الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(126) التشهد " ... السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته... "
تاريخ النشر: ١١ / جمادى الأولى / ١٤٣٥
التحميل: 2211
مرات الإستماع: 2057

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

تحدَّثنا في الليلة الماضية عن قول المصلِّي في التَّشهد: التَّحيات لله..، وفي هذه الليلة نتحدَّث -إن شاء الله- عمَّا بعده من قوله: والصَّلوات والطَّيبات[1].

الصَّلوات جمع صلاةٍ، والصَّلاة في أصل معناها اللُّغوي: الدُّعاء، فهي كما يقولون: حقيقة لُغوية في الدُّعاء، ومن ثم فإنَّ من أهل العلم مَن فسَّر ذلك بالمعنى اللُّغوي.

والصَّلوات يعني: الأدعية، فيكون عامًّا في كلِّ الأدعية، والصَّلوات يعني: لله، بمعنى: أنَّه هو الذي يُتوجَّه إليه بالدُّعاء، فيدعوه الدَّاعون، ويسأله السَّائلون، فيتوجَّهون إليه برغبتهم، وحاجتهم، وفقرهم.

ونحن عرفنا في الكلام على أول هذه المجالس، في المقدِّمات: أنَّ الدعاء يشمل دعاء المسألة، ويشمل الثَّناء، والحمد، والتَّسبيح، والتَّهليل، وما إلى ذلك من ألوان الذكر الذي يُقال باللِّسان، فهذا الثَّناء الحسن على الله -تبارك وتعالى-، هذا الحمد، هذا التَّسبيح داخلٌ فيه بهذا الاعتبار؛ ولهذا فإنَّ من أهل العلم مَن قال: إنَّ الصَّلوات تشمل الأدعية؛ بمعنى السُّؤال: يا ربّ، يتوجّه إليه بالدُّعاء، كما يشمل أيضًا الدّعاء بالنوع الآخر الذي هو الذكر؛ يعني: من تهليلٍ، وتسبيحٍ، وتحميدٍ، وتقديسٍ، فإنَّ الذي يقول ذلك -يعني: يذكر ربَّه- هو داعٍ في حقيقة الأمر؛ وذلك حينما يقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، فهو يسأل الثوابَ على هذا العمل، يسأل الثَّواب، هو يرتجي الأجر، فهو سائلٌ بهذا، هو طالبٌ، فيكون داعيًا حينما يكون ذاكرًا لربِّه؛ لأنَّه إنما ذكر لطلب الأجر، فهذا طالبٌ، وهذا طالبٌ، لكن هذا يطلب مباشرةً: يا ربّ، أعطني. وهذا يقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، يطلب بذلك الثَّواب، فكلّ هذا دعاءٌ بهذا الاعتبار.

الحاصل: أنَّ من أهل العلم مَن فسَّر الصَّلوات بالعبادات القولية من نوعي الدّعاء، أو الذكر بالسُّؤال، أو الثَّناء والحمد، ومنهم مَن فسَّره بالعبادات البدنيَّة؛ لأنَّهم فسَّروا التَّحيات -هؤلاء- بالعبادات القوليَّة، وفسَّروا الصَّلوات بالعبادات البدنية، وكما ذكرنا أنَّهم فسَّروا الطَّيبات بالعبادات المالية، وقلنا: هذا لا دليلَ عليه.

أمَّا الفريق الآخر الذين حملوا الصَّلاةَ على الصَّلاة الشَّرعية، هي الصَّلاة المعروفة، وهؤلاء إنما ذهبوا إلى ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أنَّ ألفاظَ الشَّارع محمولةٌ على المعنى الشَّرعي، وليست بمحمولةٍ على المعنى اللُّغوي إلا لدليلٍ، لقرينةٍ؛ لأنَّ عُرفَ الشَّارع الشَّرعيَّات، فإذا خاطبنا الشَّارعُ بمثل هذا، فجاء بالأمر بالصَّلاة، أو بذكر الصَّلاة، فالمتبادر إلى الذِّهن أنها الصَّلاة المعروفة؛ لأنَّ هذا هو معناها الشَّرعي، ولا حاجةَ لأن نُفسِّرها بالمعنى اللُّغوي؛ لأنَّ هذا إنما يُفسّر به كلام أهل اللُّغة، أمَّا كلام الشَّرع فهو يُقرر الشَّرعيات، وكل مُتكلِّمٍ يُحمل كلامه على معهوده؛ يعني: على عُرفه.

