إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: في هذه الليلة -أيُّها الأحبّة- نتحدَّث عن ذكرٍ من الأذكار المتعلِّقة بالأذان، وذلك كما أورد المؤلفُ أنَّه يقول: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة، والصَّلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه[1]، هنا وضع بين معقوفين زيادة: إنَّك لا تُخلف الميعاد[2].
فهذا الذكر والدُّعاء جاء من حديث جابر بن عبدالله -رضي الله تعالى عنه-، وهو مُخرَّجٌ في الصَّحيح: مَن قال حين يسمع النِّداء: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة، إلى قوله: وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه؛ حلَّت له شفاعتي يوم القيامة.
وأمَّا هذه الزيادة: إنَّك لا تُخلف الميعاد فهي ليست في الصَّحيح، والعلماء منهم مَن قبلها وحكم عليها بالصحّة أو الحُسْن، ومنهم مَن ردَّها وضعَّفها.
فممن قبلها الحافظُ ابن القيم؛ حيث حكم عليها بالصحة[3]، وكذلك أيضًا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، فقد قال: إسنادها حسن[4]. وقال مرةً: إسنادها صحيح[5]. وقال مرةً: إسنادها جيد[6]. وكذلك أيضًا الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحمه الله-[7].
وممن ضعَّفها الشيخُ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، حيث حكم عليها بالشُّذوذ[8]، وهي من حديث عبدالله بن مسعود ، قالوا: تفرَّد بها محمد بن عوف الطَّائي، ولم يروها غيرُه، ويكون ذلك من قبيل الشَّاذ. هكذا قالوا، والآخرون قبلوها وعدُّوا ذلك من الزِّيادات الصَّحيحة.
وأمَّا ما يتَّصل بالمعنى: فإنَّ بعض مَن ردَّها قالوا: إنَّ هذا المعنى لا يحسُن ولا يجمُل أن يُخاطَب الله -تبارك وتعالى- به، فيُقال: "إنَّك لا تُخلف الميعاد".
وهذا غير صحيحٍ؛ لأنَّه قد جاء في القرآن مما علّمنا الله -تبارك وتعالى- من دعاء أهل الإيمان، كما في سورة آل عمران، وفيه: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:194]، فهذا الدُّعاء لا شيء فيه من جهة المعنى، بل هو صحيحٌ، ويشهد له القرآن.
وقوله ﷺ في هذا الحديث: مَن قال حين يسمع النِّداء هذا يحتمل أنَّه يقول ذلك بمجرد السَّماع، حينما يطرُق سمعه نداء المؤذّن، حينما يصل إلى مسامعه صوتُ المؤذّن، حينما يصدح بالأذان: مَن قال حين يسمع، فهذا احتمالٌ: أن يكون ذلك قبل فراغ المؤذّن.
ويحتمل أن يكون ذلك بعد فراغ المؤذّن من الأذان، وهذا الذي يدل عليه ما سبق من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، وذلك أنَّ النبي ﷺ أمرنا أو أرشدنا بأن نسأل له الوسيلة بعد إجابة المؤذّن والصَّلاة على النبي ﷺ، ففي هذا دليلٌ على أنَّ ذلك يُراد به حينما يسمع الأذانَ بكامله، فيُردّد معه، ثم بعد ذلك يُصلِّي على النبي ﷺ.
وهذا هو المناسب أيضًا من جهة المعنى؛ وذلك أنَّ هذا من قبيل الدُّعاء، والمسنون أن يُقدّم بين يدي الدُّعاء الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، وكذلك يُصلِّي على النبي ﷺ.
ويكون بناءً على ذلك مَن قال حين يسمع النِّداء يعني: حين يسمع النِّداء كاملاً، يعني: بعد فراغه من سماع النِّداء؛ والنِّداء هنا يسمع النِّداء يحتمل أن يُقصَد به الكامل في معناه، فإنَّ النِّداء تنتظم جُمَلُه من أوَّلها إلى آخرها، من قوله: "الله أكبر" إلى آخر ما يقوله المؤذّن: "لا إله إلا الله"، فيكون قد سمع النِّداء؛ لأنَّ ذلك جميعًا هو الذي يُقال له: النِّداء. والقاعدة: أنَّ الـمُطلق محمولٌ على الكامل "النِّداء"، فيُقال للنِّداء بأكمله بصيغته التَّامة الكاملة، وبجُمله المعروفة.
