الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
الحديث عن آيات الباب، حديث «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب النهي عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي، أو زائد على قدر الأدب.

النهي عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي، أو زائد على قدر الأدب، فعندنا التعذيب أولاً لا يصح بحال من الأحوال أن يكون ذلك لحظ النفس من أجل التشفي، فإن هذا لا يكون تأديبًا بحال من الأحوال، وهذا من أوضح الضوابط التي يعرف بها المؤدبون والمربون ما يكون من باب التأديب، وما يكون خارجًا عنه في تأديب التلاميذ، وفي تأديب الأولاد متى يكون ذلك من قبيل التأديب الذي ينفع ويصلح، أو يكون ذلك من باب التشفي والانتقام، فإذا كان الوالد أو الوالدة أو كان الزوج أو كان المعلم حينما يؤدب ويضرب مثلاً يشعر بتشفي فإنه ينتقم، وفعله هذا ليس من التربية في شيء، إنما يفعل شيئًا لنفسه، ومن ثم فإن الآثار لن تكون كما يرجو، إن كان يرجو شيئًا من التأديب والتربية، فهذا أمر ينبغي أن يكون واضحًا لدى المربين.

الأمر الثاني: أنه لا يصح بحال من الأحوال أن يكون الضرب على الوجه، سواء كان ذلك خفيفًا، أو كان ذلك شديدًا، فإنه قد نهي عن هذا بخصوصه، والنبي ﷺ أخبر أن الله خلق آدم على صورته، فلا يجوز ضرب الوجه، ولا تقبيح الوجه، تقبيح الوجه كأن يقول للبعيد: قبح الله وجهك، ونحو ذلك، هذا لا يجوز، فالضرب يجتنب فيه الوجه.

هناك أيضًا الضرب الذي يكون على المواضع التي يتضرر المضروب بها، مواضع خطرة، مواضع حساسة في الجسم، فهذا لا يصح أن يضرب، وأن يؤدب بضربها.

وأمر رابع: وهو أن التأديب والضرب إذا كان يجرح أو يكسر عظمًا أو يكون مبرحًا فإن مثل هذا أيضًا لا يجوز، وإنما ضرب التأديب دون ذلك.

الأمر الخامس: وهو ما كان من الضرب أو التأديب من غير موجب، يعني من غير سبب معتبر شرعًا، فضرب الصغير مثلاً دون العاشرة لأي سبب كان، هل يضرب أو لا يضرب، النبي ﷺ ماذا قال في الصلاة التي هي أهم المهمات؟

قال: مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشر[1] فجعل الضرب إذا بلغ العاشرة، إذا ترك الصلاة، فما دون الصلاة فمن باب أولى أنه لا يضرب بسببه هذا الصغير؛ لأنه غير مؤهل لذلك، وإنما يعلم يزجر، وما إلى ذلك، لكن لهذا أيضًا جوانب ينبغي أن يعرفها المربون أن يعرفها الآباء مثل ما يتعلق بأمور من التخويف، فيتخرج جبانًا، أو يتخرج فيه علل نفسية، أو نحو ذلك، يخاف من الظلام، يخاف من بعض الأشياء، يخاف من الجن، أو نحو هذا، يخوفونه بهذه الأشياء، هذا لا يصح، أو يخوفونه من بعض أجناس الناس، فهذا كله خارج عن التربية، وليس الحديث عن هذا، لكن الحديث الآن عن التعذيب، والضرب، ومن ثم فإن الضرب أدب ذكره الله في حق الزوجة، قال: وَاضْرِبُوهُنَّ ولكنه بهذه الضوابط، لا يكون ابتداء، وإنما الوعظ، ثم الهجر، وآخر الدواء الكي، فلا يبدأ بالضرب، فإذا ردت عليه كلمة، أو خاصمته، أو انزعج منها، أو غضب، أو جاء من العمل وهو في حال من الغضب شرع في ضربها لأتفه الأسباب، هذا لا يجوز، وهؤلاء الذين يضربون النساء كما قال النبي ﷺ: ليس أولئك بخياركم[2] أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

ثم أيضًا إذا كان هذا الولد لا يضرب قبل العاشرة، فبعد العاشرة يضرب، ولكن أيضًا لا يضرب لأدنى الأسباب؛ لأن حسه يتبلد، إذا ضرب لأدنى سبب يتبلد حسه، ومن ثم فإن الضرب الذي هو أشد الأشياء، وأنكى الأشياء لا يؤثر فيه.

ثم أيضًا ما كل الناس ينفع معه الضرب، أو يحتاج إلى الضرب، قد تكفيه الإشاحة، وقد تكفيه الكلمة، وقد تكفيه النظرة، وقد تكفيه المعاتبة، وقد يكفيه الزجر، وقد يكفيه الهجر، وقد يكفيه الحرمان، حرمان من نزهة، حرمان من عطية، أو نحو ذلك.

ثم الضرب يأتي آخرًا، أما أولئك الذين يمنعون من الضرب بالكلية، فهذا أيضًا غير صحيح، فلا إفراط، ولا تفريط، من الناس من لا ينفع معه إلا الضرب، ومن الناس من لا ينفع معه الضرب، ومن الناس من يحتاج إلى ذلك أحيانًا، فيبقى السوط معلقًا، وإن لم يستعمل، فتكون الهيبة.

