إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نشرح حديثًا جديدًا من الأحاديث الواردة في دعاء الاستفتاح؛ وذلك ما يرويه أبو سلمة ابن عبدالرحمن، عن عائشة -رضي الله عنها- حينما سألها: بأيِّ شيءٍ كان نبيُّ الله ﷺ يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاتَه: اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السَّماوات والأرض، عالم الغيب والشَّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنَّك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مُستقيمٍ[1].
هذا الحديث -كما هو ظاهرٌ- كان النبيُّ ﷺ يقوله في افتتاحه لصلاة الليل، وهو مُتضمن لمعنًى عظيمٍ يفتقر إليه كلُّ أحدٍ من هداية الله -تبارك وتعالى-، يحتاج إليه العالـم، والجاهل، وطالب العلم، والمفتي، والمعلم، والتَّلاميذ، والرَّجل، والمرأة، والصَّغير، والكبير، لا يستغني أحدٌ عن هداية الله -تبارك وتعالى- طرفةَ عينٍ، لا سيّما فيما اختلف الناسُ فيه.
وقد ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين": بأنَّه حقيقٌ بالمفتي أن يُكثر من هذا الدُّعاء[2]. يقول: "وكان شيخُنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- كثير الدُّعاء بذلك"[3].
وقوله هنا في هذا الحديث: "كان إذا قام من الليل افتتح صلاته"، أي: افتتح صلاةَ الليل، أو افتتح صلاةَ نفسه بهذا الدُّعاء.
هنا سأل أمّ المؤمنين: بأيِّ شيءٍ كان نبيُّ الله ﷺ يفتتح صلاته؟ وكان جوابها: "كان إذا قام من الليل افتتح صلاتَه: اللهم ربّ جبرائيل"، يعني: صلاةَ نفسه.
وقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان إذا قام من الليل افتتح صلاته" هذا الأقرب أنَّه مُطابقٌ للسؤال، أي: أنَّه يفتتح صلاةَ نفسه بهذا الدُّعاء، مع أنَّ من أهل العلم مَن حمل ذلك على أنَّه يفتتح صلاةَ الليل بهذا الدُّعاء.
فقوله: اللهم ربّ جبرائيل عرفنا أنَّ المعنى: "يا الله"، وأنَّ هذه الميم هي عِوض عن ياء النِّداء: يا الله، يا ربّ جبرائيل.
وجبرائيل هذه كلمة ليست عربيةً، وكذلك أيضًا إسرافيل وميكائيل، فهذه كلمات غير عربيةٍ، وبعض أهل العلم يُفسِّر ذلك بأنَّ الشِّقَّ الثاني منها بمعنى: الله، وأنَّ الشقَّ الأول بمعنى: عبد، هكذا قالوا، يعني: أنَّ الترجمة: عبدالله، يقولون: بأنَّ جَبْرَى مُعرَّب من كَبْرَى، والعرب تتصرَّف في الأسماء بما يتَّفق مع ألسنتها، يعني: لا يأتون بالألفاظ الأعجمية المنقولة عن اللُّغات الأخرى حرفيًّا كما هي، وإنما يتصرَّفون فيها بما يتَّفق مع ألسنتهم، بمعنى: أنَّهم لا يتكلَّفون في نطقها كما تنطق الأعاجم الذين انعقدت ألسنتُهم على تلك اللغات الأعجمية، وإنما يتوسَّعون في ذلك ويتساهلون، فيقولون: أصله يعني: كبرى، وأنَّ (إيل) أي: الله، وهكذا ميكائيل وإسرافيل، يقولون: المعنى: عبدالله، هكذا قالوا -والله تعالى أعلم-، وهكذا يقولون في: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:40] أي: عبدالله.
اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل لا شكَّ أنَّ تخصيصَ هؤلاء الملائكة الكرام الثلاثة يدلّ على منزلتهم وشرفهم، وعلى عظيم قدرهم، هذا قدرٌ لا إشكالَ فيه، والله -تبارك وتعالى- هو ربّ كل شيءٍ ومليكه، وهو خالق الخلق أجمعين، ولكن هذه الإضافة لهؤلاء الثلاثة، فخصّهم بالذكر لمزيتهم وشرفهم، ولربما لمعنًى يتَّصل بهذا الدعاء كما سيأتي، وإلا فإنَّ الله -تبارك وتعالى- هو ربّ جميع المخلوقات، كما هو معلومٌ، وهذا كثيرٌ في نصوص الكتاب والسُّنة؛ فالله -تبارك وتعالى- هو رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ [المؤمنون:86]، مع أنَّه ربّ كلِّ شيءٍ، والله - تبارك وتعالى- هو رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، وربّ الملائكة والروح، مع أنَّه ربّ كلِّ شيءٍ، وهكذا هو رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17]، وربّ الناس، مع أنَّه ربُّ جميع الخلائق، فلا يخرج أحدٌ من الخلق عن ربوبيَّته -تبارك وتعالى-، ولكن كلّ ذلك يُذْكَر على سبيل التَّعظيم لله ، حيث إنَّه ربّ هذه المخلوقات العِظام؛ ولذلك لا يحسُن أن يُضاف إليه من جهة الربوبية بعض ما يتحاشى ذكره ونسبته من الأشياء الحقيرة التي لا قدرَ لها؛ فلا يُقال: ربّ كذا، وربّ كذا، وربّ كذا، لكن يُقال على سبيل العموم: الله ربّ الخلق، وهذه من جملة الخلق، لكن لا يحسُن تخصيصها بذلك، ولا داعي للتَّمثيل بهذه الأشياء الحقيرة من الهوامّ ونحو ذلك مما لا يحسُن التَّمثيل بها، وإلا فهي من جملة خلق الله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.
وعلى كل حالٍ، تخصيص هؤلاء الملائكة الثلاثة في هذا الذكر والدّعاء العلماء -رحمهم الله- يذكرون فيه أوجهًا؛ كقول الحافظ ابن حجر المكي -رحمه الله-: بأنَّ ذكر جبريل باعتبار أنَّه أمين الكتب السَّماوية، فسائر الأمور الدِّينية راجعةٌ إليه[4]، قدَّمه بهذا الاعتبار، وأنَّه أخَّر إسرافيل لأنَّه أمين اللوح والصُّور[5]. هكذا قال.
وعلى كل حالٍ، قال: "فإليه أمر المعاش والمعاد، ووسط ميكائيل لأنَّه أخذ بطرفٍ من كلٍّ منهما؛ لأنَّه أمير القَطْر والنَّبات ونحوهما مما يتعلَّق بالأرزاق المقومة للدِّين والدنيا والآخرة"[6]، إلى آخر ما قال.
هذا من جهة ذكر هؤلاء الثلاثة على هذا الوجه من الترتيب -والله تعالى أعلم بذلك-، والمقصود أنَّ ذكر هؤلاء الثلاثة يدل على شرفهم، وهذا فيه التَّوسل إليه بربوبيته العامَّة والخاصَّة لهؤلاء الثلاثة من الملائكة الموكّلين بهذه المهام والأعمال العظيمة الجليلة؛ فجبريل ﷺ مُوكَّلٌ بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل مُوكَّلٌ بالقَطْر الذي به حياة الأرض والنَّبات والحيوان، وإسرافيل مُوكَّلٌ بالنَّفخ في الصُّور الذي فيه حياة الخلق بعد مماتهم. هذا مما ذُكِرَ في تخصيص هؤلاء الملائكة الثلاثة في دعاء الاستفتاح.
وعلى كل حالٍ، يأتي كلامٌ أوضح من هذا وأكثر بسطًا مما ذكره بعضُ أهل العلم.
أما قوله: فاطر السَّماوات والأرض الفاطر يعني: الذي أوجد على غير مثالٍ سابقٍ، يعني: المبدع والمخترع، خالقٌ للسَّماوات والأرض على غير مثالٍ سبق.
