الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(106) دعاء الاستفتاح " أعوذ بالله من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه"
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 2318
مرات الإستماع: 2558

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة نُواصل الحديثَ عن هذا الذكر والدُّعاء الذي يُقال في الاستفتاح؛ وذلك قوله: الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، مضى الكلامُ على هذا القدر، وبقي آخره، وهو ما يتَّصل بالاستعاذة.

يقول بعد ذلك: أعوذ بالله من الشَّيطان: من نفخه، ونفثه، وهمزه[1]، يقول عمرو: نفثه: الشِّعر، ونفخه: الكِبر، وهمزه: الموتة[2]. هذا التَّفسير من أحد رُواته، وهو عمرو بن مُرَّة، وقد جاء ذلك مرفوعًا إلى النبي ﷺ، أعني هذا التَّفسير[3]، لكنَّه لا يصحّ، فهو حديثٌ مُرسَلٌ، فلا يكون ذلك من قول رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فهو تفسيرٌ من الراوي.

فحينما يقول المصلِّي: "أعوذ بالله من الشَّيطان" يعني: ألتجئ بالله من شرِّ الشيطان، فأنت تعتصم بالله -تبارك وتعالى- من هذا الشَّيطان الذي يتربص بك في كل لحظةٍ؛ في حال ليلك ونهارك، في حال يقظتك ونومك، في حال غفلتك وانتباهتك، فهو مُتربِّصٌ بالخواطر والوساوس، بل والرُّؤى المزعجة التي يُريها الإنسان في نومه، فهو لا يتركه أحدًا: لا في نومٍ، ولا يقظةٍ، ولا صحَّةٍ، ولا مرضٍ، لا يترك رجلاً ولا امرأةً، ولا صغيرًا ولا كبيرًا، فهو عدو شديد العداوة، كما قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، يعني: عاملوه معاملةَ العدو، واحذروا منه حذركم من العدو المتربّص الذي لا يُريد بكم خيرًا بحالٍ من الأحوال.

فهذا حينما يقول الإنسانُ: "أعوذ بالله من الشيطان"، ولا يمكن الاحتراز من شرِّه -أعاذنا الله وإيَّاكم منه- إلا بالاستعاذة، فأنت لا تراه، وتستطيع دفعه بيدك، أو بغيرها، وإنما السِّلاح هو الاستعاذة منه ومن شرِّه، والالتجاء إلى الله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.

وعرفنا معنى الشَّيطان، وأنَّ من أهل العلم مَن قال: إنَّه مأخوذٌ من شاط يشيط، يعنى: عتا وتمرد، فكل عاتٍ مُتمرِّدٍ فهو شيطان؛ ولهذا قيل للكلب الأسود: شيطان.

وبعضهم يقول: إنَّه مأخوذٌ من شطن، أي: بَعُد، يُقال للبئر إذا صارت عميقةً لا تصلها الدِّلاء: شطنت البئرُ، يعني: أنَّ غورَها لا يُوصَل إليه، فهذا لبُعْده عن الخير، ولبُعْده عن طاعة الله ، ولبُعْده عن رحمته، قيل له: شيطان. فهذان قولان معروفان لأهل العلم في سبب تسميته بذلك.

والرَّجيم مضى الكلامُ أيضًا عليه؛ فمن أهل العلم مَن يقول: إنَّه قيل له: "رجيم" باعتبار أنَّ (فعيل) بمعنى يُراد به فاعل، أي: راجم؛ لأنَّه يرجم الناس بالوساوس والخواطر والإيرادات السَّيئة، وما إلى ذلك، فقيل له: "رجيم".

وبعضهم يقول: إنَّ (فعيلاً) هنا بمعنى مفعول، يعني: "رجيم" بمعنى مرجوم؛ أنَّه يُرجم بالسَّبِّ واللَّعن، وكذلك أيضًا يُرجم بالشُّهب: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ۝ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ۝ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ۝ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:6-10]، فهو يُرجم بالشُّهب، وبالسَّبِّ واللَّعن، "رجيم" بمعنى مرجوم. هكذا قال بعضُ أهل العلم.

و"أعوذ بالله": ألتجئ بالله من شرِّ الشَّيطان الرَّجيم، وهذه الاستعاذة تكون بين يدي القراءة، وهي كما يقول الحافظُ ابن القيم: عنوانٌ وإعلامٌ بأنَّ المأتيَّ به بعدها هو القرآن[4]؛ ولذلك لا تُقال الاستعاذة قبل الأذكار، ولا قبل كلامٍ سوى القرآن، فإذا ذكرتَ الاستعاذة فهذا إعلامٌ بأنَّ ما سيكون بعدها هو القرآن؛ ولهذا لم تُشرع بين يدي كلامٍ سوى القرآن، فهي مُقدّمة وتنبيه للسَّامع أنَّ ما سيرد بعدها هو كلام الله -تبارك وتعالى-، فيستعدّ السَّامع بهذا الاعتبار ويتهيَّأ لسماع الله .