وحينما يقول: "اللهم"، هذا مضى الكلامُ عليه في عددٍ من المناسبات، لا سيّما في دروس التَّفسير: أنَّ معنى "اللهم": يا الله، فلمَّا حُذفت ياء النِّداء قامت الميم مقامها؛ ولذلك لا يُجْمَع بين الياء والميم، ما يُقال: يا الله هم، وإنما يُقال: يا الله، أو اللهم، لكن ذلك يُراد به النِّداء على كل حالٍ.
اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة نحن عرفنا معنى "الرب"، وإطلاقات "الرب" في بعض هذه المجالس، وفي غيرها، لا سيّما في الأسماء الحسنى، والمعاني التي يرد لها، لكن هنا: ربّ هذه الدَّعوة التَّامة يُحْمَل على صاحب هذه الدَّعوة التَّامة، هو الذي شرعها، وهو الذي علَّمها عباده، وهو الذي أمر بها، وهو الذي يجزي عليها، فيكون "الربُّ" هنا بمعنى الصَّاحب، ونحو ذلك، كما جاء عن جدِّ النبي ﷺ عبدالـمُطلب لما جاء أبرهةُ إلى مكَّة ليهدم الكعبة، فجاءه عبدالمطلب يطلب إبلاً له أخذها جندُ أبرهة، فلمَّا سأله أبرهةُ عن هذا الطَّلب، وكيف لا يذكر الكعبة وهدمها؟ فقال: "أنا ربّ الإبل، وللبيت ربٌّ يحميه"[9]، يعني: أنا صاحب الإبل، أنا مالكها، فإنَّ معاني "الربّ": السيد، والمالك.
ربَّ هذه الدَّعوة الدَّعوة تُقال لم دُعِيتَ إليه، تقول: أنا ذاهبٌ إلى دعوةٍ. ما دُعِيتَ إليه، فهذه الصَّلاة دعوة يُدْعَى لها بهذا الأذان، وتُقال الدَّعوة أيضًا للدَّعوة نفسها التي يُدْعَى بها إلى شيءٍ أو أمرٍ من الأمور، فتقول مثلاً: هذه دعوة لحضور زواجٍ، يعني: هذا الخطاب الذي جاءك أو البطاقة التي وصلت هي دعوة، فالدَّعوة تارةً تُقال لهذا؛ يعني: ما يُدْعَى به، وتُقال لم يُدْعَى إليه.
فهنا اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة ما المراد به؟
المراد به هذا الأذان، هذه الكلمات والجُمَل التي نسمعها، فهي دعوة هنا بهذا الاعتبار، دعوةٌ إلى هذه الصَّلاة، دعوةٌ إلى بيوت الله ، إلى إقامة هذه العبادة التي حلَّ وقتُها ووجبت، فهو يدعوهم ويُناديهم بهذه الدَّعوة التي هي في غاية الكمال والتَّمام؛ لم اشتملت عليه من هذه المعاني العظيمة التي تكلّمنا عليها قبل ليالٍ؛ ولذلك وصفها هنا بأنَّها تامَّة، التَّام يعني: الكامل: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، يعني: أنَّ الله -تبارك وتعالى- أسبغها عليكم: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20]، يعني: أتمّها، وأكملها، فهي كاملة.
فهذه الدَّعوة التَّامة هي دعوةٌ كاملة من كل وجهٍ، فهي مُشتملة على أعظم الذكر وأجلِّه وأفضله -كما سبق في الكلام على مضامينها من قبل-، ويُدْعَى بها إلى أشرف وأعظم الأشياء، وهو هذه الصَّلاة المشتملة على ذكر الله -تبارك وتعالى.
والله يقول: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ، فـ"إنَّ" هنا للتَّعليل: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، وقد ذكرنا المعاني في بعض المناسبات في غير هذه المجالس: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، ما المراد به؟ أكبر من ماذا؟
بعضهم يقول بأنَّ ذكرَ الله في نهيه عن الفحشاء والمنكر أبلغ وأكبر من نهي هذه الصَّلاة عن الفحشاء والمنكر: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يعني: في النَّهي عن الفحشاء والمنكر.
وبعضهم يقول -كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وهو من أعدل الأقوال- بأنَّ الصَّلاة مُشتملةٌ على أمرين، على شيئين:
الأول: أنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهي تُؤثر هذا الأثر.