عالم الغيب والشَّهادة يعلم ما غاب وما ظهر، فالكل عنده سواء، لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض، ولا في السَّماء.
أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون يحكم الله بين هؤلاء العباد بين المحقِّ والمبطل، وبين الظالم والمظلوم، فهذه الخلائق والعباد يأتون يوم القيامة بأعمالٍ وأديانٍ وجناياتٍ، فالله -تبارك وتعالى- يحكم بينهم في ذلك، فيتبين المحقُّ من المبطل، وهذا التَّنازع الذي بين أهل الأديان، وهذا التَّنازع الذي يكون بين طوائف الأُمَّة، الله -تبارك وتعالى- يحكم بينهم في ذلك كلِّه، فيما اختلفوا فيه من أمر الدِّين.
اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك الهداية هنا تشمل هدايةَ الإرشاد، أي: يدلّه على الحقِّ، أي: يعرفه به، فإنَّه قد يخفى، وقد يلتبس، وتتشابه الأقوال والمذاهب، فلا يستطيع أن يميز المحقّ من المبطل.
وكذلك أيضًا يشمل ذلك هدايةَ التوفيق، أي: يُلهمه الحقَّ، وأن يدلّه عليه، أي: يُوفِّقه للعمل به، وتَبَنِّيه، فيكون ممن يعتنقه ويقبله، ويأخذ به، ويعمل بمُقتضاه، فهذه كلّها داخلةٌ فيه، والله يقول: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].
فهذا الدُّعاء -أيّها الأحبّة- فيه هذا المطلوب العظيم، جليل القدر، وهو طلب العبد من ربِّه -تبارك وتعالى- الهداية التي عليها مدار النَّجاة والفلاح والسَّعادة في الدنيا والآخرة.
والحافظ ابن رجب -رحمه الله- أورد سؤالاً: ما وجه سؤال المؤمن من ربِّه -تبارك وتعالى- الهداية؟
فذكر أنَّ الهدايةَ على نوعين: هداية مُجملة، وهي الهداية إلى الإسلام، يعني: بعض الناس يقول: الله هدانا إلى الإسلام، فلماذا نسأل الهداية؟!
فابن رجب يقول: الهداية نوعان: هداية مُجملة، وهي الهداية إلى الإسلام، فهذه هدى الله لها أهل الإيمان. والنوع الثاني من الهداية: وهي الهداية المفصّلة، فهي هداية إلى معرفة تفاصيل الإيمان والإسلام، وأن يُعان الإنسانُ على معرفة ذلك، والعمل به، مع الإيمان واليقين.
فهذا كلّه يحتاج العبدُ إليه ليلاً ونهارًا؛ ولهذا أمرنا أن نقرأ في كل ركعةٍ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6][7]، ومن ثم فإنَّ قولَ العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ -كما ذكرنا في بعض المناسبات- يشمل أن يُهدى الإنسانُ -إن كان مسلمًا- إلى تفاصيل الصِّراط المستقيم، فإنَّ هذه الشَّريعة واسعة، وأحكامها متنوعة، والأعمال التي فيها وأبواب الأعمال والخيرات والمشروع من ذلك واسعٌ جدًّا، ولو أنَّ الإنسان استغرق العمر من أوله إلى آخره في تطلب بابٍ من الأبواب ليعمل به بعد الفرائض؛ فإنَّه قد ينقضي العمر وما أدرك آخره، أو ما أحاط به، فيكون مُشتغلاً بالمفضول عن الفاضل أحيانًا، والعمر قصيرٌ.
وكذلك أيضًا قد يلتبس عليه الحقُّ، وقد يبحث ويقرأ، ولكنَّه لا يُوفَّق، فيحتاج إلى هدايةٍ للعلم الصَّحيح، وهدايةٍ إلى العمل به، وهدايةٍ إلى أن يعرف الأفضل من الأعمال، وهدايةٍ ليثبت على ذلك إلى الممات.