وهذا يُشرع للقارئ ولو كان وحده، ولو كان يقرأ بها سرًّا في الصَّلاة؛ وذلك لحِكَمٍ مُتنوعةٍ مُتعددةٍ، فهي طهارةٌ للفم مما يتعاطاه من اللَّغو والرَّفَث، فالإنسان يتهيَّأ للصَّلاة بالوضوء، وهي طهارةٌ حسيَّةٌ بالماء، فتكون تلك طهارة الأعضاء والبدن، ويتهيَّأ بطهارةٍ أخرى معنويَّةٍ التي تكون بالاستعاذة بالله من هذا الشَّيطان، سواء كان ذلك في الصَّلاة، أو كان في القراءة، فيكون قد تطهر الطَّهارتين: الطَّهارة الحسيَّة، والطَّهارة المعنوية، فيكون مُتهيِّئًا للصَّلاة أو للقراءة؛ لأنَّ الشيطان يُلبّس عليه صلاته، كما يُلبّس عليه قراءته، فيقرأ الإنسانُ الوجهَ والوجهين والثلاثة والجزء وهو لا يشعر، ويقرأ السورة كاملةً، ولربما يقرأ نصف سورة الكهف يوم الجمعة وهو لا يشعر، ثم بعد ذلك يستدرك كأنَّه لم يقرأ شيئًا.

فهذا كلّه من عمل الشَّيطان وتلبيسه، بل يُلقي في قلوب بعض الناس أثناء القراءة خواطر سيئة، فهذا كلّه يحتاج إلى استعاذةٍ من أجل أن تسلم له قراءته وصلاته، فهي تطييبٌ له لتلاوة كلام الله -تبارك وتعالى-، وهي استعانةٌ بالله، واعترافٌ له بالقُدرة، وللعبد بالضَّعف والعجز عن مُقاومة هذا العدو الذي لا يراه، ولا يحسّه، ومن ثم فإنَّه يكون بذلك مُدافعًا له بهذه الاستعاذة.

فإذا فعل العبدُ هذا فينبغي أن يقرنه بأمرٍ آخر؛ وهو الابتعاد عمَّا يُلقيه الشَّيطان في قلبه دائمًا من تزيين الباطل والمنكر والمعاصي والشَّهوات، وما إلى ذلك، فأنت تستعيذ بالله منه، إذًا ابتعد عمَّا يدعو إليه، فإنَّه يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] -نسأل الله العافية-، فهذه هي الاستعاذة.

وقد قال الإمامُ أحمد -رحمه الله-: لا يقرأ في صلاةٍ ولا غير صلاةٍ إلا استعاذ[5]؛ لقوله : فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]. لكن يبقى: هل يقول الاستعاذة في كلِّ قراءةٍ في الصَّلاة، أو لا؟ يعني: هل يقولها في أول الصَّلاة؟

ظاهر الحديث هنا أنَّه يقولها في أول الصَّلاة، حينما يدعو بدعاء الاستفتاح يستعيذ، فهذا بعد الاستفتاح، ولم يُذْكَر أنَّ النبيَّ ﷺ كان يستعيذ في الركعة الثانية مثلاً.

وقد جاء من حديث أبي سعيدٍ الخدري ، وهو قريبٌ من هذا الحديث الذي بين أيدينا، قال: كان النبيُّ ﷺ إذا قام من الليل كبَّر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثًا، ثم يقول: الله أكبر كبيرًا ثلاثًا، ثم يقول: أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الرَّجيم: من همزه، ونفخه، ونفثه، ثم يقرأ[6]. هذا لفظ أبي داود.