الأمر الثاني: أنها مُشتملة على ذكر الله، وهذا أكبر وأعظم من الأول.
يعني: الصَّلاة فيها أمران:
أنها تزجر عن الفحشاء والمنكر، فهذه فائدة من فوائد هذه الصَّلاة[10].
الأمر الثاني: ما تضمّنته من ذكر الله ، وهذا الأعظم، والأهم، والمطلوب الأجلّ.
هذا ذكره شيخُ الإسلام واختاره، وقيل غير ذلك، لكن المقصود هنا أنَّ هذه الدَّعوة تامَّة، باعتبار أنَّه يُدْعَى فيها إلى هذه الصَّلاة المشتملة على النَّهي عن المنكر والفحشاء، وهي مُتضمنة لذكر الله -تبارك وتعالى-، وإنما شُرعت الصَّلاة لإقامة ذكره -تبارك وتعالى-: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، على أحد المعاني التي فُسِّرت بها هذه الآية.
فهنا هذه الأمور التي توجد في هذه الدَّعوة، في مضامين الأذان، وما يُدْعَى بها إليه، كل ذلك من الأمور الكاملة والتَّامة، أمَّا ما سوى ذلك من أمور الدنيا مما يُدْعَى إليه الناس فهو دون ذلك بمراحل، هذا إذا سلم من التَّبعة، والمنكر، والفساد، والإثم، والشَّر، فما الذي يمكن أن يُدْعَى إليه الإنسانُ أعظم من طاعة الله وعبادته؟ بل إلى عبادةٍ هي عمود الإسلام، وركنه الثاني بعد الشَّهادتين، ما الذي يمكن أن يُدْعَى إليه الإنسانُ أهمّ من هذا؟
ولذلك لما سُئِلَ النبي ﷺ عن أفضل العمل أخبر أنَّه الصلاة لأول وقتها، أفضل العمل، ومعلومٌ أنَّ مَن خان "حي على الصلاة"، خان "حي على الفلاح"، فالذي لا ينتصر على نفسه، ولا يستطيع أن يُجاهدها فينهض من فراشه، أو يترك ما بيده ليذهب إلى المسجد، هذا عمَّا طُلِبَ منه من المهام والعبادات والأعمال الصَّالحة أقعد، فهو إن ضيَّع هذه الصَّلاة فهو لما سواها أضيع.
فهذه الدَّعوة التَّامة ما سواها ناقص، الناس قد يُبادرون إذا دعاهم فلان، أو فلان، قد يُبادرون إذا دعوا إلى المكان الفلاني، ولكن تجد تلكُّؤًا وتباطُؤًا أحيانًا لدى بعضهم إذا دُعِيَ إلى الصَّلاة، لا يجد استشرافًا في نفسه، وانبعاثًا، وسرورًا، وانشراحًا، مع أنَّ النبي ﷺ كان يقول: أرحنا بها يا بلال[11]، وقال: وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصَّلاة[12]، قُرَّة العين يعني: أنَّه لا يجد سلوته، وراحته، وطُمأنينته، ويجد قلبَه ونفسه، كما يجدها في الصَّلاة، فإنَّ العينَ تكون قريرةً بما تُحبّ، وتُسرّ به، وتلتذّ، قال: قُرّة عينه، ويُدْعَى له بهذا: أقرّ اللهُ عينَك. وهذا من القرّ؛ يعني: البرد، فإنَّ دموعَ الفرح تكون باردةً، ودموع الحزن تكون ساخنةً؛ ولهذا يُقال: أسخن اللهُ عينَ البعيد، أسخن اللهُ عينَ أعداء الله؛ بمعنى: أنَّك تدعو عليهم بالمصائب والحزن الذي تسخن معه العين، فتكون دموعُ العين حارَّةً؛ لحرارة الجوف.
فهنا هذه دعوة تامَّة -أيّها الأحبّة- ينبغي أن نُقْبِل عليها باستشرافٍ، وسرورٍ، وفرحٍ، وارتياحٍ، وانشراحٍ، وألا يكون هناك دعوة نحن إليها صراع أكثر من هذه الدَّعوة؛ يعني: ينبغي أن ينظر الإنسانُ في نفسه إلى أي شيءٍ تهفو، وإلى أي شيءٍ تُبادر بالإجابة وتُسرع إلى هذا الذي دُعِيت إليه: ألا يكون ذلك أعظم؛ لا في الظَّاهر، بمعنى: في الانطلاق إليها، والعمل، والسَّعي، ولا في الباطن: من إقبال النَّفس، واستشرافها، وفرحها.
