّ سب المسلم محرم إذا كان بغير حق، لكن هذا القيد ما المراد به؟ هل يمكن أنَّ يسب المسلم بحق؟ الجواب: نعم، فمن ذلك أن يكون ذلك على سبيل المقاصة، رجل سب رجلاً فسبه جوابًا على ما قال، سبه بالمثل، فهذا جواب لسبه، فيكون ذلك من باب القصاص وهو جائز، والترفع عنه أكمل وأفضل، ومن صور أيضًا السب الجائز أو المباح، أو نحو ذلك: ما كان على سبيل التعزير، كما يفعله الرجل ممن يؤدبه ممن تحت يده من مملوك، أو خادم، أو ولد، أو لربما يكون الحاكم، أو القاضي حينما يعزر أحدًا من الناس، فيغلظ عليه القول، وليس بالضرورة أن يكون السب هو القذف بالعرض بما يوجب الحد، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، إلا إذا كان ذلك على سبيل الشهادة عليه بالفاحشة بشروطها، لكن لو قال له مثلاً للبعيد: يا كذا، أو يا بليد، أو يا جاهل، من باب التعزير والإغلاظ عليه، ونحو ذلك إذا كان يستحق، فهذا لا إشكال فيه لمن يملك ذلك، لمن تحت يده يعزره يؤدبه بهذا، أما الإنسان يجلس مع الآخرين إذا وقف عند الإشارة فتح النافذة، وبدأ يوجه لهم الكلام القبيح، فهذا فعل من لا خلاق له، ولا يصلح، لكن أقول: حينما يقال كلام فيه شيء من الشدة أو القسوة على من يؤدبه، ما لم يكن قذفًا، أو يوجب حدًا، فهذا لا إشكال فيه من الناحية الشرعية إذا كان بحق على سبيل التأديب، أو على سبيل المقاصة، وتركه أفضل وأولى وأكمل، فحينما يقال: يجوزـ فليس معنى ذلك أن هذا هو الكمال الذي يُطلب من الإنسان أن يرتقي إليه، الكلام على الحلال والحرام، متى يكون يحق؟ ومتى يكون بغير حق؟

وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الأحزاب:58] هذا القيد الأذى هنا أعم من السب؛ لأن السب إنما يكون باللسان، وأما الأذى فيكون باللسان وغيره، مثل ماذا بغير اللسان؟ أو باليد أو بالضرب ويكون أحيانًا بالنظر مما يحصل به أذى بذلك النظر أيًا كان نوعه، وأحيانًا يكون مثل هذا بالإشارة، وقد يكون ذلك أيضًا بما يصدر منه من أنواع التصرفات، كالذي يؤذيهم مثلاً بالأصوات المزعجة في ليلهم ونهارهم، من غير موجب، أو يكون هذا الإنسان يؤذيهم بأولاده، يؤذي جيرانه، ويؤذي الناس حوله، أو كان يؤذي الناس بصوت سيارته مثلاً الذي قصد أن يكون بهذه المثابة من الإزعاج، أو يكون في قوت نوم الناس، أو نحو هذا، فهو ينتظر واحد تأخر عليه، أو ينتظر زوجته تخرج، وهو يستعمل المنبه، ويزعج حيًا كاملاً من أجل إنسان واحد؛ ليخرج إليه لئلا ينزل، فيطرق عليه الباب، أو يتصل عليه حتى يخرج، فمثل هذا أذية للناس، ومثل الذي يخرج من بيته أشياء مثلاً كالماء أو نحو هذا، فيؤذي الجيران، وما شابه ذلك.

فقال هنا: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الأحزاب:58] دل هذا القيد بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا على أنّ أذى المؤمنين والمؤمنات قد يكون بسبب جنايتهم وجرمهم، فيكون ذلك على سبيل الاقتصاص منهم، وعلى سبيل الرد، لكن هذا الرد ينبغي أن يكون منضبطًا، بحيث لا يعلو ويزيد على المظلمة، فيكون ظالمًا، هذا الظلم قد يكون بسب أعظم، أو أكثر، أو بأوصاف أقبح، أو يكون بغير ذلك، كالدعاء مثلاً، كما قال شيخ الإسلام: بأن المظلوم قد يدعو على ظالمه بأعظم مما ظلمه[1]، المظلمة يسيرة والدعاء مثل الجبال، فمثل هذا يكون من قبيل الظلم.