فالعبد بحاجةٍ إلى هذه الهدايات الكثيرة المتنوعة، ومن أحسن مَن تكلَّم فيما وقفتُ عليه من كلام أهل العلم في شرح هذا الحديث الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في "مفتاح دار السعادة"، فهو -رحمه الله- ذكر ما حاصله: أنَّ الهدايةَ هي العلم بالحقِّ، مع قصده، وإيثاره على غيره، فالمهتدي هو العامل بالحقِّ، المريد له، يعني: يعمل به ويقصده ويُريده ويُؤثره على غيره[8]، فهذه إذا حصلت للعبد فلا شكَّ أنها أعظم نعمةٍ؛ ولهذا أمرنا الله -تبارك وتعالى- أن نُردد هذا السؤال في كل يومٍ وليلةٍ في صلواتنا الخمس؛ لشدّة حاجة العباد إلى معرفة الحقِّ الذي يُرضي الله في كل حركةٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ، فإذا عرفها فهو محتاجٌ إلى مَن يُلهمه قصد الحقِّ، فيجعل إرادته في قلبه، ثم إلى مَن يُقدّره ويجعله قادرًا على فعله، ومعلومٌ أنَّ ما يجهله العبدُ أضعاف أضعاف ما يعلمه، وما يعلمه فإنَّ نفسَه قد لا تُطاوعه على العمل به، وامتثاله، والنُّهوض بما يجب من ذلك، ولو أراده لعجز عن كثيرٍ منه، فهو مُضطرٌّ في كلِّ وقتٍ إلى هدايةٍ تتعلق بالأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل.
أمَّا الماضي فهو محتاجٌ إلى محاسبة النفس عليه، هل وقع على الوجه المطلوب؟ وهل وقع على السَّداد؟ فيشكر ربَّه -تبارك وتعالى- على ذلك، أمَّا إن خرج عن وجه الحقِّ، فيتوب إلى الله تعالى منه ويستغفر، ويعزم على ألا يعود.
هكذا المؤمن دائمًا في مُراجعةٍ، لا يكون سادرًا، لا يلوي على شيءٍ، وإنما يُحاسِب نفسَه؛ لأنَّه سيأتيه اليوم الذي يقف فيه بين يدي الله ، فيُحاسَب على الصَّغير والكبير: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
وأمَّا في الحال؛ الهداية التي يحتاج إليها الحال: فهذه لا شكَّ أنها مطلوبة؛ لأنَّ الإنسان ابنُ لحظته، وحياة الإنسان هي اللحظة التي يعيشها الآن، وهي الحياة الحقيقية، أمَّا الذي مضى انتهى، وأمَّا ما يستقبل فلم يأتِ بعد، حياتك هي هذه، فاشتغل بإصلاحها وتعميرها بطاعة الله ، واجعل الذي بينك وبين الله عامرًا، إذا كان الذي بينك وبين الله عامرًا فلا يضرّك بعد ذلك لو كان الذي بينك وبين الخلق خرابًا، المهم أن يرضى الله -تبارك وتعالى-.
فهنا يحتاج العبدُ أن يعلم حكم ما هو مُتلبِّسٌ به الآن: هل هو على صوابٍ أو على خطأ؟ وهل هو على حقٍّ أو هو على باطلٍ؟
ثم هناك هداية تتعلق بالمستقبل؛ ليكون سيره على الطَّريق: الأشياء التي يُريد أن يعملها، والأشياء التي يقصدها، والأشياء التي يتوجّه إليها، فهذه هدايات لا يستغني عنها العبدُ بحالٍ من الأحوال، فإذا قال: اهدني، فإنَّ ذلك يدخل فيه هذه الأمور الثلاثة، فإذا كان هذا هو شأن الهداية عَلِمَ العبدُ أنَّه مُضطرٌّ إليها في كل لحظةٍ.
فكيف يأنف بعضُ الناس إذا قيل له: هداك الله؟! فيغضب وكأنَّه قد لحقته في ذلك مسبّة، أو نحو ذلك، هذا لا شكَّ أنَّه من قصور العلم، ومن نقص العقل في آنٍ واحدٍ.