لو دُعِيَ الإنسانُ إلى مناسبةٍ يُحبُّها ويتطلع إليها لربما ينتظرها شهورًا: وُعِدَ بحفلٍ مُعيَّنٍ، وُعِدَ بمناسبةٍ مُعينةٍ، ينتظر، يتطلع متى يأتي هذا الموعد، وينظر دائمًا في التَّاريخ ليتأكَّد، ثم بعد ذلك إذا جاء هذا تجد لربما المرأة، وهي غير مُطالبةٍ بحضور الجماعة، لكن على سبيل المثال؛ لأنَّ ذلك يظهر فيهنَّ أكثر، تجد أنَّها لربما قبله بيومٍ وهي تتهيَّأ وتلبس، وتُخرج ألوان اللباس، وتنظر إليها، وتُقلّبها، وتقيسها، وتُعيدها مرةً، وثانيةً، وثالثةً، ولربما ذهب عليها ليلٌ طويلٌ وهي تُقارن بين هذه الملبوسات، وما اللَّائق والمناسب؟ ولربما استعدَّت، وهذا هو الأصل والغالب: أنها تشتري ذلك بأغلى الأثمان، وتتهيّأ إلى حضور هذه المناسبة، ولو مُنِعَت منها لربما كان ذلك بالنسبة إليها من العظائم الكبار التي لا تُحتمل.
فهذا التَّهيؤ، وهذا الاستشراف لحضور هذه المناسبة أو تلك، أنا أقول: ينبغي أن يكون حرصُ الرِّجال على حضور الصَّلاة إذا دُعوا إلى ذلك أعظم وأكمل بمراحل، فكيف نفوسنا مع هذه الصَّلاة حينما يدعونا الدَّاعي؟ أعني: داعي الله بهذا الأذان والدَّعوة التَّامة، هذا بالإضافة إلى أنَّ أمور الدنيا هذه التي قد يُدْعَى إليها الإنسانُ لا تخلو من كدرٍ ونقصٍ، وما إلى ذلك؛ فهو قد يُقابل في هذه الدَّعوة مَن لا يُحبّ، قد يُواجَه بما يكره، قد يقع في شيءٍ من الحرج مع الآخرين، قد لا يُلائمه المكان، قد لا يُلائمه الزمان، قد لا يُلائمه الطَّعام، قد لا يُلائمه الحديث الذي يسمعه إن كان ثمَّة حديثًا، فكل ذلك مما يعرض لتلك الأمور التي يُدْعَى إليها.
وبعض أهل العلم يُفسّر "التَّامَّة" بغير هذا، يقولون بأنَّ "التَّامة" يعني: أنَّها التي يحصل بها الإلزام وقيام الحجّة؛ لظهورها، وجلائها، ووضوحها، فليس فيها أدنى لبسٍ.
قد يُدْعَى الإنسانُ بدعوةٍ، ولكنَّها يبقى فيها بعض الغموض في بعض الجوانب: غموض في التَّاريخ، التبس عليه التاريخ الميلادي بالتاريخ الهجري: ليلة كذا، وهو يظنّ أنَّه يوم كذا؛ لكن هذه الدَّعوة لا يتطرّق إليها شيءٌ من ذلك، فالإلزام بها حاصلٌ، فما عليه إلا أن يُسارع في الإجابة.
وبعضهم يقول: معنى "تامَّة" أنَّ الشركةَ فيها لا تتأتَّى؛ لأنَّ ذلك إنما يكون خالصًا لوجه الله -تبارك وتعالى.
وبعضهم يقول: قيل لها: "تامَّة" لأنَّها تشتمل على أتم القول وأوفاه، وهو قول: "لا إله إلا الله"، فهذه أكمل كلمةٍ، وأعدل كلمةٍ، وأشرف كلمةٍ على الإطلاق.