إذًا هذا واضحٌ أنَّ هذه الاستعاذة تكون بعد دعاء الاستفتاح بين يدي القراءة؛ ولهذا قال بعضُ أهل العلم –كالشَّوكاني- بأنَّ الأحاديثَ الواردة في التَّعوذ ليس فيها إلا أنَّه فعل ذلك ﷺ في الركعة الأولى[7]، مع أنَّ هذا ليس محلَّ اتفاقٍ، بل ذهب بعضُ السَّلف: كالحسن[8]، وعطاء[9]، وإبراهيم النَّخعي[10] إلى استحباب الاستعاذة في كل ركعةٍ، لكن ظواهر هذه الأحاديث أنَّ ذلك يكون في الركعة الأولى، وظاهر الآية: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل:98] أنَّه يقولها بين يدي القراءة، سواء في الأولى، أو في الثانية، لكن عمل النبي ﷺ يُبيّن ذلك ويُوضِّحه، فالسُّنة تشرح القرآن، ثم إنَّه لم يفصل ذلك بأمرٍ خارجيٍّ، وإنما هو مُشتغلٌ بالذكر في صلاته كلِّها، فهل هذا يقتضي إعادة الاستعاذة؟

ولهذا العلماء -رحمهم الله- لما تكلَّموا في آداب تلاوة القرآن: عمَّا إذا استعاذ وقرأ، فسلَّم عليه أحدٌ، هل يرد السلامَ أو لا يرد؟ وإذا ردَّ السلامَ هل يستعيذ من جديدٍ أو لا؟

فالذين قالوا: لا. قالوا: إنَّه لم يفصل بأجنبيٍّ، وإنما بذكرٍ، فلا يحتاج إلى إعادة الاستعاذة، لكن لو أنَّه تكلم بكلامٍ أجنبي، كأمرٍ من أمور الدنيا: ردَّ على التليفون، أو نحو ذلك؛ فإنَّه يُعيد الاستعاذة -والله تعالى أعلم-.

هذا ما يتعلَّق بهذه الجملة: أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم، وقد جاء في بعض الرِّوايات زيادة: السَّميع العليم من الشَّيطان الرَّجيم: من نفخه، ونفثه، وهمزه، فتستعيذ من الشَّيطان من هذه الأمور الثلاثة: من نفخه، ونفثه، وهمزه، ما نفخه؟

النَّفخ في اللغة معروفٌ: هو إخراج الهواء من الفم، فإن كان معه ريقٌ فهذا نفثٌ، فإذا أخرج ما هو أكثر من ذلك فهذا الذي يُقال له: التَّفل. فهذه ثلاث مراتب: نفخٌ، ونفثٌ، وتفلٌ. وتصحّ القراءة بالرُّقية من غير نفخٍ، وتكون أقوى وأبلغ إذا كان معها النَّفخ، وأبلغ من ذلك إذا كان معها النَّفث، نفث هواءٍ مع ريقٍ، فهذا أبلغ في الرُّقية.

فهذا معنى النَّفخ في اللغة، وفُسِّر هنا بالكِبْر؛ لماذا قيل للكِبْر: نفخٌ؟

قالوا: لأنَّ المتكبر يتعاظم، لا سيّما إذا مُدِحَ، فهذا إذا كان بهذه المثابة، وما يُلقيه الشَّيطانُ في قلبه من الوساوس مما يعظم به نفسه، ويحقر الآخرين، فكأنَّ الشيطان ينفخ فيه بالوسوسة فيتعاظم، فهذا الكِبْر يكون من الشَّيطان، وهذا الكِبْر يُؤدِّي إلى آثارٍ ونتائج سيئةٍ، فهو يُؤدي إلى ردِّ الحقِّ، واحتقار الناس، فلا يقبل من أحدٍ تعليمًا، ولا توجيهًا، ولا تذكيرًا، ولا نصحًا، ولا أمرًا بمعروفٍ، ولا نهيًا عن منكرٍ؛ لأنَّه يرى أنه أكبر من أن يُنتقد.

ويتحيَّر به الناسُ: كيف يُوصلون إليه النَّصيحة؟ لأنَّه أعظم في نفسه من أن يُنتقص، أو يُستدرَك عليه، سواء كان معلمًا مع تلامذته، أو كان مُديرًا مع مرؤوسيه، أو كان والدًا مع أولاده، أو زوجًا مع زوجته، أو غير ذلك، فإنَّ الكثيرين يترفَّعون؛ فبعض الناس لا يقبل من امرأته قليلاً ولا كثيرًا، وبعض الناس لا يقبل من تلامذته، ولو أنَّ أحد التلاميذ قال له يومًا: بأنَّ هذا الذي كتبتَ فيه خطأ، وفيه سبق لسانٍ، وسبق قلمٍ، أخذه ما قرب وما بَعُدَ، ونقم على هذا الإنسان ربما.