ومن ثم فإنَّ من أهل العلم مَن قال: إنَّ الصَّلوات "أل" هذه عهديّة، الصَّلوات المعهودة، ما الصَّلوات المعهودة؟ الخمس؛ يعني: أنَّ هذه الصَّلوات لله ، تُوجَّه إليه، يتعبَّد ويتقرَّب بها إليه -سبحانه وتعالى-، هذه الصَّلوات التي نُصلِّيها، الصَّلوات الخمس.

وبعضهم فسَّر "أل" هذه بأنها للجنس -جنس الصَّلوات- يعني: الصَّلاة التي تُفتتح بالتَّكبير، وتُختتم بالتَّسليم، الصَّلاة الشَّرعية، كلّ هؤلاء فسَّروا الصَّلاة بالمعنى الشَّرعي، لكن فريقًا منهم قال بأنَّها الصَّلاة المعهودة، وهي الصَّلوات الخمس، الصَّلوات هذه التي نُصليها.

والفريق الآخر قالوا: لا دليلَ على تخصيص الخمس، كل الصَّلوات التي نُصليها من فرضٍ ونفلٍ، كلُّه لله -تبارك وتعالى-، ولا تُصلَّى لغيره، هذا قالت به طائفةٌ.

الذين حملوها على المعنى الشَّرعي جمعٌ من أهل العلم: كالقرافي[2]، وغيره، والذين جعلوا "أل" عهدية؛ أنها الصَّلوات الخمس أيضًا طائفةٌ، من هؤلاء: ابن المنذر[3]، وبعض الشَّافعية[4]، قالوا: هذه الصَّلوات الخمس لا تُصلَّى لغير الله .

وبعضهم فسَّر الصَّلوات بالرحمة: التَّحيات لله، والصَّلوات يعني: الرحمة[5]، قالوا: لأنَّ صلاةَ الله -تبارك وتعالى- على عباده بمعنى: الرَّحمة. هكذا فسَّروها، مع أنَّ الأقربَ أنَّ صلاةَ الله على العبد تُفسَّر بذكره في الملإ الأعلى، كما قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: أن يذكره في الملإ الأعلى، إذا قلنا: اللهم صلِّ على محمدٍ[6].

وبعض أهل العلم فسَّره بالرحمة، فهؤلاء الذين فسَّروه بالرحمة قالوا: التَّحيات لله، والصَّلوات بمعنى: الرحمة، هي لله -تبارك وتعالى-، يرحم بها مَن شاء من عباده.

وذهبت طائفةٌ –كالزهري- إلى حمله على معنى أعمّ من هذا كلِّه، قالوا: والصَّلوات يعني: العبادات بجميع أنواعها: العبادات القولية، والعبادات البدنية، كلّ ذلك يُقال: صلوات.

وعلى كل حالٍ، لو أنَّ ذلك حُمِلَ على المعنى اللُّغوي والشَّرعي من باب حمل المشترك على معنييه، أو عند القائلين بالمجاز حُمِلَ اللَّفظ على حقيقته ومجازه؛ لكان ذلك له وجهٌ، وهو قريبٌ من النَّظر، وجمعٌ من أهل العلم من الأصوليين -كالشَّافعي وغيره- يُصححون حمل المشترك على معنييه[7]، وعند القائلين بالمجاز أيضًا على حقيقته ومجازه في آنٍ واحدٍ.

