الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نشرع في شرح دعاءٍ جديدٍ وذكرٍ جديدٍ من الأذكار التي تُقال في الاستفتاح، وذلك ما رواه جبيرُ بن مطعم : أنَّه رأى النبيَّ ﷺ يُصلي صلاةً، قال عمرو: لا أدري أيّ صلاةٍ هي؟ فقال: الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً –ثلاثًا-، وأعوذ بالله من الشَّيطان: من نفخه، ونفثه، وهمزه، قال عمرو: "نفثه: الشِّعر، ونفخه: الكِبر، وهمزه: الموتة"[1].
هذا الحديث أخرجه بعضُ أصحاب السُّنن: كأبي داود، وابن ماجه، وكذا الإمام أحمد -رحمه الله- في "مسنده"، احتجَّ به ابنُ حزمٍ -رحمه الله- في "المحلى"، وقد ذكر في مُقدمة هذا الكتاب: أنَّه لم يحتجّ فيه إلا بحديثٍ وخبرٍ صحيحٍ من رواية الثِّقات.
وحسَّنه الحافظُ ابن حجر، وقال ابنُ الملقن: صحيحٌ، أو حسنٌ. وقال العراقي: حسنٌ، مشهورٌ. وأشار الشيخُ أحمد شاكر إلى صحَّته، وكذا أيضًا قال الشيخ شُعيب الأرنؤوط: حسن لغيره. وقال أخوه الشيخ عبدُالقادر: صحيحٌ بشواهده. وأورده الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في "صحيح الكلم الطيب"[2]، وكذلك أيضًا في "صحيح ابن حبان"، قال: صحيحٌ لغيره. دون قوله: ثلاثًا، وضعَّفه في "المشكاة"، وفي "ضعيف أبي داود"[3].
هذا الحديث في إسناده ضعفٌ، ولكن الذين صحَّحوه أو حسَّنوه إنما ذلك لشواهده؛ لأنَّ للحديث شواهدَ قد يتقوَّى بها، فمن هذا الباب حسَّنه بعضُهم، وصحَّحه آخرون.
من هذه الشَّواهد: ما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: بينما نحن نُصلي مع رسول الله ﷺ إذ قال رجلٌ من القوم: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً".
لاحظ: قال ذلك مرَّة، فقال رسولُ الله ﷺ: مَن القائل كلمةَ كذا وكذا؟ قال رجلٌ من القوم: أنا يا رسول الله. فقال النبيُّ ﷺ: عجبتُ لها، فُتِحَتْ لها أبوابُ السَّماء، قال ابنُ عمر -رضي الله عنهما-: فما تركتهنَّ منذ سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول ذلك[4].
هذا أخرجه الإمامُ مسلم في "صحيحه" من غير أن يكون ذلك ثلاثًا، وكذا أيضًا من غير ما جاء في آخره من الاستعاذة بالله من الشَّيطان الرجيم: من همزه، ونفخه، ونفثه.
وجاء بألفاظٍ أيضًا من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، في بعضها: والذي نفسي بيده، إني لأنظر إليها تصعد حتى فُتحت لها أبوابُ السَّماء[5]. وفي روايةٍ: لقد ابتدرها اثنا عشر ملكًا[6].
وجاء في بعض روايات الحديث من غير حديث ابن عمر: لقد رأيتُ أبوابَ السَّماء فُتحت، فما تناهى دونها العرش[7].
وعلى كل حالٍ، قوله هنا: "قال"، يعني: عقب تكبيرة الإحرام. يقول في الحديث: أنَّه رأى النبيَّ ﷺ يُصلي صلاةً، فقال: الله أكبر كبيرًا، قال: "الله أكبر" متى؟ بعد تكبيرة الإحرام، وهذا الرجلُ الذي صلَّى فقال ما قال كان ذلك أيضًا في ابتداء صلاته بعد تكبيرة الإحرام، مع أنَّ بعضَ أهل العلم قال في هذا الحديث بأنَّه عين التَّكبيرة، يعني: حينما قال: "الله أكبر كبيرًا" هي عين تكبيرة الإحرام وزيادة، وهذا يحتمل أن يكون ذلك عقب تكبيرة الإحرام -كما يقول الحافظُ ابن حجر رحمه الله-[8]، ويحتمل أن يكون ذلك هو نفس التكبير، قال: "الله أكبر كبيرًا" في افتتاح صلاته.