وهكذا قد يكون الأذى برسائل الجوال، ومن أعظم هذا الأذى التعرض لأعراض المسلمين، يرسل لهم الأشياء التي تفتنهم من صور ومقاطع سيئة يرسل للنساء، أو يتصل عليها ليفتنها، أو نحو هذا، أو يرسل لها كلامًا قبيحًا، فكل هذا من الأذى، أو يرسل للآخرين رسائل فيها غمز ولمز وهمز، ويؤذيهم بما يكتبه، ويوجهه لهم، فهذا كله لا يجوز بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا لكن إذا كان بسبب جنايتهم، ولم يظلم بالاقتصاص منهم، فإن ذلك يكون بما اكتسبوا.

قال: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58] بهتان؛ لأنه وجه إليهم شيئًا لا يستحقونه، وإثم من جراء هذا البهتان، بيّن وواضح.

وفي الآية التي ذكر الله فيها أذى الله، وأذى الرسول ﷺ لم يقيدها بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا لاحظ هنا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا لكن في أذى الله وأذى النبي ﷺ ماذا قال؟ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب:57] ولم يقل هنا: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أو بغير حق، أو نحو ذلك؛ لأنه لا يمكن أن أحدًا من الناس يؤذي الله -تبارك وتعالى-، أو يؤذي رسوله ﷺ بحق، فكل من وجه الأذى إلى الله، أو إلى النبي ﷺ فهو بغير حق، ولا يحتاج إلى  مثل هذا القيد، لكنه ذكر في أهل الإيمان؛ لأنه قد يصدر منهم ما يوجب ذلك.

أما أذى الله وأذى النبي ﷺ فاللعن مباشرة بلا قيد، وعرفنا أن اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله -تبارك وتعالى-، فمن تعرّض إلى سب الله، أو سب الرسول ﷺ، أو ما يكون من هذا القبيل من أذى الله وأذى النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو معرّض نفسه للعنة الله ، والعذاب الأليم، الذي قد يقع به في الدنيا قبل الآخرة، هذا فضلاً عن أن ذلك الذي يسب الله، أو يسب النبي ﷺ يكون بذلك قد جاء بناقض من نواقض الإسلام، ومثل هذا يستحق العقوبة في الدنيا في سب النبي ﷺ بالقتل، ولا تنفعه توبة في الدنيا، وما يتعلق بالله إن لم يتب فإنه يقتل؛ لأن حق النبي ﷺ حق يتعلق به، وقد مات، فلا نستطيع أن نقول: عفا النبي ﷺ عن حقه، أما حق الله -تبارك وتعالى- فالله يتولاه، وهذا هو الفرق، فمن سب الله -تبارك وتعالى-، ثم تاب فإنه يترك، ومن سب النبي ﷺ، وقال: بأنه قد تاب نقل توبته إن كانت صادقة مستوفية للشروط فقد تنفعه عند الله ، أما في الدنيا فيجب إقامة حكم الله فيه وهو القتل، واليوم أصبح بعض من لا خلاق له لربما يجترئ على مثل هذا ليذكر أو ليعرف، أو لغير ذلك من الأغراض الفاسدة التي كل غرض منها أفسد من الآخر، وفعله أفسد من ذلك جميعًا، نسأل الله العافية.

ثم ذكر حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[2] متفق عليه.

سباب المسلم فسوق الفسوق هو الخروج عن الطاعة.