على كل حال النهي عن تعذيب العبد، هذا مملوك تحت يده فلا يجوز له أن يعذبه، وكذلك الدابة، والدابة الأصل أنها تطلق على كل ما دب على الأرض، ثم صارت تطلق في عرف الاستعمال على ذوات الأربع، وقد تطلق في عرف أضيق من هذا على الحمار، يقال دابة، والمرأة؛ لأنها أيضًا تحت يده، فهو يؤدبها، وهو سيدها، والولد لغير سبب شرعي، أو زائد على قدر الأدب، يعني زاد على الحد الذي يحصل به التأديب، الولد أخطأ خطأ يمكن أن يستحق عليه سوط واحد، فضربه عشرة أوساط، أو خمسين سوطًا، أو نحو هذا، فهذا غير صحيح.

قال الله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا.

فهؤلاء أوصى الله بهم، أوصى بالوالدين إحسانًا مطلقًا، وبذي القربى، قرابات الإنسان أن يحسن إليهم بأنواع الإحسان، وكذلك اليتامى، وهو من فقد أباه قبل البلوغ، والمساكين وهم الفقراء، والجار ذي القربى هو الجار الذي بينك وبينه قرابة، وبعضهم يقول: الجار الملاصق، الجار القريب من بيتك، الأدنى من بيتك، والجار الجنب يعني الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة، على تفسير الذي قبله أنه الجار القريب، يعني بينك وبينه قرابة من رحم، ونحو ذلك، فيكون الجنب صار له حق الجوار، وإن لم يكن قريبًا.

وبعضهم يقول: وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ الصاحب بالجنب مثل الزميل في الدراسة، وفي العمل، والرفيق في السفر، وفسره بعضهم بالزوجة، فهذا الذي يرافقك هو الصاحب بالجنب، وَابْنِ السَّبِيلِ وهو من انقطعت به السبيل، انقطعت به النفقة، وهو مسافر وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وهذا هو الشاهد، يعني الله أمر بالإحسان إلى هؤلاء المماليك إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا.

ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها، وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض[3] متفق عليه.

قوله ﷺ: عذبت امرأة في هرة وفي رواية: دخلت امرأة النار في هرة يعني بسبب هرة، والهرة معروفة، ثم فسر فعلها، وما أوجب لها العذاب في النار، قال: سجنتها حتى ماتت يعني لم تطعمها، فماتت من الجوع فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها، وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض وخشاش الأرض المقصود به الحشرات بأنواعها، وبعضهم يفسره بالهوام.

والنووي -رحمه الله- هنا يقول: خشاش الأرض هي هوامها، وحشراتها[4] والهوام تطلق في الغالب على نوع من الدواب، أو الحشرات ذوات السموم كالحية والعقرب، ونحو ذلك، وقد تطلق بإطلاق أوسع من هذا، فيدخل فيه الحية والعقرب، ويدخل فيه سائر أنواع الحشرات، كل ذلك يقال له: هوام الأرض.

فعلى كل حال هذه هرة، سجنتها هذه المرأة، فدخلت بسببها النار، فكيف بشعب كامل يحاصر سنوات في العراق حتى يموت الملايين من الجوع، ويجوع الأطفال، ويحاصرون، يمنعون من الدواء والطعام نحو سنوات، هذه لا يمكن أن تذهب عند الله وقد تعم بسببها العقوبة، هذا أمر لا يمكن أن يذهب هكذا، أكثر من عشر سنوات يحاصرون، ويجوعون، ثم بعد ذلك تفعل بهم الأفاعيل، ولا زال، فهذا لا يذهب عند الله.

وانظر أيضًا إلى إخواننا في فلسطين، في غزة، يحاصرون، وتمنع عنهم مقومات الحياة والكهرباء، وما إلى ذلك، ما ظنكم بهؤلاء الذين في المستشفيات يعيشون على الأكسجين، ويعيشون على أشياء، وما إلى ذلك، فإذا انقطع الكهرباء؛ مات في لحظات، يختنق إلى غير هذا من الصور التي تعرفون، الأجهزة التي لحضانة الأطفال، والمرضى، والذين أجريت لهم عمليات، فهم على أجهزة كهربائية، وما أشبه ذلك، إذا انطفأ الكهرباء ما الذي يحصل؟

يتعطلون، يموتون، حينما يطفأ الكهرباء في مستشفى، تطفأ المكيفات فقط في الصيف، ما حال الجرحى، وما حال العمليات، وما حال من الالتهابات، والتعب، والآلام، والشدة التي يلقونها، فكيف بهؤلاء يحاصرون سنوات، أكثر منطقة فيها كثافة سكانية في العالم، يحاصرون، والعالم يتفرج، هذه لا يمكن أن تذهب عند الله أبدًا.

وانظروا إلى بعض من تولى كبر ذلك، تولى حصارهم، انظروا الآن ماذا فعل الله به، الذي كان يبني سورًا عازلاً لئلا يصل إليهم من تحت الأرض شيء من الطعام أو الدواء، أو نحو هذا، انظروا الآن ما نزل به من عذاب الله وبأسه، ونقمته، وهذه آية وعبرة عظيمة جدًا، فالله يمهل، ولا يهمل، فهذه امرأة دخلت النار في هرة، فكيف بأمة كاملة، أمة من الناس في بلد يحاصرون، ويعذبون، ويحرمون من مقومات العيش في زمان يتشدق الغرب فيه بحقوق الإنسان والحرية، ويحاسب الدول على أمور لربما تكون قضايا فردية حصلت هنا وهناك، ويحصيها، وبالأسماء في التقارير السنوية، وينسى ما يعامل به الأمم بالجملة، وأمور غير خافية على أحد منكم، والله المستعان، فنسأل الله العافية، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يرينا في أعدائه عجائب قدرته، ويشفي صدور قوم مؤمنين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، برقم (495)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (572).
  2. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في ضرب النساء، برقم (2146)، وصححه الألباني.
  3. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3482)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة، برقم (2242).
  4. انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي (6/207).

مواد ذات صلة