الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
(114) دعاء الرفع من الركوع " سمع الله لمن حمده " " ربنا ولك الحمد، حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه "
تاريخ النشر: ٢١ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 2807
مرات الإستماع: 3186

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نشرع في الكلام على الأدعية والأذكار التي تُقال بعد الرفع من الركوع.

فأوَّل ذلك ما جاء من حديث رفاعة بن رافع الزُّرقي قال: كنا يومًا نُصلي وراء النبي ﷺ، فلمَّا رفع رأسَه من الركعة قال: سمع اللهُ لمن حمده، قال رجلٌ وراءه: "ربنا ولك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه"، فلمَّا انصرف -يعني: النبيّ ﷺ- من صلاته قال: مَن المتكلم؟ قال: أنا. قال: رأيتُ بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرون أيّهم يكتبها أوَّل؟[1].

فهذا الحديثُ مُخرَّجٌ في "صحيح البخاري" -رحمه الله-، وقد ذكر الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- أنَّه جاء في رواية بشر بن عمران الزَّهراني، عن رفاعة بن يحيى: أنَّ تلك الصَّلاة كانت صلاةَ المغرب[2]، فهو أراد أن يُؤكد أنَّ ذلك كان في صلاة الفريضة، وهذا ظاهرٌ في أنهم كانوا يُصلون خلف النبي ﷺ، وهذا في الغالب أنَّهم كانوا يُصلون خلفه الفريضة.

وقوله: "فلمَّا رفع رأسَه قال: سمع الله لمن حمده" أي: فلمَّا شرع في رفع رأسه؛ لأنَّ قولَ: سمع الله لمن حمده إنما يكون في حال الرَّفع، وهذا ينبغي أن يكون معلومًا لدى المصلِّي، سواء كان إمامًا أم مأمومًا، بمعنى: أنَّ هذه التَّكبيرات التي تُقال في الانتقال، وكذلك ما في حكمها، كقول: سمع الله لمن حمده؛ فإنها تُقال في حال الانتقال، فإذا ركع فإنَّه يقول حال النُّزول والحركة والانحناء: الله أكبر، ولا يقوله قبله، ولا يقوله بعده، يعني: إذا وصل إلى الركوع، فإنَّ هذا قد يكون فات محلُّ الموضع الذي تُقال فيه، بل بالغ بعضُ أهل العلم فقال: إنَّ الصَّلاةَ لا تصحُّ بهذا؛ لأنَّه قد فات موضعُه. بل بالغ بعضُهم فقال: إنَّه إن قال بعضَه في حال الوصول للركن الذي يليه؛ فإنَّ صلاته لا تصحّ.

ونحن لا نقول هذا؛ لأنَّ هذا يصعب ضبطُه والتَّحرز فيه، لكن نقول: إنَّ موضعَ ذلك هو في حال الانتقال، فبعض الأئمّة يُؤخِّر ذلك من أجل ألا يسبقه المأمومُ، فلا يقول: "الله أكبر" إلا إذا وصل إلى الركوع، أو لا يقول: "الله أكبر" إلا إذا وصل إلى السُّجود؛ لئلا يُسْبَق، وهذا غير صحيحٍ، يمكن أن ينزل إلى السُّجود فيُؤخِّر قوله: "الله أكبر"، فعندما يكون قد وضع ركبتيه على الأرض مثلًا يقول ذلك وهو ينزل أو ينحني للسُّجود، فيكون قد استتمَّ ذلك قبل أن يصل إلى السُّجود، وبهذا لا يسبقه المأمومُ.

المقصود أنَّ هذه التَّكبيرات، وقول: سمع الله لمن حمده هي في حال الانتقالات، فهذا موضعها، فإذا وصل إلى الركوع يقول: "سبحان ربي العظيم"، وليس "الله أكبر"، وإذا رفع من الركوع فانتصب قائمًا فهو يقول: "ربنا لك الحمد"، ولا يقول: "سمع الله لمن حمده".