انظروا إلى قوله -تبارك وتعالى-: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43]، يُصلي عليكم وملائكته؛ يعني: يُصلُّون، لفظٌ واحدٌ: يُصلِّي صلاتَه على عبده، صلاته علينا؛ بمعنى: أن يذكر عبدَه في الملإ الأعلى، صلاة الملائكة الاستغفار: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى:5]، لفظ "الصَّلاة" جاء واحدًا، واستُعمل في المعنيين، فهذا من باب حمل المشترك على معنييه، وهذا مثالٌ واضحٌ لهذه القاعدة.

فلو قيل: بأنَّ الصَّلوات تدخل فيها الأدعية، وتشمل أيضًا النَّوع الآخر من الدُّعاء بالذكر، وتشمل أيضًا الصَّلوات من فرضٍ ونفلٍ. فهذا وجيهٌ.

ولو أنَّ المعنى وسّع باعتبار أنَّ الصَّلوات إذا كانت تُقال للدُّعاء، فالدُّعاء يشمل الدُّعاء بالسؤال، ويشمل الدُّعاء بالذكر، ويشمل الدُّعاء أيضًا بالجوارح، العمل؛ يعني: هذا الإنسان الذي يعمل بجوارحه، يتعبّد بجوارحه، أو يصوم، هو ماذا يريد؟ هو سائلٌ بفعله، هو يطلب ما عند الله، هو يطلب الأجر، فهذا لا إشكالَ فيه -إن شاء الله تعالى-، لكن هناك معانٍ قريبة، وهناك معانٍ تدخل فيه بنوعٍ من أنواع الدّلالة الصَّحيحة: كاللزوم، أو التَّضمن، هذا ما يتعلَّق بهذه الصَّلوات.

الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله- فسَّر ذلك بمعنًى شاملٍ لكلِّ ما يُطلق عليه صلاة شرعًا، أو لغةً، قال: فالصَّلوات كلّها حقًّا واستحقاقًا، لا أحدَ يستحقُّها، وليست حقًّا لأحدٍ سوى الله ، والدُّعاء أيضًا حقٌّ بالمعنى اللُّغوي، كما قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[8] [غافر:60].

فلاحظ هنا ادْعُونِي فُسِّر: اسألوني، وفُسِّر أيضًا: اعبدوني؛ لأنَّه قال بعده: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي، فالدُّعاء يأتي بمعنى: العبادة، وكلا المعنيين صحيحٌ في الآية كما ذكرناه في مناسباتٍ شتَّى في غير هذه المجالس في التَّفسير، وفي غيره، فكلّ الصَّلوات: فرضها ونفلها، وكلّ الأدعية لله ، باعتبار أنَّ الصلاة تُقال في هذا وهذا، وهذا الكلام قريبٌ -والله تعالى أعلم-.

بعد ذلك يأتي: الطَّيبات، والصَّلوات، والطَّيبات يعني: لله ، ما معنى "الطَّيبات"؟ فُسِّرت "الطَّيبات" هذه التي نقولها في التَّشهد بالكلمات الطَّيبات، ما الكلمات الطَّيبات؟ هي ذكر الله وما والاه، ذكر الله، جميع أنواع الذكر، والله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، أفضل الكلم الطَّيب، وأعلى الكلم الطَّيب، وأجلّ الكلم الطَّيب: "لا إله إلا الله"، وقد أخبر النبيُّ ﷺ عن أفضل الكلام، الكلمات الأربع، وهي هذه الكلمة: كلمة التوحيد، بالإضافة إلى سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وفُسِّر بذلك أيضًا الباقيات الصَّالحات: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [الكهف:46].

فهذا فُسِّر به الكلمات الطَّيبات، وعلى هذا أكثر أهل العلم: التَّحيات لله، والصَّلوات، والطَّيبات يعني: الكلمات الطَّيبات، الطَّيبات من الكلام مصروفات إلى الله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا قال الليثُ: أحسن الكلام وأفضله لله[9]. يعني: الذي يُحْمَد ويُثْنَى عليه، ويُقال في حقِّه ما يليق بجلاله وعظمته، فهو المنعِم المتفضِّل: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].