وهنا قوله: "قال عمرو"، يعني: عمرو بن مرّة، أحد رواة الحديث: لا أدري أيّ صلاةٍ هي؟ يعني: هل هي فريضة، أو نافلة؟ وقد جاء في بعض الرِّوايات أنَّ ذلك كان في النافلة، لكن الإسناد لا يصحّ[9].
فهنا جاء في لفظٍ عند ابن حبان من حديث جبير بن مطعم قال: كان رسولُ الله ﷺ إذا دخل الصَّلاة[10].
فظاهره يشمل الفريضة والنافلة: كان إذا دخل في الصَّلاة قال: "الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا"، يمكن أن يكون المعنى، أي: كبرت كبيرًا. ويمكن أن يكون حالاً مُؤكّدةً، يعني: "كبيرًا" يكون حالاً مُؤكّدةً لقوله: "الله أكبر"، أو صفة لمصدرٍ محذوفٍ، يعني: تكبيرًا كبيرًا، أو بإضمار فعلٍ مُقدَّرٍ، يعني: الله أَكْبَر أُكبِّر كبيرًا. هذا كلّه يحتمل.
وعرفنا معنى التَّكبير، ومضى الكلامُ عليه، والله -تبارك وتعالى- أكبر من كلِّ شيءٍ، وينبغي لمن جرى ذلك على لسانه، سواء في تكبيرة الإحرام في ابتداء الصَّلاة، أو قال ذلك في الاستفتاح: أن يحضر المعنى بقلبه، ومن ثم فإنَّه لا يصحّ أن يلتفت في صلاته إلى شيءٍ مما يقع فيه الرِّياء؛ فيتقرَّب بهذه الصَّلاة، يتزيَّن بها لمخلوقٍ، أو أنَّه يشتغل قلبُه في هذه الصَّلاة بشيءٍ سوى ذكر الله -تبارك وتعالى-، يقول: "الله أكبر كبيرًا"، وقلبُه مشغولٌ بأمورٍ أخرى من أمور دُنياه، ونحو ذلك.
والحمد لله كثيرًا عرفنا معنى الحمد، فإذا أضفنا لله -تبارك وتعالى- أوصاف الكمال، ووصفناه -تبارك وتعالى- بالجميل؛ فذلك هو الحمد، الحمد لله كثيرًا أي: حمدًا كثيرًا، الحمد الكثير على النِّعَم الظَّاهرة والباطنة في الدنيا والآخرة، فنحن نحمد الله على سوابغ نعمه، وسوابقها، وما يحصل منها في كل حينٍ وآنٍ، في الحاضر والمستقبل مع الماضي.
وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً أي: أُسبِّح الله تسبيحًا، وعرفنا معنى التَّسبيح أنَّه بمعنى: التَّنزيه، بُكرةً البُكرة هي الغُدو، وقلنا: إنَّ ذلك يكون ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وأنَّ الأصيل هو العشي، وأنَّ عامَّة أهل العلم يقولون: إنَّ ذلك يكون بعد العصر، مع أنَّ بعضَهم قال: يكون ذلك بعد الظهر. كما يقوله ابنُ جريرٍ -رحمه الله-[11]، وهو معنًى صحيحٌ في اللغة، فكلّ ذلك من العشي، يعني: أنَّك تُسبِّح الله وتُنزهه بُكرةً وعشيًّا، يعني: في أول النَّهار، وفي آخر النَّهار، خصَّ هذين الوقتين لشرفهما، هذه الأوقات تجتمع فيها ملائكةُ الليل وملائكةُ النَّهار، وكذلك أيضًا في هذه الأوقات من الشَّرف أول النَّهار والبركة فيه: بُورِك لأُمَّتي في بُكورها، وكذلك أيضًا آخر النَّهار فإنَّه وقتٌ شريفٌ، والله أقسم بالعصر، كما أقسم بالفجر، والعصر يشمل هذا الإقسام -والله تعالى أعلم-، العصر الوقت المعروف الذي يكون إلى ما قبل غروب الشَّمس، وكذلك أيضًا العصر الذي هو الزمن، فإنَّه يشمل هذا وهذا، والله تعالى أعلم.