وقتاله كفر القتال أعظم من سبابه، وقد جاء في بعض الروايات ولعن المؤمن كقتله[3] فدل هذا والذي قبله على تحريم سب المسلم، لكن الآية تدل على تحريم جميع أنواع الأذى التي منه السب، وهذا الحديث يدل دلالة صريحة نصية على أن سباب المسلم يكون فسوقًا؛ وذلك لا يكون إلا بارتكاب المحظور، وارتكاب الفعل المحرم، وهذه الأمور تجرى فيها الأحكام التعزيرية، يعني: لو أن أحدًا قال للبعيد مثلاً: يا بهيمة، يا كذا، يا كذا من العبارات التي يقولها بعض الناس، ثم أشهد عليه اثنين، فشهدوا على هذا، فإنه في هذه الحال يعزر بما يراه القاضي يردع مثله، بالجلد أمام الناس، أو في مكان خاص، أو في المحكمة، أو غير ذلك، ولو قال له: يا كذا؛ لماذا؟ لأن كرامة المسلم محفوظة، لكن بعض الناس لا يحسنون الدعوى في مثل هذه الأمور، وهكذا ما يقع لرجال الحسبة أحيانًا من سب، ويجترئ عليهم بعض من لا خلاق له، فيذهبون جميعًا على أنهم أصحاب دعوى، فيضيع الشهود، فيذهب ثلاثة، أو أربعة، فيقولون: كنا في نفس الموقف، وهذا توجه بالسب والشتم... إلخ، طيب أين الشهود؟ ما في شهود، فتضيع القضية، لكن لو أن واحدًا منهم صار هو المدعي، وصار اثنان من الشهود، وقالوا: نحن الشهود، فإن مثل هذا يُؤدب، ويقف عند حده، ويعزر، ويعاقب بالعقوبة التي تليق بأمثاله.

سباب المسلم فسوق هذا إذا كان سباب المسلم، فكيف بسب الله أو سب النبي ﷺ؟ ماذا يكون ذلك؟ يكون كفرًا، وزندقة، ومحادة لله -تبارك وتعالى-، ولرسوله ﷺ، الذي يستهزئ به، ويستهزئ بالنبي ﷺ، ويقول: بأنه ند له، فمثل هذا فعله أعظم من مجرد الفسوق، ويجب على من بسط الله يده أن يأخذ على يد هؤلاء السفهاء، ونحن نقلّب في ألوان البلاء في مثل هذه الأوقات والأزمان، وهذا واحد من أسبابها، اجتراء هؤلاء المفسدين على الدين، وعلى خيار الأمة من النبي ﷺ وأصحابه، وعلماء الأمة، وفضلائها، وأئمة الهدى عبر القرون، يجترئ عليهم الرويبضة الذي لا خلاق له، وما منْع القطر، وكثرة الغبار، وكثرة البلاء والغلاء والشرور، والنذر الكثيرة المتنوعة التي تنذر بشرور مستطيرة من حروب، وما إلى ذلك إلا بسبب ذنوبنا وتقصيرنا، وهؤلاء لا يضرون أنفسهم فحسب، بل إن هذا البلاء إذا أعلن، والشر إذا أذيع، وقيل جهارًا، وكتب في وسائل يتناقلها ويتناولها الناس، ويطلع عليها العدو والصديق، فإن ذلك ينذر بعقوبات عامة، والجدب الذي أصاب، وينزل المطر، ثم لا تخرج الأرض النبات، ما هذا الذي يحصل؟ إلا بسبب هذه الذنوب والجرائم والمعاصي، ومنع الزكاة، وأكل الربا، واجتراء السفهاء، وما أشبه ذلك من ألوان الشرور والمظالم بين العباد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم ذكر حديث أبي ذر أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك[4]، رواه البخاري.

بالفسق أو بالكفر إلا ارتدت عليه لو قال له: يا فاسق، أو قال له: يا كافر، فإن لم يكن كذلك، فإنها ترجع إلى هذا، وهكذا لو أنه رماه بالبدعة والضلالة، وما أشبه ذلك، وقال: يا زنديق، يا مبتدع، يا ضال، أو نحو ذلك من العبارات، فإن لم يكن كذلك، فإنها ترجع إلى القائل؛ ولهذا ينبغي أن يحذر الإنسان الذي يطلق لسانه في الناس، لا سيما في الأخيار والصالحين من الأمة، فيقع في عرض هذا، ويشتم هذا، ويتكلم في هذا، ويؤذي هذا، ويحكم على هذا بالبدعة، وهذا بالفسق، وهذا بالضلالة، وهذا بالزندقة، ونحو ذلك، يخشى أن يرجع ذلك عليه، فإن أخطأه بعض هذا أصابه بعض، والله المستعان.

وعلى كل حال لعلي أكتفي بهذا هذا اليوم، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/111).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر برقم (48) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم برقم (64).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال برقم (6105) ومسلم في كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة برقم (110).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب ما ينهى من السباب واللعن برقم (6045).

مواد ذات صلة