كنا نتكلم في يوم السبت الماضي في أسماء الله الحسنى عن اسمه: الكريم، وذكرنا أشياء مما يدخل في كرمه، وفضله، وإحسانه، وبرِّه، وجوده، واليوم كنتُ أحاول أن أُحصي مجموعةً من الأسماء الحسنى التي تتَّصل بالعطاء والكرم، قلتُ: لعلَّ ذلك يكون في مجلسٍ واحدٍ -إن شاء الله-، فاجتمعت أسماء كثيرة، أكثر من خمس عشرة اسمًا تدلّ على العطاء والإحسان والبذل للعباد، فبذله -تبارك وتعالى- وإحسانه وعطاؤه مُتجدد، مُتنوع، لا يُحصيه المحصون، ولا يعدّه العادُّون.

وبعض أهل العلم قال: الطَّيبات -كما ذكرنا سابقًا- هي العبادات المالية. هؤلاء هم الذين فسَّروا التَّحيات والصَّلوات بما سبق.

وبعضهم قال: الطَّيبات هي الأعمال الصَّالحة؛ لأنَّها تطيب العباد: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور:26]، مع أنَّ الطَّيبات هنا لا تختصّ بالأعمال الصَّالحة، فيدخل في ذلك النِّساء: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ من النَّاس؛ لأنَّ السياقَ في هذا؛ في عائشةَ -رضي الله عنها- وقصّة الإفك، فالنِّساء الطَّيبات الأوصاف، الطَّيبات للطّيبين من الناس، الكلمات الطَّيبات.

وهذا قول أكثر المفسّرين، ومنهم أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[10]: الطَّيبات من الكلام للطّيبين من الناس، إن قالوها وصدرت عنهم فهم مظنّتها، وإن قِيلت فيهم فهم أهلها، بخلاف -نسأل الله العافية-: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26]، الخبيثات من النِّساء من الأوصاف، من الأفعال، من الأقوال، فهؤلاء إذا صدرت عنهم فهم مظنّتها، وهم أهلها، ما ينتظر منه إلا أسوأ القول، وأسوأ الفعل، هم معدن لهذا -نسأل الله العافية-، إذا تكلّم ماذا تتوقع منه؟ وإذا كتب ماذا تتوقع منه؟ ويدخل في ذلك أيضًا كون هؤلاء إذا قِيلت فيهم ضرّتهم، وهم حقيقيون بذلك.

فعلى كل حالٍ، "الطَّيبات" عامَّة أهل العلم فسَّروها بذكر الله : الطَّيبات من الكلام، كلّ ذلك يتوجّه به إلى الله -تبارك وتعالى-، ويُقال فيه.

الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحمه الله- هنا فسَّرها بتفسيرٍ شاملٍ أيضًا، قال: "الطَّيبات" لها معنيان: المعنى الأول: ما يتعلّق بالله. والثاني: ما يتعلّق بأفعال العباد[11]، الذي يتعلّق بالله قصد بذلك الأوصاف التي يُوصَف بها، "الطَّيبات" يعني: من الأوصاف والأفعال، فله من ذلك أطيبه، وله من الأقوال أطيبها.

والنبي ﷺ يقول: إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا[12]، فالله طيِّبٌ في ذاته، طيِّبٌ في أفعاله، طيِّبٌ في صفاته، وهو لا يكون منه إلا الطَّيب، فأفعاله كلّها خير، وأوصافه كلّها طيبة.

وأمَّا أفعال العباد التي تصدر عنهم، من أعمالٍ وأقوالٍ، له منها الطَّيب، فلا يليق به إلا ذلك؛ ولهذا قال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، الصَّالح هنا طيِّبٌ أيضًا: يَرْفَعُهُ، قيل: الضَّمير يرجع إلى الله؛ أي: أنَّ الله يرفع العمل الصَّالح؛ لأنَّه لا يرتفع إليه إلا العمل الصَّالح، وبعضُهم يقول: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، الهاء، هاء الضَّمير يرجع إلى الكلم الطَّيب، العمل الصَّالح يرفع الكلم الطَّيب؛ لأنَّه لا ينفع كلامٌ بلا عملٍ.