فهنا: "فلمَّا رفع رأسَه" أي: فلمَّا شرع في رفع رأسه، "من الركعة" يعني: من الركوع، النبي ﷺ قال: سمع الله لمن حمده، هنا فيه إثبات صفة السَّمع لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، فهي صفةٌ ثابتةٌ في الكتاب والسُّنة: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

وقد جاء هذا في نصوصٍ كثيرةٍ في الكتاب والسُّنة، وهذا السَّمع الذي يُضاف إلى الله -تبارك وتعالى- على نوعين:

الأول: وهو السَّمع العام، بمعنى: أنَّ الله يسمع الأصوات، ولا يخفى عليه دبيبُ النَّمل، فهو سامعٌ لذلك جميعًا، يسمع السِّرَّ والنَّجوى، ويسمع الجهرَ، فهو سميعٌ لكل مسموعٍ.

وقد قالت عائشةُ -رضي الله عنها- في خبر المجادلة التي أنزل اللهُ فيها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، وهي خولة بنت ثعلبة -على ما هو مشهورٌ في اسمها، وقيل غير ذلك- زوجة أوس بن الصَّامت -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-، فعائشة -رضي الله عنها- لما أنزل اللهُ هذه الآيات في خبرها ومُجادلتها، تقول: "الحمد لله الذي وسع سمعُه الأصوات؛ لقد جاءت المجادلةُ تشتكي إلى رسول الله ﷺ، وأنا في جنب الحجرة يخفى عليَّ بعضُ كلامها"[3]، فأنزل الله قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا.

فالله يسمع الأصواتَ جميعًا، لا يخفى عليه من ذلك شيءٌ مهما دقَّ.

و"سميع" على وزن (فعيل)، هذه صيغة مُبالغة، يعني: عظيم السَّمع.

والثاني: من السَّمع الذي يُضاف إلى الله، هو السَّمع الخاصّ، وهو سمع الإجابة والقبول، كما هنا: سمع الله لمن حمده بمعنى: أجاب، قول الخليل -عليه الصَّلاة والسَّلام-: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]، يسمع دُعاء الدَّاعين، ويُجيب دُعاءهم، هذا سماعُ إجابةٍ، وسماعٌ خاصٌّ.

فهنا: سمع الله لمن حمده أي: أجاب حمده، وتقبَّله، فاللام في لمن تُؤذِن بمعنًى زائدٍ، وهو الاستجابة.

وهنا يقول: "قال رجلٌ" هذا الرجل قال بعضُ أهل العلم: هو رفاعة بن رافع، راوي الخبر، وبهذا جزم الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-[4]؛ وذلك لما جاء في بعض الرِّوايات، لكن هناك فيه أنَّه عطس، وهذا الحديث: ربنا ولك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا .. إلى آخره، جاء بعد الرَّفع من الركوع.

وجاء أيضًا أنَّه قاله رجلٌ عطس وهو في الصَّلاة خلف النبي ﷺ، فقال ذلك.

وجاء في ثالثٍ: أنَّه جاء رجلٌ وقد حفزه النَّفَسُ، يعني: جاء مُسرعًا، فدخل مع النبي ﷺ في الصَّلاة، فقال. يعني: كأنَّه استفتح الصَّلاةَ بهذا، لكن هذا الذي بين أيدينا هنا أنَّه قاله بعد الرفع من الركوع.

وقوله هنا: ربنا ولك الحمد "لك الحمد" بمعنى إضافة المحامد، الأوصاف الكاملة، وأوصاف الجمال والجلال، وما إلى ذلك، كلّ ذلك يُضاف إليه -تبارك وتعالى-.

وفي بعض الرِّوايات بالواو: ربنا ولك الحمد، وفي بعضها: ربنا لك الحمد.

فـ"ربنا لك الحمدُ" واضحٌ، وأمَّا بالواو فقد أجاب عنه بعضُ أهل العلم بأجوبةٍ متنوعةٍ؛ فبعضهم يقول: أي: ربنا لك النِّعمة، ولك الحمد. فيكون قبلها ما هو مُقدَّرٌ، فتكون معطوفةً عليه. وقيل غير ذلك.

و"حمدًا" هذا منصوبٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ، دلَّ عليه قوله: "لك الحمد"، كأنَّه يقول: أحمدك حمدًا، أو أحمد حمدًا كثيرًا طيبًا، يعني: ليس فيه ما يُعاب، ولا نقصَ: لا في ألفاظه، ولا في معانيه، ولا في مقاصده، يعني: أنَّه خالصٌ لله -تبارك وتعالى-، فهذا هو الطّيب، وهو ما كان سالـمًا من العيوب والنَّقائص، وأول ذلك ما يتَّصل بالنية والقصد، فليس فيه رياءٌ ولا سمعةٌ.