فهنا يتبين أنَّ ذلك السؤال الذي قد يُورد: ما الحاجة لأن نسأل الله أن يهدينا الصِّراط المستقيم في كل ركعةٍ؟
يتبين أنَّ هذا السؤال لا محلَّ له، وأنَّ الإجابات التي قد تُذكر أحيانًا بمعنى: ثبِّتنا على الصِّراط، نحن اهتدينا، فقط ثبِّتنا؛ أنَّ هذا جوابٌ ناقصٌ، فإنَّه وإن كانت الهدايةُ هي بمعنى: الثَّبات، إلا أنَّه واحدٌ من معانٍ كثيرةٍ تدخل فيه.
ومن ثم -أيّها الأحبّة- فنحن دائمًا بحاجةٍ إلى تكرار وإعادة هذا الطَّلب والسؤال: أن يهدينا الله -تبارك وتعالى-، لا سيّما إلى ما اختُلف فيه من الحقِّ، وإلا فإنَّ العبدَ يضلّ إذا تخلَّى الله عنه طرفةَ عينٍ؛ إذا حُرِمَ العبدُ هدايةَ الله: توفيقه وتسديده.
ومن ثم -أيّها الأحبة- فإنَّ العبد لا يتحقق له ذلك إلا بتوفيق الله وإرشاده وتسديده، وأن تزول عنه جميعُ العوائق والصَّوارف والموانع؛ لأنَّه قد يريد العبدُ الهدايةَ، وقد يسعى لها، وقد يطلب الحقَّ وينشده، ولكن توجد عوائق وموانع وصوارف تحول بينه وبين الحقِّ، فإذا هدى اللهُ العبدَ فإنَّ ذلك جميعًا يزول عنه؛ فيعرف الطريق، ويعرف مراد الله -تبارك وتعالى- منه، ثم بعد ذلك تزول عنه جميعُ الصَّوارف والعوائق التي تحول دون الكثيرين، وتتلاشى عنه خواطر السُّوء، وما يُلقيه شياطين الإنس والجنِّ، والشَّهوات التي تصرفه عن الحقِّ، وتحول بينه وبين مُلازمته والعمل بمُقتضاه، فإنَّ العبدَ إذا تُرك مع هذه الشَّهوات والخواطر والوساوس فإنَّه يضيع، فهو بحاجةٍ إلى أن يتوسّل إلى الله -تبارك وتعالى- بمثل هذا التَّوسل، ويسأل الهداية.
فهنا انظروا: ذكر كونه فاطر السَّماوات والأرض، والمطلوب كما يقول ابنُ القيم: "تعليم الحقِّ، والتَّوفيق له"[9]، فذكر علمه بالغيب والشَّهادة، وأنَّ مَن هو: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] جديرٌ بأن يُطلب منه التَّعليم والإرشاد والهداية، فهو بمنزلة التَّوسل إلى الغنيِّ بغناه وسعة كرمه أن يُعطي عبدَه شيئًا من ماله، والتَّوسل إلى الغفور بسعة مغفرته أن يغفر لعبده، وبعفوه أن يعفو عنه، وبرحمته أن يرحمه، وهكذا.
فذكر هنا ربوبيَّته تعالى لجبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وانظروا كلام ابن القيم على هذا التَّخصيص، قال: "وهذا -والله أعلم- لأنَّ المطلوبَ هدًى يحيا به القلب، وهؤلاء الثلاثة الأملاك قد جعل اللهُ تعالى على أيديهم أسبابَ حياة العباد[10]، الحياة بأنواعها"، يقول: "أمَّا جبريل فهو صاحب الوحي الذي يُوحيه اللهُ إلى الأنبياء، وهو سبب حياة الدنيا والآخرة، وأمَّا ميكائيل فهو مُوكّل بالقطر الذي به سبب حياة كلِّ شيءٍ، وأمَّا إسرافيل فهو الذي ينفخ في الصُّور فيُحيي اللهُ الموتى بنفخته، فإذا هم قيامٌ لربِّ العالمين"[11].