وبعضهم يقول: الكلم الطَّيب يرفع العمل الصَّالح؛ يعني: أنَّ الضَّمير يرجع إلى العمل الصَّالح، الكلم الطَّيب: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الكلم الطَّيب؛ لأنَّه لا يرتفع عملٌ بغير "لا إله إلا الله" بهذا الاعتبار، وهذه المعاني كلّها صحيحة، والقرآن يُعبّر به بالألفاظ القليلة الدَّالة على المعاني الكثيرة.

فهنا يكون ما يتعلّق بأفعال العباد وأقوالهم، وما يصدر عنهم من: ذكرٍ، وتهليلٍ، وتسبيحٍ، وما إلى ذلك، ومن أعمالٍ في تعبُّداتهم، وكذلك الصَّدقات والزَّكوات، فإنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، فيقبل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، إلى أن قال بعده في الآية التي بعدها: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [التوبة:104]، فكل ذلك يرتفع إليه، ويتوجّه به إليه.

مقابل الطَّيب: الخبائث، وهناك شيءٌ ليس بطيبٍ، وليس بخبيثٍ، الله -تبارك وتعالى- له المثل الأعلى، ولا يمكن أن يكون شيءٌ من صفاته وأفعاله إلا على وجه الكمال والطّيب، أمَّا ما يصدر من العباد فمنه، ومنه، كلّ ذلك يتأتَّى منه.

هذا ما يتعلّق بقولنا في التَّشهد: والصَّلوات، والطَّيبات، هل نحن نستحضر هذه المعاني كلّها حينما نقول: التَّحيات لله، والصَّلوات، والطَّيبات؟

لو كنا نستحضر هذه المعاني، ونقول كلّ ما صدر عنا من هذه الأشياء؛ لأوجب ذلك إحضار النية في كل شيءٍ، الإخلاص لله وتصحيح العبادة، وأن يأتي الإنسانُ بهذه الصَّلاة على الوجه المطلوب؛ لأنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيبًا، فلا ينقرها ويأتي بها بحالٍ مُشوَّهة، والمعازف تضرب في جيبه بهذه الهواتف النَّقالة، وهو يُصلي ويُناجي ربَّه، ويقول: التَّحيات لله، والصَّلوات، والطَّيبات، وهذا يشهد عليه بأصواتٍ مُنكرةٍ يسمعها أهلُ المسجد، وهم في حال الصَّلاة، يُناجي ربَّه، ثم يُواجهه بهذه القبائح.

فهذا الذي يجعلنا -أيّها الأحبّة- لا ننتفع كثيرًا بصلاتنا، فلم تعد تنهانا عن كثيرٍ من الفحشاء والمنكر، والسَّبب أننا نُؤدّيها أداءً صوريًّا يخلو من الروح، والاستحضار، والعقل لما تضمّنته من هذه المعاني الكبار.

أنا أستبعد الأشياء البعيدة، والأقوال الشَّاذة، والكلام الذي لربما لا حاجةَ إليه، لكني أحرص أن آتي بأشياء مُفيدة لطالب العلم ولغيره، فمَن لم يفقه بعضَها فإنَّه يُدرك أنَّ تحت هذه الأقوال والأعمال أشياء قد لا يستوعب جُملًا منها، لكنَّها أشياء عظيمة جدًّا؛ أن تحت هذه الألفاظ الشَّرعية هدايات كبيرة، ومعانٍ كبيرة قد غفل عنها.

أنا أريد أن تصل هذه الرِّسالة، ولو لم يفهم بعضُنا بعضَ ما يُقال في شرح هذه الأذكار مما يكون زائدًا عن الحدِّ الذي يحتاج إليه عامَّةُ الناس، فينتفع به طالب العلم؛ ليُدرك هذا المعنى، هنا هدايات كبيرة.