وبعضهم يقول: إنها كذلك -يعني: تامَّة- لأنَّه ليس في عباراتها وألفاظها خللٌ، ولا يتطرّق إليها نقصٌ، الناس يجتهدون: ما العبارة التي يصوغونها للدَّعوة إلى الزواج مثلاً؟ ما العبارة المناسبة؟
أحيانًا تكون العبارةُ فيها شيءٌ من الخشونة، فيها عبارة قد لا تكون لائقةً، قد تكون العبارةُ لربما غير مناسبةٍ في هذا المقام، قد تكون مُشتملةً على محظورٍ شرعيٍّ، يعني: بعض الناس يكتب دعوةً وكذا، أو رسالة، وبعد ذلك يقول: تحياتي لكم، ولكم تحياتي! التَّحيات لله، وليست لأحدٍ من خلقه، التَّحيات هنا جمعٌ مُضافٌ إلى معرفةٍ، الياء: كل تحيَّاتي لكم، وإنما التَّحيات تكون لله.
فمن غير الصَّحيح أن يقول الإنسانُ مثلاً، يُذيِّل الرِّسالة، أو يُذيِّل الدَّعوة، أو الخطاب، أو البطاقة، أو غير ذلك، يقول: وتقبلوا تحيَّاتي، تحيَّاتي لكم، ولكم تحيَّاتي. لكن يقول: لكم مني تحيّة، مثلاً، أو نحو ذلك؛ لكن "تحيَّاتي كلّها" هكذا "لكم" لا، تحيَّاتي لله، التَّحيات لله، وليست لأحدٍ من المخلوقين، لكن المخلوقَ له تحيّة طيبة نُحييه بها، فإنَّ التَّحية هي الأصل، ما يُقال في أول اللِّقاء، أيًّا كان القول: السلام، ونحو ذلك، مثل: كيف أصبحتَ؟ كيف أمسيتَ؟ فكل هذا يُقال له: تحيّة.
وبعضهم يقول: إنها تامَّة باعتبار أنَّها ليست مما يتطرّق إليه التَّبديل، والتَّغيير، والنَّسخ، بل هي باقية إلى يوم القيامة.
وهذا معنى قول مَن قال بأنَّ ذلك -يعني: أنها تامَّة- بمعنى: أنَّها لا تنقطع، فهي دعوة باقية، فهو بمعنى قول مَن يقول: إنَّها لا يتطرّق إليها النَّسخ.
هذه الدَّعوة التَّامة بعض أهل العلم يقول: إنَّها إلى قوله إلى آخر الشَّهادتين: "وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله"، أنَّ هذه هي كلمة التوحيد، وهذه هي الدَّعوة التَّامة.
ولكن الواقع أنَّ هذا لا دليلَ عليه، فإنَّ ذلك ينتظم جميع ما ذُكِر، ومنه الدَّعوة إلى الصَّلاة، وهذه هي الدَّعوة، الله -تبارك وتعالى- له دعوة الحقِّ، ومما فُسِّر به ذلك التوحيد وشهادة "أن لا إله إلا الله"، ولكن أيضًا هذه دعوةٌ إلى الصَّلاة، مع ما فيها من توحيد الله ، وتوحيد الرسول -عليه الصلاة والسلام-: أشهد أنَّ محمدًا رسول الله. ولكن ذلك من جملة ما تضمّنته، ولا يُقال: إنَّه يقتصر على ذلك، والله أعلم.
أسأل الله أن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره، وشُكره، وحُسن عبادته.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الدُّعاء عند النِّداء، برقم (614).
- أخرجه البيهقي في "السنن الصُّغرى": كتاب الصَّلاة، باب ما يقول إذا سمع المؤذّن يؤذّن أو يُقيم، برقم (296)، وقال الألباني: شاذَّة. انظر: "إرواء الغليل" للألباني (1/261).
- انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (2/357).
- انظر: "فتاوى نور على الدرب" لابن باز (2/316).
- انظر: "فتاوى نور على الدرب" لابن باز (6/396).
- انظر: "فتاوى نور على الدرب" لابن باز (6/392).
- انظر: "فتاوى نور على الدرب" لابن عثيمين (8/2).
- انظر: "إرواء الغليل" للألباني (1/261).
- أخرجه السخاوي في "المقاصد الحسنة"، برقم (871).
- انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (20/192).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، برقم (4985)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (7890).
- أخرجه النَّسائي في "سننه": كتاب عشرة النِّساء، باب حبِّ النساء، برقم (3940)، وصححه في نفس الكتاب.