الإثنين 10 / ربيع الآخر / 1446 - 14 / أكتوبر 2024
حديث «يأكل أهل الجنة فيها..»، «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: ففي باب بيان ما أعد الله للمؤمنين في الجنة أورد المصنف رحمه الله حديث جابر قال: قال رسول الله ﷺ: يأكل أهل الجنة فيها، ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يبولون، ولكن طعامهم ذلك جشاء كرشح المسك، يلهمون التسبيح، والتكبير، كما تلهمون النفس[1] رواه مسلم.

قوله ﷺ: يأكل أهل الجنة فيها، ويشربون يأكلون، ويشربون؛ لأن الأكل، والشرب من أعظم اللذات التي يلتذ بها أهل الدنيا، وقد جعل كثير من نعيم الجنة على وزان ما عرف في الدنيا من حيث الأصل، وإن كانت الحقيقة والصفة تختلف، فهم يأكلون، ويشربون، وينكحون، ويتطيبون، وما إلى ذلك من الأشياء التي يلتذ بها أهل الدنيا، لكن الحقائق تختلف تمامًا عما في الدنيا، ولا قياس.

فهنا يأكلون ويشربون، أكلهم هذا وشربهم ليس من جوع، فالجنة ليس فيها جوع، والله قال لآدم وحواء: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى فهم حينما يأكلون ويشربون، ليس ذلك نتيجة لجوعهم، وحينما يلبسون السندس والاستبرق، وما إلى ذلك فليس ذلك لعريهم، الجنة ليس فيها عري، وهكذا حينما يتزينون ويتحلون بالحلي، الأساور من فضة، وما إلى ذلك، فليس ذلك لنقص في الجمال، فهم في غاية الجمال، ولكن لما كان ذلك مما يتنعم به في الدنيا كان لهم منه أوفر النعيم في الجنة، وإلا فالحلي في الدنيا لو أن الرجل لبسه، لو لبس الرجل الأسورة من الذهب، والقلائد فإن ذلك يكون شينًا في حقه، لكن المرأة تلبسه تكميلاً لنقيصة كما هو معلوم، كما قال الشاعر:

وما الحلي إلا حيلة لنقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
فأما إذا كان الجمال موفرا كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا[2]

فمثل هذا إنما يكون في الدنيا من أجل تكميل النقص.

فهنا يأكلون، ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يبولون جرت العادة أن الإنسان في الدنيا كما قال الله عن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-: لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ فإذا كانوا يأكلون الطعام فمعنى ذلك أنهم يحتاجون إلى الخلاء هذا من لازمه، وهكذا جبل الله الآدميين، أما في الجنة: فيأكلون، ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يبولون بمعنى: أنه لا يكون منهم هذه الأمور المستقذرة التي تكون منفرة، وتكون خلاف النعيم، فالجنة ليس فيها أذى، جميع أنواع الأذى الحسي والمعنوي لا وجود له فيها.

فهنا إذن هذه الأشياء التي يأكلونها ليس فيها كما في أطعمة الدنيا، يمتص الجسم ما فيها من الغذاء، وما ينفع، وما يكون فيها فضلة فإنه يخرج عن طريق هذه الأمور، هناك في الجنة هذه الأطعمة ليس فيها شيء كذلك، ليس فيها فضلة، يعني: لا يكون غذاء، كل ما فيها فهو غذاء، ومن ثم فهم يلتذون بها، ولا يحتاجون إلى مثل هذا، والذهاب إلى الخلاء ليس ذلك من النعيم في أصله، بل هو نقص جبلي في الإنسان، طيب إذن هذا الطعام ماذا يحصل له؟

قال: ولكن طعامهم ذلك جشاء كرشح المسك يعني: يخرج على هيئة الجشاء، والجشاء معروف، لكن الجشاء أيضًا شيء غير محبب إلى النفوس، يعني أن الناس إذا رأوا ذلك، أو سمعوه، أو نحو ذلك، فإن نفوسهم لا تقبل عليه، ولا تحبه، إذًا الذي في الجنة يكون جشاء، وكرشح المسك، يعني: أنه يختلف عن الجشاء الذي يكون في الدنيا، فإن حقيقة الجشاء الذي يكون في الدنيا هي أبخرة تتصاعد من المعدة، أما الذي في الجنة فهو كرشح المسك، وهذا نعيم لا عهد للناس به.

قال: يلهمون التسبيح والتكبير، كما تلهمون النفس[3] رواه مسلم.

يلهمون التسبيح الجنة ليس فيها تكاليف، إنما يكون ذلك من جملة نعيمهم، بحيث لا يحتاج إلى تكلف، ولا مشقة، ولا ملاحظة، وتعاهد، وما إلى ذلك، إنما يكون كالسجية، بل يكون سجية لهم كالنفس، لا يجد الإنسان كلفة حينما يتنفس، وإنما يكون شيئًا تلقائيًا، فهذا التسبيح والتحميد، أو التسبيح والتكبير يلهمونه كما يلهمون النفس، وهذا يدل على أن التسبيح والتكبير أن ذكر الله هو في الواقع من جملة النعيم، ومن أراد النعيم في الدنيا، وانشراح الصدر والسعادة والراحة فعليه بالإكثار من ذكر الله -تبارك وتعالى- نحن دائمًا نقول لأولئك الذين يعانون من ضيق في الصدر، من اكتئاب، من وحشة، نقول: أكثر من ذكر الله فالقلب يستوحش، إذا جف من ذكر الله -تبارك وتعالى- فالذكر له كالماء بالنسبة للسمك، فإذا خرج منه فإنه يهلك.

ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال الله تعالى وهذا الحديث المسمى بالقدسي أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت.

والصالحون المراد بهم من صح اعتقادهم، يعني: أهل الإيمان، وأيضًا كانوا على تقوى وعمل مرضي، يعني: على السنة، أهل التقوى، أهل الصلاح، وليسوا أهل الكفر، أو أهل الفجور، أو أهل الضلال أعددت لعبادي الصالحين ماذا يكون الإنسان صالحًا؟

أن يكون موحدًا مؤمنًا، وأن يكون أيضًا سالمًا مما ينافي الصلاح، الإنسان قد يقع في المعصية، لا يسلم أحد، لكن يبادر إلى التوبة، أما الذي يكون مصرًا على الضلال، على الفجور، على الانحراف، فإنه لا يكون صالحًا (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر[4].

هذه ثلاثة أشياء، يعني مدارك الإنسان منقسمة على هذه الأمور الثلاثة: إما أمور يشاهدها بعينه، وإما أشياء يسمع عنها، وإن لم يرها، يقال: في الأرض الفلانية يوجد الأنهار الفلانية، والنباتات الفلانية، أو يعقل ذلك بقلبه، وقد يكون ذلك من باب ما يفترضه القلب كما يسمونه بالتخيل، يعني: الخيال الذي يكون عند الإنسان، يقال: فلان خياله واسع، فمهما تخيل الإنسان، ومهما حاول أن يتصور نعيم أهل الجنة، فإن النعيم الذي أعده الله -تبارك وتعالى- فوق ما يتخيل، هذا شيء لا يخطر على قلب بشر.

الذي ذكره الله لنا: الأنهار، والأشجار، والجنات، وما إلى ذلك من الثمار، والصحاف، والذهب، والسندس، والإستبرق، إلى غير ذلك من نعيم أهل الجنة من الحور العين، وغير هذا، هذا ذكره، هناك أشياء لم تذكر؛ لأنها أشياء لا يمكن للعقل أن يتصورها، ولا يمكن للقلب أن يحيط بها، فهي أمور لا تخطر على البال، ولم تسمع الآذان بها حتى يذكر له شيء يعرفه، فيقال: هذا مثل الشيء الفلاني، لم يره، ولم يسمع به، وما خطر أيضًا على قلبه، هناك أشياء ما رآها الإنسان، ولا سمع بها، ولكنها تخطر على القلب، كأن يتصور الإنسان مثلاً لو أن خيلاً لها أجنحة، مثلاً، يركبها، ويطير بها، أو سيارة لها أجنحة، إذا جاء الزحام طار بها، مثلاً، أو نحو ذلك من الأمور، هناك في الجنة أشياء لا تخطر على البال.

قال: اقرؤوا إن شئتم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ النفس هنا منكرة، يعني: أي نفس مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[5] مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وقرة العين يعني: ما تقر به العين ، والقر معروف أنه البرد، فيقال: سخنت عينه البعيد، يعني دعاء عليه بالحزن؛ لأن دموع الحزن حارة ساخنة، وأما دموع الفرح، ودموع الرضا، ودموع الغبطة، وما إلى ذلك فتكون باردة، فيقال: أقر الله عينك بكذا، هذا دعاء له بالسرور، والفرح بحصول بغيته، وتحقق مطلوبه، فهنا هذه الآية: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ قال الله قبل ذلك: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فهؤلاء تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ في جوف الليل لا يطلع عليهم أحد، يقومون الليل، يحيونه بالعبادة، والذكر، والصلاة، والاستغفار، وفي الأسحار، فأخفوا أعمالهم عن الناس، فأخفى الله جزاءهم، فذكر بعدها قوله: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كما جاء عن بعض السلف في تفسير هذه الآية من سورة السجدة، أخفوا صلاتهم، وعبادتهم في جوف الليل، فأخفى الله لهم الجزاء، والجزاء من جنس العمل، وهكذا.

وعلى كل حال هذا كله مما يحفز النفوس على الاشتغال بالعمل الصالح، والتقرب إلى الله -تبارك وتعالى- وشراء المنازل الرفيعة في الجنة، فالجنة تحتاج إلى صدق مع الله، تحتاج إلى إخلاص، تحتاج إلى أعمال صالحة، تحتاج إلى أن يقدم الإنسان، ويبذل حتى يحصل منزلاً في الجنة، ونحن حينما نريد أن نحصل شيئًا في الدنيا، نبذل كثيرًا من الوقت، ومن الجهد، والعمل المتواصل، في أطراف النهار، وفي الحر، والبرد، كل هذا من أجل شيء من حطام هذه الدنيا القليل، الذي لا يأتي إلا بالتعب، ولربما يذهب بطرفة عين، لكن هذا النعيم الذي في الجنة ماذا يحتاج؟

يحتاج إلى عمل حقيقي، يحتاج إلى توبة، أن نتوب إلى الله، وأن نصدق معه، والله تعالى أعلم.

أسأل الله أن يجعلني وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من أهل الجنة، وأن يغفر لنا ويرحمنا ويعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا، برقم (2835).
  2. انظر: التمثيل والمحاضرة، للثعالبي (286).
  3. أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا، برقم (2835).
  4. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3244)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم (2824).
  5. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3244)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم (2824).

مواد ذات صلة