وهذا أمرٌ عجيبٌ، يدل على نقص العقل، ونقص الدِّين، وجهل الإنسان بنفسه، وإلا فاللَّائق أنَّ الإنسانَ يفرح أن هيَّأ اللهُ له مَن يُبصره؛ ولذلك تجد كثيرًا من هؤلاء الطُّلاب المساكين إذا اضطرُّوا وصاروا في حالٍ من الأذى والضَّرر، لا يستطيعون أن يذكروا شيئًا صراحةً، وإنما يضعوا ورقةً من غير اسمٍ عند السَّيارة، أو تحت باب المكتب؛ لأنَّهم يعتقدون أنَّ هذا الإنسان سينقم عليهم، وهذا غلطٌ؛ فالمؤمن يفرح بالنَّصيحة، ويُحبّ النَّاصحين، وأمَّا التَّعاظم ورؤية النفس فإنَّ هذا أمرٌ لا يليق إطلاقًا، فالإنسان يطلب النَّصيحة من الناس، ويقول: انصحوني، وعلِّموني، واذكروا لي عيوبي وأخطائي ونقصي. فالإنسان لا يرى عيوبَه.

هذه العيوب -أيّها الأحبّة- والأخطاء والنَّقص مثل شيءٍ في وجه هذا الإنسان وهو لا يراه، أحيانًا يكون عند الإنسان التهابٌ في اللّثة، أو في الأسنان، أو يكون عنده خراجات، أو نحو ذلك، فيصدر من ذلك أحيانًا أشياء مُزعجة، وهو لا يشعر، فهل يغضب لو جاء إنسانٌ وقال: تحتاج إلى علاجٍ، تحتاج إلى مُراجعة طبيب الأسنان، تحتاج إلى كذا؟ هل يغضب؟ فإذا غضب فهذا من نقص العقل.

على كل حالٍ، فهذا هو نفخه، ينفخ في هذا الإنسان ويتعاظم من غير أن يكون هناك مُوجِبٌ.

وأمَّا النَّفث: ففسِّر بالشِّعر، لماذا؟

قالوا: لأنَّه ينفثه الإنسانُ من فيه كالرُّقية، مثل: رُقية الشيطان، فهذا الشِّعْر يحصل به تشبيبٌ أحيانًا بالنِّساء؛ فتُثار كوامن النُّفوس، ويحصل به إغراءٌ بالحرب وبالعداوات بين الناس، ويحصل به أمورٌ مُنكرة من الهجاء والإقذاع والفخر بالأنساب، وما إلى ذلك، فكل هذا يحصل بهذا الشِّعْر، فهو رقية الشَّيطان بهذا الاعتبار.

وليس كل الشِّعْر كذلك؛ لأنَّ من الشِّعْر حكمة، لكن الشِّعر المذموم، فالشَّيطان يُغري الناسَ بإنشاء الشِّعر المذموم، فنُسِبَ ذلك إليه، فهو نفثه.

مع أنَّ من أهل العلم مَن فسَّر النَّفثَ هنا بالسِّحْر، قالوا: لأنَّ الله قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، ولا يرد على هذا أنَّ بعضَ أنواع السِّحر ليس فيها نفثٌ، ولكن هذا من أشهر صوره وأنواعه، فهذا يحتمل أن يكون المرادُ به السِّحر، ويحتمل أن يكون المرادُ به الشِّعْر، والأكثر من أهل العلم فسَّروه بالشِّعْر.

بقي الأخير: وهو الهَمْز: فقد فُسِّر بالـمُـوْتَة -بضم الميم وسكون الواو-، ما الموتة؟

الموتة مثل: الجنون أو الصَّرع -أعاذنا الله وإيَّاكم وإخواننا المسلمين من ذلك-، ومثل: الخنق يحصل من الشيطان، فيعتري هذا الإنسان؛ فيسقط يتلبّط، ويفقد عقلَه وفكرَه، ثم بعد ذلك يعود إليه.

وهذا الصَّرع المعروف هو نوعان: نوع يعرفه الأطباء: تارةً يكون لأورامٍ في الدِّماغ، وتارةً يكون لأبخرةٍ تخرج من الجوف، وهذا سببه مُدْرَكٌ، طبيٌّ، فأحيانًا تجرى له عملية أو شيء من هذا القبيل ويبرأ بإذن الله.

وهناك نوعٌ من الصَّرع لا يعرفه الأطبَّاء، وهو الذي يكون من تخبّط الشَّيطان، كما قال الله في آكل الرِّبا: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، يعني: المصروع يقوم يتلبَّط، فالتَّخبط هو ضربٌ من غير اهتداءٍ، وعلى غير استواءٍ، وحركة غير إراديةٍ، ولا مقصودةٍ، كأنَّ الشيطانَ بهمزه ونخسه وغمزه جعله مجنونًا؛ لأنَّ الهمزَ في اللغة يأتي بمعنى النَّخس والغمز، يُقال: همزتُه بيدي. ويأتي بمعنى العصر، كأنَّ الشَّيطان يدفعه أو ينخسه أو يعصره؛ ولهذا فسِّر بالخنق؛ فيسقط يتلبَّط.