ثم ذكر أنَّ الهدايةَ لها أربع مراتب:
المرتبة الأولى: الهداية العامَّة، وهي هداية كل مخلوقٍ من الحيوان والآدمي لمصالحه التي تقوم بها حياته، قال الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى الآيات [الأعلى:1-4]، الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى فذكر هذه الهداية؛ هداية المخلوقات لمصالحها وما تقوم به معايشها.
المرتبة الثانية: هي هداية البيان والدّلالة والإرشاد التي أقام بها حُجَّته على خلقه، فهذه لا تستلزم التَّوفيق، قال الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، بمعنى: بيَّن لهم الحقَّ من الباطل، لكنَّهم آثروا الباطلَ والكفر.
والثالث: هو هداية التَّوفيق والإلهام: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، فالدَّعوة لجميع الخلق: يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، والهداية لمن شاء، قال الله لنبيه ﷺ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، فهذه هي التي تكون مُوجبةً للاهتداء والاستقامة، وأمَّا التي قبلها -هداية الإرشاد- فتكون من قبيل الشَّرط لهداية التَّوفيق.
المرتبة الرابعة: وهي الهداية في الآخرة إلى طريق الجنَّة والنار، كما قال الله : احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات:22- 23]. هذا ما يتعلق بهذه الهدايات الثلاثة[12].
فنحن -أيّها الأحبّة- بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى أن نُكثر من هذا الدُّعاء، لا سيّما في هذه الأوقات التي كثر فيها الشَّر والفتن والاختلاف بين طوائف الأُمَّة من المنتسبين إلى العلم أو غيره، فالعبد حينما يرى ذلك، وما يُدار به هذا الخلاف للأسف الشَّديد، كما تُشاهدون عبر وسائل التَّواصل والاتِّصال من لغةٍ مُتدنيةٍ وضيعةٍ؛ فإنَّ ذلك يُوجب على العبد أن يُكثر من سؤال ربِّه -تبارك وتعالى- أن يهدي قلبَه، وأن يُوفِّقه للحقِّ، وأن يتجرَّد في طلبه للحقِّ، وألا يتعصَّب لشيخٍ، أو طائفةٍ، أو متبوعٍ، أو غير ذلك، وإنما يكون مقصودُه دائمًا الحقَّ، فيدور معه حيث دار، ولا يردّ الحقَّ؛ لأنَّه جاء عن طريق فلانٍ أو فلانٍ ممن يبغضه، أو من الطَّائفة الفلانية؛ لأنَّه يشنأها، ولا يُحبها، أو نحو ذلك، فإنَّ هذا لا يجوز، واليهود ردُّوا دعوةَ النبي ﷺ، سألوه: مَن الملَكُ الذي يأتيك؟ فلمَّا ذكر أنَّه جبريل، قالوا: إنَّ هذا هو الذي يأتي بالعذاب، وما إلى ذلك، يعني: تعذيب الأمم والهلاك والاستئصال، قالوا: لو كان الذي يأتي به ميكائيل لقبلنا ذلك.
فمثل هذا لا يصحّ بحالٍ من الأحوال، المؤمن يقبل الحقَّ ممن جاء به.
وأسأل الله أن يهدينا لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنه، إنَّه يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مُستقيمٍ، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (770).
- "إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين" ت. مشهور (6/197).
- "إعلام الموقعين عن ربّ العالمين" ت. مشهور (6/197).
- "فتح الإله في شرح المشكاة" لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي (ص53).
- "فتح الإله في شرح المشكاة" لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي (ص53).
- "فتح الإله في شرح المشكاة" لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي (ص53).
- "جامع العلوم والحكم" ت. الأرنؤوط (2/40).
- "مفتاح دار السعادة" (1/83).
- "مفتاح دار السعادة" (1/84).
- "مفتاح دار السعادة" (1/84).
- "مفتاح دار السعادة" (1/84).
- "مفتاح دار السعادة" (1/84).