الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
حديث "جاء إبراهيم بأم إسماعيل وبابنها.." (2-2)، «الكمأة من المن..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي حديث أم إسماعيل في رواية: فجاء -يعني إبراهيم فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت امرأته: ألا تنزل فتطعم، وتشرب، قال: وما طعامكم؟ وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال: فقال أبو القاسم ﷺ: بركة دعوة ٌإبراهيم  يعني في الطعام والشراب، طعامهم اللحم، وشرابهم الماء، وقد مضى أنهما لا يخلو بهما أحدًا، يعني في غير مكة- إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فقرئ ومريه يثبت عتبة بابه، وعرفنا أن المرأة يكنى عنها بذلك، يقال: عتبة الباب؛ لأنها تصون البيت، وتحفظه، أو لمعنى آخر كالوطء، فهو أمر مشترك، فلما جاء إسماعيل، قال: هل أتاكم من أحد؟

وذكرنا من قبل أنه جاء في بعض الروايات: أنه وجد ريح أبيه، قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة هذه المرأة الشاكرة، المرأة الثانية، وأثنت عليه، فسألني عنك، فأخبرته، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشي؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذلك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله.

هل يؤخذ من هذا: أن الرجل إذا قال لابنه: طلق امرأتك أنه يجب عليه أن يطيعه في ذلك؟

الفقهاء -رحمهم الله- يذكرون في هذا الباب، في هذه المسألة: مسألة تطليق المرأة بأمر الوالد، وهل هذا من البر الواجب، أو لا، ويذكرون أثر عمر لما أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته[1] فالنبي ﷺ أشار عليه بذلك يعني بطاعة أبيه، فالفقهاء يقولون كالإمام أحمد، وغيره: "إذا كان أبوه بمنزلة عمر أطعه" أو يقول: "إن لم يبق عليه من بر أبيه إلا تطليق امرأته كما يقول الإمام أحمد طلقها"[2] ما معنى هذا الكلام؟

الذين قالوا: إن كان أبوه بمنزلة عمر، يعني في الورع، فعمر لم يأمر ابنه أن يطلقها لحظ نفسه، كذلك إبراهيم لكن الأب الذي لا يكون بمنزلة عمر، قد يأمره أن يطلقها؛ لأنها ما راقت له، وبهذا لا يجب عليه أن يطيعه في تطليق امرأته، لكن إن كانت هذه المرأة سيئة، كانت غير عفيفة، فأمره أبوه لمعنى شرعي، فهنا يتجه القول بأنه يطيعه.

وقول الإمام أحمد: "إن لم يبق عليه من بر أبيه إلا تطليق امرأته طلقها" بمعنى أنه بقي له مراتب كثيرة من البر، وأمور هو يقصر فيها، فلم تقف القضية إلا عند تطليق المرأة، يقول: برًا بأبي، يعني من كان مكملاً للبر في جميع نواحيه، وما بقي عليه إلا هذا فقط، يطلق امرأته، لكن لو أنه فتش، ونظر لوجد أنه مقصر في البر مع أبيه بأشياء، وأن ذلك لم يقف عند هذا.

الشاهد: ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبل له تحت دوحة قريبًا من زمزم، يعني: يبري السهام التي يوضع فيها النصال، فلما رآه قام إليه، فصنع كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد يعني من المعانقة، ونحو ذلك كالمصافحة، قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني، قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتًا ها هنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127].

بعضهم يقول: القواعد كانت موجودة، وإبراهيم رفع البناء عليها، وعلى كل حال، بعضهم يقول: البيت بني قبل ذلك، ولكنه ذهبت معالمه أيام الطوفان، وبعضهم يقول غير هذا، بعضهم يقول: أن أول من بناه هو إبراهيم وشوهدت هذه القواعد، -وهي لا زالت موجودة إلى اليوم- شوهدت هذه القواعد لما حفر في وقت ابن الزبير وأعيد بناء الكعبة، فأعاد بناءها على قواعد إبراهيم فوصفها الذين شاهدوها، وأشهدهم عبد الله بن الزبير على ذلك، كأسنمة الإبل، قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه وهو مقام إبراهيم، وهذا يدل على طول إبراهيم يعني كان يرتقي على هذا الحجر، ويبني إلى أعلى بناء الكعبة، يعني هذا البناء الذي نشاهده الآن هو الذي كان على عهد إبراهيم يعني بهذا الارتفاع بناها إبراهيم ولم يكن يصعد إلا على هذا الحجر، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].

وفي رواية: أن إبراهيم خرج بإسماعيل وأم إسماعيل معهم شنة فيها ماء[3]  والشنة يعني: السقاء، أو القربة، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة، فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله يعني في الشام، فاتبعته أم إسماعيل، حتى لما بلغوا كداء، نادته من ورائه يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله، فرجعت، وجعلت تشرب من الشنة، ويدر لبنها على صبيها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا، قال: فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت، ونظرت هل تحس أحدًا، فلم تحس أحدًا، فلما بلغت الوادي سعت، يعني بين الصفا والمروة، وأتت المروة، وفعلت ذلك أشواطًا، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت، ونظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت، ينشغ: صوت مثل الشهيق من الصدر، كأنه سيموت كأن روحه ستخرج، فلم تقرها نفسها، يعني ما طاوعتها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت، ونظرت، فلم تحس أحدًا حتى أتمت سبعًا، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل فقال: بعقبه هكذا، وغمز بعقبه على الأرض، فانبثق الماء يعني انفجر، فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تحفن وذكر الحديث بطوله[4] وفي رواية: تحفر[5] وفي رواية: تحوضه[6] كما سبق، وهي التي رجحها الحافظ ابن حجر -رحمه الله- تحوضه تقول بيدها هكذا، يعني تجعل له كالحوض ليجتمع الماء، وأن النبي ﷺ قال: رحم الله أم إسماعيل، وأنها لو تركته لكان عينًا معينًا يعني: يسيل يظهر على الأرض، لا يحتاج إلى استخراج بالدلاء، رواه البخاري[7] بهذه الروايات كلها.

