الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
(90) أذكار الأذان " والصلاة القائمة ..."
تاريخ النشر: ١٤ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 2472
مرات الإستماع: 2584

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: أيّها الأحبّة، في هذه الليلة نُواصل الحديثَ عن قول النبي ﷺ: مَن قال حين يسمع النِّداء: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة، والصَّلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه، قال النبي ﷺ بأنَّ مَن قال ذلك: حلَّت له شفاعتي يوم القيامة[1].

وقد مضى الكلامُ على صدر هذا الحديث، أعني: قول النبي ﷺ: مَن قال حين يسمع النِّداء: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة، وبقي الحديثُ عن سائر ألفاظه.

فقوله ﷺ: والصَّلاة القائمة، ما المراد به؟

ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة قلنا: هي الأذان، وعرفنا معنى كونها تامَّة، والصَّلاة القائمة بعض أهل العلم فسَّره بالصَّلاة التي ستحضر، التي يُدْعَى إليها، أو الصَّلاة التي حضرت، الصَّلاة التي حضرت باعتبار أنَّه دخل وقتُها، وتوجّه الخطابُ إلى الـمُكلَّف بفعلها؛ وذلك لتحقق الشَّرط من دخول الوقت، فهي صلاةٌ قائمةٌ بهذا الاعتبار، أو باعتبار ما سيكون من أنها ستُقام بعد ذلك بيسيرٍ.

وبعضهم حمله على غير هذا، بعضهم حمله على معنى الثَّبوت، "القائمة" يعني: الثَّابتة التي لا تتغير، ولا يتطرّق إليها نسخٌ، باعتبار أنَّ أصولَ الشَّرائع وأنَّ الشَّرائع العِظام الكِبَار لا تُنْسَخ، أنها ثابتةٌ؛ يعني: الصَّلاة موجودة في كلِّ شريعةٍ من الشَّرائع السابقة؛ الصيام كان عندهم، الحجّ كان عندهم، وهكذا الزكاة، ونحو ذلك.

فهذه الأصول العِظام كما يُقال: لا يتطرّق إليها نسخٌ، كذلك أصول الأخلاق، أصول الدِّين، قواعد الشَّريعة، أركان الإسلام، هذه لا يتطرّق إليها نسخٌ، إنما النَّسخ في الأمور الفرعية والجزئية، وما شابهها، وهذا الذي يذكرونه في أبواب النَّسخ مما يتطرّق إليه النَّسخ، وما لا يتطرّق إليه، فبعض أهل العلم فسَّرها بهذا، "الصَّلاة القائمة" يعني: أنها ثابتةٌ، راسخةٌ، لا يحصل لها تبديلٌ ولا تغييرٌ.

وهذا يُشبِه قول مَن قال بأنها قائمة؛ أي: ثابتة، دائمة إلى يوم القيامة، فإذا كانت كذلك فهي أيضًا لا يتطرّق إليها نسخٌ، ولا تغييرٌ، ولا تبديلٌ، أو باعتبار أنَّ الله -تبارك وتعالى- أمر بإقامتها، فهي قائمةٌ بهذا الاعتبار.

ثم يقول: آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، "آتِ محمدًا" أي: أعطه الوسيلة والفضيلة، والوسيلة عرفناها، وقلنا: هي منزلةٌ عاليةٌ رفيعةٌ، فسَّرها النبيُّ ﷺ، وأنها لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله؛ يعني: واحدًا، فهي أعلى الجنَّة، أعلى المراتب، فهذه هي الوسيلة.

والفضيلة يحتمل أن يكون هذا من قبيل عطف الصِّفات؛ يعني: أنَّها تُوصف بهذا وهذا؛ يعني: أنَّ هذه المرتبة يُقال لها: وسيلة، ويُقال لها: فضيلة، كما قال بعضُ أهل العلم، فيكون من باب تنزيل تنوع الصِّفات منزلة تعدد الذَّوات.

ولكن الأقرب أنَّ ذلك يرجع إلى شيءٍ آخر: أنَّ الفضيلة ليست هي الوسيلة، والأصل أنَّ العطفَ يقتضي المغايرة، فهي شيء آخر، فالفضيلة فضلٌ؛ بمعنى: الزِّيادة، فهي زيادةٌ مُطلقةٌ للنبي ﷺ، هذه الزِّيادة ما هي؟ زيادة في ماذا؟

فسَّرها بعضُ أهل العلم -كالحافظ ابن رجب رحمه الله- بأنَّها إظهار فضيلته ﷺ على الخلق أجمعين في الموقف يوم القيامة، وبعده[2]، ويُبرز الله ذلك، ويُبديه لجميع الخلائق، وقد قال النبي ﷺ: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة[3]، ثم ذكر حديثَ الشَّفاعة، هذا معنى قريب ووجيه لتفسير الفضيلة، وهو أولى من قول مَن قال بأنَّها ترجع إلى الوسيلة، وأنَّ ذلك من قبيل اختلاف الصِّفات.

