الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم..»، "إنا قد نهينا عن التجسس.."
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب النهي عن التجسس، والتسمع لكلام من يكره استماعه.

أورد المصنف -رحمه الله- حديث معاوية قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم[1] قال: حديث صحيح، رواه أبو داود، بإسناد صحيح.

فقوله: إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم وفي حديث: إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم[2].

إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم يعني: يتتبع ما خفي، وما كان مستترا، ما لم يظهر من عيوبهم، ومخبآت أمورهم، ونفوسهم، فإنه يفسدهم؛ وذلك أن هذا الصنيع يبعث على الريبة، فيكون ذلك ضائع في المجتمع، بحيث تنعدم الثقة بين الناس، فكل أحد يرتاب في الطرف الآخر، فيكون من له ولاية يرتاب في الناس، ولا يثق بهم، ومن كان تحت يده يرتابون فيه، ولا يثقون به، فلا توجد الثقة بين الراعي والرعية، وبين الأمير ورعيته، وبين المدير، ومن تحت يده، والمعلم وتلامذته.

فإن ذلك يكون على جميع المستويات، وقد أشرت إلى مثل ذلك في ليلية مضت، فقلتُ مثل هذا: إذا فعله الرجل في بيته فإن الثقة تكون مفقودة، وقد يعاقبه الله ، فيرى من أولاده، أو من زوجته، ما يسوؤه، حينما يتتبع ويبحث، وذكرت نماذج من هذا، مما قد يصل إليه الحال ببعض الناس، أنه قد يضع أجهزة للتسجيل، أو التنصت في حجر الأولاد، ونواحي الدار، ومثل هذا هو في غاية الإفساد لنفوسهم، وذممهم، هذه الطريقة لا تربي أبدًا، ولا يمكن أن تخرج أناس يثقون بأنفسهم، ويتعاملون مع الآخرين بشيء من الوضوح والصدق.

وإنما يكون هؤلاء على حال من الريبة، وقد ينضم إلى ذلك فساد كثير يخفونه، ويوارونه بطرق لا يعجزون عنها، كما هو معلوم.

وكذلك أيضًا حينما يعمل هذا بعض الناس، فيجعل على مدرسته من ينقل له أخبار، ويأتيه بدواخلهم، وأمورهم، وشؤونهم الخاصة، وما يجري بينهم.

فإن مثل هذا فيه إفساد لهم، وهم سيطلعون على ذلك، ولو بعد حين، ثم بعد ذلك لا يكون هذا محل للقبول، ولا يتلقون عنه، ولا يثقون به في حال من الأحوال، وتبقى الريبة ذائعة في أوساطهم، فلا يثقون بعضهم ببعض، ويتوجسون من زملائهم.

وقل مثل ذلك أيضًا حينما يفعله مدير المدرسة مثلاً مع المعلمين، فيكون عنده من ينقل الكلام، وقل مثل ذلك في مدير الشركة، ومدير الجامعة، وأمير البلد، ونحو هذا، فكل ذلك داخل فيه.

إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت تفسدهم إنما الواجب هو أن يحمل الناس على الظاهر، وتوكل سرائرهم إلى الله -تبارك وتعالى-، فمن أبدى معروف قبل منه، ومن أبدى إساءة، فإنه يستحق على أن يؤاخذ على هذه الإساءة بحسب حاله، من غض الطرف، أو من التعزير، أو المعاقبة، أو نحو ذلك كل بحسبه.

وإنما يجوز هذا التتبع بحالات ضيقة، أشرت إليها في ليلة مضت.

ثم ذكر حديث ابن مسعود أنه أتي برجل، فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرًا، فقال: "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به"[3]، قال: حديث حسن صحيح، رواه أبو داود، بإسناد على شرط البخاري ومسلم.

قال عنه: بأنه حديث؛ لأن ابن مسعود قال: "إنا قد نهينا عن التجسس" ومن الذي نهاهم؟ نهانا الشارع عن ذلك، مع أنه يحتمل هنا أن يكون قصد بالنهي، ما جاء عن قوله تعالى: وَلَا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12] فلا يكون له حكم الرفع بهذا الاعتبار، أو يكون مراده الحديث الآخر، الذي قال فيه النبي ﷺ: لا تجسسوا ولا تحسسوا[4]، لكن إن قصد أن هذا النهي في هذا، خاصة إن قد قال: "إنا قد نهينا عن التجسس" والنبي ﷺ لو قال: أنهاكم عن التجسس مثلاً، فيكون هذا له حكم الرفع، ولكن على كل حال يكفي في ذلك قول النبي ﷺ: ولا تجسسوا إنا قد نهينا عن التجسس، هذا الرجل تقطر لحيته خمرًا، قد يحتمل أن ابن مسعود اطلع من حالهم على أنهم عرفوا ذلك عن طريق التتبع، فقال: "إنا قد نهينا عن التجسس" ينكر عليهم، ويحتمل: أن يكون قصد أن ذلك مما ظهر، وأن ذلك لم يوقف عليه بطريق ممنوع شرعًا، فظهر ذلك عليه، فكانت لحيته تقطر خمرًا، فقال: "ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به" فإذا كان الرجل قد أغلق عليه بابه، وشرب الخمر، فلم يظهر منه شيء، يعني: ما خرج إلى الشارع، وما خرج صوته إلى الناس في حال، ونحو ذلك، فإنه لا يجوز لأحد أن يتتبع، وينظر في بيوت الناس، ويتتبع عورات المسلمين، فمن أغلق بابه، واستتر بالمعصية، فإن ذلك بينه وبين الله، وهذه المعصية لا تضره إلا هو، وأما إذا أظهر المعصية في المجتمع، فهنا يجب الإنكار؛ وظهور المعاصي يأذن بالعقوبات العامة، هذا ما أورده المصنف -رحمه الله- في هذا الباب، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في النهي عن التجسس برقم (4888) وصححه الألباني.
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في النهي عن التجسس برقم (4889) وقال الألباني: "صحيح لغيره".
  3. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في النهي عن التجسس برقم (4890) وقال الألباني: "صحيح الإسناد".
  4. أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع برقم (5143) ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس برقم (2563).

مواد ذات صلة