طيبًا مُباركًا فيه يعني: كثير الخير، وقد عرفنا في بعض المناسبات أنَّ البركةَ هي الزيادة والكثرة في الخير والنَّماء، وما إلى ذلك من المعاني التي يذكرها أهلُ العلم في تفسيرها.

فهذا المبارك فيه يعني: كثير الخير، وفي روايةٍ أيضًا عند أبي داود[5]، والنَّسائي[6]، والترمذي[7]: مُباركًا عليه، فهذا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل التَّأكيد: مُباركًا فيه، ومُباركًا عليه. ويحتمل أنَّ الأول بمعنى: الزيادة، والثاني بمعنى: البقاء، ويحتمل غير هذا، فهو مُباركٌ فيه، ومُباركٌ عليه.

وفي روايةٍ أيضًا عند بعض أصحاب السُّنن: كما يُحبّ ربنا ويرضى[8]، فالإنسان يقول ذلك تأدُّبًا مع الله ، فهذا مقام حمدٍ وثناءٍ، والإنسان لا يبلغ من حمد الله -تبارك وتعالى- ما يكون لائقًا بجلاله وعظمته ، فما حمدناه حقَّ حمده، ولا عبدناه حقَّ عبادته، فيُفوِّض ذلك إلى الله ، فيقول: كما يُحبُّ ربنا ويرضى.

فلمَّا انصرف النبيُّ ﷺ من الصَّلاة قال: مَن المتكلِّم؟ فهنا لم يتكلم أحدٌ، كأنَّ قائلَ ذلك تخوَّف أن يلحقه بسبب ذلك ملامةٌ، أو أن يلحقه بسببه أمرٌ يكرهه، فسكتوا، ثم قالها الثانية: مَن المتكلم في الصَّلاة؟ فلم يتكلم أحدٌ، ثم قالها الثالثة: مَن المتكلم في الصَّلاة؟ فقال رافع: أنا يا رسول الله. فالنبي ﷺ أخبر أنَّه رأى بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها: أيّهم يكتبها أوَّل؟.

والبضع من الثلاث إلى التِّسع، فهو رأى بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها، يعني: يُسارعون في كتابتها: أيّهم يكتبها أوَّل؟.

وجاء أيضًا في روايةٍ عند الترمذي: أيُّهم يصعد بها؟[9]، ولا منافاةَ بين الرِّوايتين، يبتدرونها ليكتبوها، ثم يصعدون بها إلى الله -تبارك وتعالى-.

هذا الذكر -أيّها الأحبّة- يرد عليه سؤالٌ قد أوردناه في الكلام على المقدّمات، وهو: هل لأحدٍ أن يُنْشِئ من عند نفسه ذكرًا في صلاته أو في عبادته؟

فتكلّمنا على ذلك في الصَّلاة، وفي خارج الصَّلاة، وذكرنا أقوال أهل العلم، فغاية ما هنالك: أنَّ هذا قاله وقت نزول الوحي، والنبي ﷺ بين أظهرهم، فأقرَّه الوحي على ذلك، هذا يُقال فيه وفي نظائره؛ لأنَّ هذا السؤال يرد في باب البدع: هل للإنسان أن يُنْشِئ بدعًا بحجة أنَّ هؤلاء أنشأوا أذكارًا في الصَّلاة من عند أنفسهم، فأقرَّهم النبي ﷺ، بل امتدح ذلك، وأثنى عليهم، وأخبر عن مكانه وموقعه ومنزلته؟

الجواب: ليس للإنسان أن يُنْشِئ شيئًا من ذلك، لكن هذا حصل في وقت التَّنزيل، أجرى اللهُ على لسانه، فأقرَّه النبي ﷺ، فنحن نأخذ بهذا الإقرار، فصار ذلك من قبيل السُّنة، وما عداه فإنَّه لا يُعتبر؛ لأنَّه ليس عندنا فيه من الله برهانٌ: هل يقرّ أو لا يقرّ؟ لكن عندنا حكمٌ عامٌّ: كل محدثةٍ بدعة، وأن كلَّ بدعةٍ ضلالة[10]، وقال ﷺ: فعليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الرَّاشدين المهديين[11]، فنحن مأمورون بهذا.