وعلى كل حالٍ، هكذا يمكن أن تُفسّر بأنَّها مرتبةٌ للنبي ﷺ، وشرفٌ، ومزيَّةٌ يُعطيها الله إياه، فيُشرِّفه، ويُظْهِر منزلته وقدره على سائر الخلق: الوسيلة والفضيلة.

هنا زيادة: "والدَّرجة الرَّفيعة"[4]، ولكن هذه الزِّيادة لا تصحّ؛ فلا تُقال، وإنما نقول مباشرةً: آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه، "ابعثه" يعني: أوصله، أو أرسله مقامًا محمودًا، هذا المقام المحمود ما هو؟

هو الشَّفاعة العُظمى التي تكون لرسول الله ﷺ حينما يأتي الناسُ إلى الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسلام- ابتداءً من آدم ، فيطلبون الشَّفاعة للفصل بين أهل الموقف، فصل القضاء، الناس يكونون في كربٍ شديدٍ، فيُريدون رفع هذا الكرب؛ حيث تدنو الشمس من رؤوس الخلائق مقدار ميل، ويحصل لهم ما قد وُصِف مما قد علمتم مما جاء عن رسول الله ﷺ من العرق الذي يُلْجِم بعضَهم إلجامًا بقدر أعمالهم، فهذا كربٌ وشدَّةٌ.

فالأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- من آدم ، ومرورًا بمَن بعده إلى إبراهيم  وموسى، وعيسى، كلّهم يعتذر من ذلك، ويُحيلهم إلى غيره، حتى يصيروا إلى رسول الله ﷺ، فيقول: أنا لها، أنا لها، فيسجد تحت العرش، ثم يُلهمه الله دعوات، وكلمات، ومحامد، حتى يُقال له: يا محمد، ارفع رأسَك، وسَلْ تُعْطَه، واشفع تُشَفَّع[5].

جميع الرِّوايات فيما وقفتُ عليه -الرِّوايات الصَّحيحة الثابتة في حديث الشَّفاعة- ليس فيها التَّصريحُ بأنَّه يُقال له ما يدل على فصل القضاء صراحةً بين أهل الموقف، وإنما يُؤمر بأمرٍ يتعلَّق بأُمَّته ودخولهم الجنة: مَن لا يُشرك بالله شيئًا.

ولكن الجواب عن سؤال يطرأ هنا: أنَّ النَّاظر في هذه الأحاديث لربما لا يجد فيها التَّصريح بفصل القضاء؛ بناءً على هذه الشَّفاعة، والسُّجود بجميع الرِّوايات الصَّحيحة الثَّابتة التي وقفتُ عليها، وهي روايات كثيرة جدًّا.

والجواب عن هذا -وهو نوع استطرادٍ، لكن فيه فائدة لطلاب العلم- أن يُقال: إنَّ في مضمونه أو من لازمه أنَّه يحصل فصل القضاء، فحينما يُؤمر ﷺ بأن يُدخل، أو أن يذهب مَن لا يُشرك بالله شيئًا من أُمَّته ﷺ أن يدخلوا البابَ الأيمن من الجنَّة، وهم شُركاء للناس فيما عداه من الأبواب، أو نحو هذا، فهذا يقتضي أنَّه فُصل؛ أنَّ ذلك يكون بفصل القضاء؛ لأنَّ هذا ما يتحقق إلا بعد فصل القضاء، فهذا يُفْهم من لازمه، وإن لم يكن من باب المنطوق الصَّريح بدلالة المطابقة، ولكن هو مما يُؤخذ من المنطوق، لكن بنوعٍ آخر من الدّلالة، فيُقال: ذلك من دلالة اللّزوم، والله تعالى أعلم.

هذا الذي يمكن أن يُجاب به عن هذا السؤال الذي قد يرد، فهذا المقام المحمود هو الشَّفاعة: الذي وعدتَه وعده، أين وعده؟ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، فهنا هذا المقام المحمود هو الشَّفاعة العُظمى.

وقد جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: أي مقامًا يحمدك فيه الأوَّلون والآخرون، وتشرف فيه على الجميع، يعني: يحمدك فيه الأوَّلون والآخرون، متى؟

هذا المقام هو مقام الشَّفاعة، المقام الذي يغبطه الأوَّلون والآخرون، فهو محمودٌ على كل لسانٍ من ألسنة الحامدين: مقامًا محمودًا الذي وعدته، عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا.

وهنا لا يُقال: إنَّ "عسى" هذه للتَّرجي، كما هي في كلام الناس؛ لأنَّ الذي يقع منه التَّرجي هو مَن لا يعلم العواقب، وأمَّا الله -تبارك وتعالى- فهو عالمٌ بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، إذًا هي ليست للتَّرجي؛ ولهذا ثبت عن ابن عباسٍ [6]. وعن جماعةٍ من السَّلف أنَّ "عسى" من الله واجبة[7]، وهذه قاعدة: "عسى" إذا قالها الله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة:7]، فمثل هذا إذا قاله الله فهو يعني: تحقق الوقوع، واجبة، يعني: واجبة الوقوع.