إذًا علينا أن نحضر القلب، علينا أن نُصحح هذه العبادات، ونسأل الله أن تكون هذه المجالس سببًا لصلاح الأحوال، لصلاح القلوب والأعمال، وتصلح هذه الصَّلوات، وتكون كافَّةً لنا، ناهيةً عن الفحشاء والمنكر، وأن تكون قُرَّةَ عينٍ لنا، والنبي ﷺ جُعِلَتْ قُرَّةُ عينه في الصَّلاة، فمتى نصل إلى هذه الحال؟

حينما نرى أننا لربما نستثقل هذه الصَّلاة، ونتحرى أن نأتي هذه الصَّلاة بعدما تُقام، ونحاول أن نُوقِّت هذا؛ ألا نأتي إلى المسجد إلا بعدما تُقام الصلاة، ولربما فاتتنا في اليوم والليلة ركعات، أو صلوات، وفي الليلة الماضية الناس يسألون، وأئمّة المساجد يسألون؛ لأنَّهم سيتوقعون إحراجات من الناس عن الجمع في الغبار.

فكنتُ أقول لهم: هؤلاء لم يكفهم الغبار عن الانطلاق في مصالحهم وشؤونهم، نحن حينما نسير في ناحيةٍ، أو في أخرى؛ نجد المحلات مفتوحة، والأسواق مفتوحة، والمكاتب العقارية وغير العقارية، كلّ ذلك مفتوحٌ، ولم يتوقف أحدٌ، فهذا الذي يُعاني من ربوٍ أو نحو ذلك -نسأل الله أن يُعافي كلَّ مسلمٍ- يُصلي في بيته، وله رخصة، لكن بقية الناس ما بقوا في بيوتهم؛ لأنَّهم تؤذّوا بسبب الغبار، فلِمَاذا وقفت على الصَّلاة؟!

والنبي ﷺ ما نُقِلَ عنه قطّ أنَّه جمع في غبارٍ، الغبار موجودٌ في زمن النبي ﷺ، لكن القضية استثقال، اختصرها، هانت لأدنى سببٍ، وهذا غير صحيحٍ، وهذا يعني: أنها لم تعد قُرَّة عينٍ.

مَن صارت له الصَّلاةُ قُرَّة عينٍ إذا جاء وقتُها هو مُشتاقٌ، ينتظرها، هو إليها بالأشواق، أمَّا الآخر إذا جاء وقتُ الصَّلاة وقد صلَّاها جمع تقديمٍ، وهو يشعر أنَّه في استرواحٍ، هنا لا يوجد الآن صلاة، يرجع إلى بيته مسرورًا، مُنشرح الصَّدر؛ لأنَّه قد ألقى عبئًا يُثقل كاهله، أليس هذا هو واقع الكثيرين؟!

ونسأل الله أن يعفو عنا، وأن يرحمنا.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التَّشهد وليس بواجبٍ، برقم (835).
  2. انظر: "الذخيرة" للقرافي (2/215).
  3. انظر: "الأوسط" لابن المنذر (5/3).
  4. انظر: "البيان في مذهب الإمام الشافعي" (2/236).
  5. انظر: "شرح صحيح مسلم" للقاضي عياض، المسمَّى: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2/294).
  6. انظر: "جلاء الأفهام في فضل الصَّلاة على محمدٍ خير الأنام" لابن القيم (ص162) و(ص478).
  7. انظر: "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" للإسنوي (ص146).
  8. انظر: "الشرح الصَّوتي لزاد المستقنع" لابن عثيمين (1/1238).
  9. انظر: "البناية شرح الهداية" للعيني (2/265).
  10. انظر: "تفسير الطبري" (19/141-144).
  11. انظر: "الشرح الصَّوتي لزاد المستقنع" لابن عثيمين (2/52).
  12. أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب قبول الصَّدقة من الكسب الطَّيب وتربيتها، برقم (1015).

مواد ذات صلة