والدوحة هي: الشجرة الكبيرة، وقوله: قفا أي: ولَّى، والجري: الرسول، وألفى أي: وجد، وقوله: ينشغ أي: يشهق، هذا ما ذكره النووي -رحمه الله- في تفسير هذه الألفاظ[8].

الحديث الأخير في هذا الباب، وهو حديث سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين[9] متفق عليه.

 الكمأة من المن الكمأة: معروف، وهو ما نسميه اليوم بالكمأة، أو يجمع على ذلك، ويقال: الفقع، فهذا من المن، ومعنى كونه من المن: يعني الله -تبارك وتعالى- قال: ممتنًا على بني إسرائيل: وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57] وقد ذكر في المن الذي أنزل على بني إسرائيل أقاويل، والجامع لتلك الأقاويل، أقوال المفسرين، أقوال السلف، هو: أن ذلك يصدق على ما لا عمل للإنسان فيه، كل ما ليس للإنسان فيه عمل فهو من المن، فكان يخرج لهم ذلك، سواءً قيل المن: هو مثل الصمغة الحلوة، مثل العسل ينزل على الأشجار، أبيض كالعسل، هذا لا عمل لهم فيه، وكذلك المن هذا الكمأة، هو يخرج من غير زرع الإنسان، ولهذا هم كانوا أهل بطر، وجحود للنعم، فقالوا: تمنوا، قالوا: إنهم يريدون البصل، والثوم، وما إلى ذلك، مما يزرعه أهل القرى، مما يزرعه الناس، ويتعبون في سقيه وزرعه، فالله -تبارك وتعالى- أمرهم أن يدخلوا مصرًا من الأمصار، وليس مصر البلد المعروف فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وقال لهم: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61] يعني ادخلوا مصرًا من الأمصار، قرية من القرى، فهذه تزرع في القرى، فتجدون بغيتكم.

فالشاهد: أن هذا الكمأة هو من جملة المن، يعني مما يمتن الله به على العباد، من غير كد، ولا سعي، ولا عمل، ولا زرع يزرعونه، فهذا من جملة المن، المن يدخل فيه أشياء متعددة منها هذا الكمأة من المن وكون الكمأة من المن، هل يعني هذا أنها طعام يحمل خصائص غذائية عالية، وجيدة، وما إلى ذلك؟

لا، الحديث ليس فيه ما يدل على هذا، والعلماء كابن القيم -رحمه الله- وهو ينقل عن القدماء من الأطباء يقولون: "هي من الأغذية الرديئة"[10] يعني ليست يعني لا تحمل خصائص عالية، وجيدة، من الناحية الغذائية، لكن هو من نعم الله وهذه النعم معلوم أنها تتفاوت، فهذا العسل ليس كالكمأة، وهذا الكمأة أيضًا في نفسه يتفاوت منه العساقل، منه:

ولقد جنيتك أكمؤًا وعساقلاً ولقد نهيتك عن بنات الأوبر[11]

 هذان نوعان، الناس اليوم يقولون: الزبيدي، والخلاسي كذا، فهي أنواع، وتتفاوت في جودتها، وفي قيمتها، وفي إقبال الناس عليها، وإيثارهم لها، وما إلى ذلك، فهنا: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين يعني هذا حينما يستخرج الماء الذي فيها، وتعصر، فإنه تعالج فيها العين، ومن شاء فليراجع ما ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في الهدي النبوي، زاد المعاد، قد تكلم حينما تحدث عن الطب والأغذية، تحدث عن الكمأة، وما قيل فيه[12]، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.

  1. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الطلاق واللعان، باب ما جاء في الرجل يسأله أبوه أن يطلق زوجته، برقم (1189) وقال: هذا حديث حسن صحيح إنما نعرفه من حديث ابن أبي ذئب. وقال الألباني: ورجاله رجال الشيخين غير الحارث بن عبد الرحمن القرشي وهو صدوق. انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (7/137).
  2. انظر: طبقات الحنابلة، لأبي الحسين ابن أبي يعلى (1/171).
  3. أخرجه الإشبيلي في الجمع بين الصحيحين، برقم (5266).
  4. أخرجه ابن الأثير في جامع الأصول في أحاديث الرسول، برقم (7819).
  5. أخرجه السوسي في جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد، برقم (8319).
  6. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، برقم (3364).
  7. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، برقم (3364).
  8. انظر: رياض الصالحين، للنووي (523).
  9. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: وقوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57]، برقم (4478) ومسلم، كتاب الأشربة، باب فضل الكمأة، ومداواة العين بها، برقم (2049).
  10. انظر: الطب النبوي (25) وزاد المعاد (28) لابن القيم.
  11. انظر: مجمع الأمثال، للنيسابوري (1/169).
  12. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم (4/329).

مواد ذات صلة