ومن ثم فليس للإنسان أن يُنْشِئ من عند نفسه أشياء في العبادات، ثم بعد ذلك يرجو أن تكون مقبولةً على هذا المهيع، هذا غير صحيحٍ، وما يُدريه؟! وعنده هذه النُّصوص العامَّة المحكمة: مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ[12].

فنبقى مع ما ورد، ونتقيد بذلك، ولا يجتهد الإنسانُ في أمورٍ لم يشرعها الله، ولم يشرعها رسولُه ﷺ، ففيما جاء عن الشَّارع غنية عن هذه الاجتهادات والمخترعات التي يخترعها بعضُ الناس، فملؤوا الدنيا بِدَعًا ومحدثات في أبواب الأذكار وغيرها مما أنشؤوها وابتدعوها واختلقوها.

ولو نظرتم في أنواع البدع التي يذكرها بعضُ أهل العلم، فإنَّكم تجدون في كلِّ يومٍ مُبتدعات، طول السَّنة، فنحن في غنًى عن هذا، فقد أغنانا الله عن ذلك كلِّه.

فالإنسان يلزم السُّنة، ويجتهد في تطبيقها، ولن يُدرك، يعني: لو أنَّه جدَّ واجتهد في العمل بما ثبت عن النبي ﷺ، فإنَّه لن يستطيع أن يأتي بكلِّ السُّنن والأعمال المشروعة الثابتة عن رسول الله ﷺ؛ لأنَّ ذلك أكثر من أن يُحصيه، والزمان أقلّ من هذا.

فالأعمال الثابتة المشروعة كثيرةٌ، وانظروا كم نحفظ؟ وكم نقف عليه من الأذكار والأعمال الصَّالحة المشروعة؟ وما القدر الذي نعمل به؟

فالتَّقصير كبيرٌ فيما نعلم ثبوته، فكيف يتطلب الإنسانُ أشياء لا يعلمها، ولا يتحقق من ثبوتها؟!

أسأل الله أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب فضل "اللهم ربنا لك الحمد"، برقم (757).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (2/286).
  3. أخرجه ابن ماجه: كتاب المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، برقم (184)، وصححه الألباني.
  4. "فتح الباري" لابن حجر (2/286).
  5. أخرجه أبو داود: كتاب الصَّلاة، باب ما يُستفتح به الصَّلاة من الدعاء، برقم (656)، وحسَّنه الألباني.
  6. أخرجه النَّسائي: كتاب الافتتاح، قول المأموم إذا عطس خلف الإمام، برقم (931)، وحسَّنه الألباني.
  7. أخرجه الترمذي: كتاب الصَّلاة، باب ما جاء في الرجل يعطس في الصَّلاة، برقم (369)، وحسَّنه الألباني.
  8. أخرجه أبو داود: كتاب الصَّلاة، باب ما يُستفتح به الصَّلاة من الدعاء، برقم (656)، والنَّسائي: كتاب الافتتاح، قول المأموم إذا عطس خلف الإمام، برقم (931)، والترمذي: كتاب الصَّلاة، باب ما جاء في الرجل يعطس في الصلاة، برقم (369)، وحسَّنه الألباني.
  9. أخرجه الترمذي: كتاب الصَّلاة، باب ما جاء في الرجل يعطس في الصلاة، برقم (369)، وحسَّنه الألباني.
  10. أخرجه أبو داود: كتاب السُّنة، بابٌ في لزوم السُّنة، برقم (3991)، والنَّسائي: كتاب صلاة العيدين كيف الخطبة، برقم (1578)، وابن ماجه: كتاب المقدمة، باب اجتناب البدع والجدل، برقم (45)، وصححه الألباني.
  11. أخرجه أبو داود: كتاب السنة، بابٌ في لزوم السنة، برقم (3991)، وابن ماجه: كتاب المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، برقم (42)، وصححه الألباني.
  12. أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ مُحدثات الأمور، برقم (3242).

مواد ذات صلة