وهذا كما قال المفسِّرون، قالوا: إنَّ القرآنَ جرى على لغة العرب وبلسانهم، والعظيم منهم -من العرب، يعني: من ملوك العرب وعُظمائهم- إذا قال: عسى أن نُحقق لك حاجتك، عسى أن نقضي لك مطالبك. فهذا عِدةٌ ثابتةٌ منه، لكنَّهم يُخرجونه بهذا الأسلوب، يقولون: عسى أن يتحقق لك ما تريد. فهو يفهم أنَّ هذا من قبيل الوعد الثَّابت.

قالوا: القرآن نزل بلغة العرب وبلسانهم، ووجوه الاستعمالات التي كانوا يستعملونها؛ إذًا "عسى" من الله واجبة: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ، إذًا لا بدَّ أن يتحقق لك ذلك.

ومن ثم يرد هنا سؤالٌ قد ورد نظيرُه في السؤال للنبي ﷺ الوسيلة: إذا كان هذا من قبيل المتحقق للنبي ﷺ، فلماذا نسأل إذًا؟

فكما أجبنا بأجوبةٍ في السَّابق، من أوضحها: أنَّ ذلك لربما يكون عند الله -تبارك وتعالى- وفي تقديره أنَّه موقوفٌ على جملةٍ من الأسباب المتحققة، ومنها سؤال المؤمنين، هذا بالإضافة إلى أنَّ هذا السؤال هو نفعٌ لنا؛ فإنَّ ذلك تحصل به الشَّفاعة لهذا القائل، فهذا فيه نفعٌ للمؤمن.

ثم أيضًا هنا يقول النبيُّ ﷺ: حلَّت له شفاعتي، فهذا وعدٌ، وهو يدلّ أيضًا على أنَّ مَن داوم على ذلك إذا كانت تحلّ له الشَّفاعة؛ إذًا يُخْتَم له بالإيمان؛ لأنَّ الشَّفاعةَ لا تتحقق لمن كان على الإشراك، فيُرجى لمن كان كذلك أن يكون الـمُمهد له حُسن الخاتمة؛ أنَّه يموت على الدِّين الصَّحيح، يموت على الإيمان، يثبت على الإيمان حتى يموت، ثم بعد ذلك تحصل له الشَّفاعة؛ لأنَّها لا تكون لأهل الإشراك بحالٍ من الأحوال.

أما زيادة: "يا أرحم الرَّاحمين"[8] فهذه لا صحَّةَ لها، لا تثبت.

هذا ما يتعلَّق بهذا الحديث، وأسأل الله أن يُفقهنا وإيَّاكم في الدِّين، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.

ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنَّك رءوف رحيم، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الدُّعاء عند النِّداء، برقم (614).
  2. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (5/274).
  3. أخرجه مسلم: كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا -صلى الله عليه وسلم- على جميع الخلائق، برقم (2278).
  4. أخرجه الدِّينوري في "عمل اليوم والليلة": باب كيف مسألة الوسيلة، برقم (95)، قال الألباني: وهي مُدرجة أيضًا من بعض النُّسَّاخ، فقد علمت مما سبق أنَّ الحديثَ عنده من طريق النَّسائي، وليست عنده، ولا عند غيره، وقد صرَّح الحافظُ في "التلخيص" (ص78) ثم السَّخاوى في "المقاصد" (ص212) أنها ليست في شيءٍ من طرق الحديث. انظر: "إرواء الغليل" للألباني (1/261).
  5. أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، برقم (4712).
  6. أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى": كتاب السّير، باب ما جاء في عذر المستضعفين، برقم (17753).
  7. انظر: "البرهان في علوم القرآن" للزركشي (4/288).
  8. قال الألباني: وليست هذه في شيءٍ من طرق الحديث، ومن الغرائب: أنَّ هذه الزيادة وقعت في الحديث في كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لابن تيمية، وقد عزاه لـ"صحيح البخاري"، وإني أستبعد جدًّا أن يكون الخطأ منه؛ لما عُرف به -رحمه الله- من الحفظ والضَّبط، فالغالب أنَّه من بعض النُّسَّاخ، ولا غرابةَ في ذلك، وإنما الغريب أن ينطلي ذلك على مثل الشيخ السيد رشيد رضا -رحمه الله تعالى-، فإنَّه طبع الكتابَ مرتين بهذه الزيادة، دون أن يُنبه عليها: (ص48) من الطبعة الأولى، و(ص33) من الطبعة الثانية، وكذلك لم يُنبه عليها الشيخ محب الدين الخطيب في طبعته (ص43). انظر: "إرواء الغليل" للألباني (1/261).

مواد ذات صلة