فهنا التَّسبيح بُكرةً وأصيلاً، فإنَّ وقتَ العصر وقتٌ له خصوصيَّة وشرف، والذِّكْر فيه لا شكَّ أنَّه آكدُ؛ ولهذا فإنَّ القسمَ فيه أيضًا يعظم، كما في قوله -تبارك وتعالى-: تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ [المائدة:106]، فالذي يترجَّح في المراد بهذه الصَّلاة هي صلاة العصر.
وقد جاء في ذلك أيضًا ما يدلّ على عظمه: في الرجل الذي أعطى يمينَه، الذي حلف بعد العصر على سلعةٍ كاذبًا[12]، فخصَّ هذا الوقت، فإنَّه وقتٌ عظيمٌ، شريفٌ، كما أنَّ الفجر أيضًا كذلك.
فهذان الوقتان: أول النَّهار، وآخر النَّهار، يمكن أن يكون هذا الاختصاص لفضلهما، وشرفهما، وسهولة العمل فيهما، كما يقول الشيخُ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:42]، فالله أمر بالتَّسبيح في هذين الوقتين، فيقول الإنسانُ: سبحان الله بُكرةً وأصيلاً[13].
مع أنَّ بعض أهل العلم قال: إنَّه ذكر طرفي النَّهار، والمقصود بذلك الاستغراق، مثل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل:9] يعني: أنَّه ربٌّ لجميع الأوقات: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الصافات:5] يعني: وما بينهما.
فهذا قال به بعضُ أهل العلم: سبحان الله بُكرةً وأصيلاً أنَّه ذكر الطَّرفين، والمقصود الاستيعاب؛ استيعاب جميع الأوقات، كما قال الله : وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62] يعني: في كل وقتٍ، فإنَّ ثمارَ الجنَّة وما يأتيهم فيها من ألوان المطعومات والمشروبات يأتيهم في كل حينٍ ووقتٍ، كما هو معلومٌ.
ثم بعد ذلك تأتي الاستعاذة، نتوقف هذه الليلة عند هذا، وأُكمل الحديثَ في الليلة الآتية، إن شاء الله تعالى.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، برقم (764)، وضعفه الألباني في نفس الكتاب.
- انظر: "تخريج الكلم الطيب" لابن تيمية، برقم (80).
- انظر: "مشكاة المصابيح" للألباني، برقم (817)، و"ضعيف سنن أبي داود" برقم (132).
- أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب ما يُقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم (601).
- أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (5722).
- أخرجه النسائي في "سننه": كتاب الافتتاح، القول الذي يفتتح به الصلاة، برقم (885)، وصححه الألباني في نفس الكتاب.
- أخرجه البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة": كتاب افتتاح الصلاة، باب فيما يستفتح به الصلاة من الدعاء، برقم (1246)، وقال: إسنادٌ رجاله ثقات.
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/132).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، برقم (764)، وضعفه الألباني في نفس الكتاب.
- أخرجه ابن حبان في "صحيحه": كتاب الصلاة، باب صفة الصلاة، برقم (1780)، وقال الألباني في نفس الكتاب: صحيحٌ لغيره دون لفظ: "ثلاثًا".
- انظر: "تفسير الطبري" (15/502).
- أخرجه البخاري: كتاب الشَّهادات، باب اليمين بعد العصر، برقم (2672).
- انظر: "تفسير السعدي" (ص667).