وقد قال ابنُ القيم -رحمه الله-: "التَّحقيق أنَّه -يعني: الهمز- دفعٌ بنخزٍ وغمزٍ، يُشبه الطَّعن، فهو دفعٌ خاصٌّ"[11]، يعني: ليس كلُّ دفعٍ يُقال له: همزٌ، وفُسِّر بالوسوسة أيضًا: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ [المؤمنون:97]، فهذه الهمزات فُسِّرت بخطراتهم ووساوسهم، فهم يغرون الناسَ بالمعاصي.

وهذا الذي اختاره الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في تفسيره: بأنَّ المرادَ بالهمز: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب[12].

وقد جاء عن ابن عباسٍ والحسن في تفسير قوله: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ [المؤمنون:97] قال: "همزات الشياطين نزغاتهم ووساوسهم"[13]. وقال مجاهد في تفسيرها: "نفخهم ونفثهم"[14]. فجعل الهمز مُفسَّرًا بالنَّفخ والنَّفث الوارد في الحديث.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يُوجّه كلام مجاهد -رحمه الله- فيقول: "وقد يُقال -وهو الأظهر-: إنَّ همزات الشَّياطين إذا أُفردت دخل فيها جميعُ إصاباتهم لابن آدم، وإذا قُرنت بالنَّفخ والنَّفث –كما في هذا الحديث- كانت نوعًا خاصًّا"[15]، يعني: صار الهمزُ له معنًى، والنَّفخ له معنًى، والنَّفث له معنًى، مثل: الفقير والمسكين، هذا يكون له معنًى، وهذا يكون له معنًى، وإذا ذُكِرَ أحدُهما دون الآخر دخل فيه معنى الآخر.

هذا على كلام مجاهد: أنَّ الهمزَ إذا أُطلق دخل فيه النَّفخُ والنَّفثُ، يعني: كلّ ما يُوصلونه للإنسان ويُصيبونه به من أنواع الأذى: من وساوس وخواطر وخنق وصرع وجنون، فكل ذلك داخلٌ فيه، وما يغرون به من المنكر والباطل بالشِّعْر وغيره، كلّ هذا يدخل في هذا المعنى.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول في كتابه "بيان تلبيس الجهمية": "فهمزه الوسوسة"[16].

ولاحظ: ابن القيم يُوافق شيخَه -شيخ الإسلام- أنَّ الهمزَ: الوسوسة، والنَّفخ: الكِبْر، والنَّفث: الشِّعْر، يقول: "فإنَّ الكبرَ ينفخه حتى يصير مُغطَّى في الخيال، مع أنَّه حقيقةً كالظّرف المنفوخ، من غير أن يكون فيه شيء"[17].

هذا ما يتعلَّق بهذا الحديث.

نسأل الله أن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

 

  1. أخرجه أبو داود في "سننه": أبواب تفريع استفتاح الصَّلاة، باب ما يُستفتح به الصَّلاة من الدعاء، برقم (764)، وابن ماجه في "سننه": كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الاستعاذة في الصَّلاة، برقم (807)، وضعَّفه الألباني.
  2. أخرجه أبو داود في "سننه": أبواب تفريع استفتاح الصَّلاة، باب ما يستفتح به الصَّلاة من الدعاء، برقم (764)، وابن ماجه في "سننه": كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الاستعاذة في الصَّلاة، برقم (807)، وضعَّفه الألباني.
  3. أخرجه أحمدُ في "مسنده" ط. الرسالة، برقم (3828)، وقال مُحققو "المسند": "صحيحٌ لغيره".
  4. "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" (1/94).
  5. "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" (1/94).
  6. أخرجه أبو داود في "سننه": أبواب تفريع استفتاح الصلاة، باب مَن رأى الاستفتاح بـ"سبحانك اللهم وبحمدك"، برقم (775)، والترمذي في "سننه": أبواب الصَّلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم (242).
  7. "نيل الأوطار" (2/230).
  8. "نيل الأوطار" (2/230).
  9. "نيل الأوطار" (2/230).
  10. "نيل الأوطار" (2/230).
  11. "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ط. المعرفة (1/95).
  12. "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ط. المعرفة (1/95).
  13. "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ط. المعرفة (1/95).
  14. "تفسير اللباب" لابن عادل (ص3784).
  15. "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ط. المعرفة (1/95).
  16. "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" ط. مطبعة الحكومة (1/67).
  17. "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" ط. مطبعة الحكومة (1/67).

مواد ذات صلة