الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(131) الدعاء بعد التشهد الأخير قبل السلام " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال"
تاريخ النشر: ٢٨ / جمادى الأولى / ١٤٣٥
التحميل: 3253
مرات الإستماع: 2914

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة نتحدَّث -إن شاء الله- عمَّا جاء من الدُّعاء بعد التَّشهد الأخير قبل السَّلام، فأول ما ذكره المؤلفُ ما جاء من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسولُ الله ﷺ يدعو ويقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجال[1]، هذه الأربع: عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدَّجال.

والحديث مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين".

فهذا اللَّفظ: أنَّ النبي ﷺ كان يدعو ويقول: اللهم إني أعوذ بك، وجاء في بعض ألفاظه: وإذا فرغ أحدُكم من التَّشهد الآخر فليتعوّذ بالله[2]، فهذا أمرٌ، فيتعوذ هنا فعل مضارع، دخلت عليه لامُ الأمر، وهذه إحدى الصِّيغ المعروفة للأمر.

وجاء من حديث ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-، وهو أيضًا مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين": أنَّ النبي ﷺ كان يُعلِّمهم هذا الدُّعاء كما يُعلِّمهم السُّورة من القرآن، يقول: قولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدَّجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات[3]، فهذا فيه الاستعاذة من هذه الأربع أيضًا، لكن مع تقديمٍ وتأخيرٍ ومُغايرةٍ يسيرةٍ في اللَّفظ: من عذاب جهنم، من عذاب النَّار.

فكون النبي ﷺ يأمر بذلك، وأيضًا هنا يُعلِّمهم هذا الدُّعاء كما يُعلِّمهم السُّورة من القرآن، كلّ ذلك يدلّ على تأكُّده، وأنَّ ذلك مما ينبغي أن يُحافظ المصلِّي عليه.

وقد جاء عن طاووسٍ، كما في "صحيح مسلم" بعد أن أورد هذا الحديث: بأن طاووس بن كيسان قد أمر ابنَه بإعادة الصَّلاة حينما ترك هذا الدُّعاء، أمره بالإعادة[4].

ولهذا فقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى وجوب الاستعاذة من الأربع بعد الفراغ من التَّشهد[5]والصَّلاة على النبي ﷺ، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولكن المشهور الذي عليه الجمهور[6]-ومنهم الأئمة الأربعة- أنَّ ذلك من قبيل المستحبّ، ولكن مثل هذه العبارات في الحديث -كما رأيتُم- من الأمر به، وتأكيد النبي ﷺ عليه؛ هذا يدعو المؤمن المصلِّي إلى التَّمسك به، والمحافظة على هذا الدُّعاء.

فالقول بأنَّه واجبٌ قولٌ قريبٌ، وهو مُقتضى الصناعة الأصولية: أنَّ الأمر للوجوب، ولكن الجرأة على هذا لا تخلو من إشكالٍ؛ لقول السَّواد الأعظم من أهل العلم، ومنهم الأئمّة الأربعة، فيُقال: ينبغي الحرص والمحافظة، وألا يدع المسلمُ مثلَ هذا، هذا هو القدر الذي نحتاج إليه، وكلام طاووس يمكن أن يُقال: هذا اجتهادٌ له، مع أنَّ الكثيرين من أهل العلم قد وجَّهوا ذلك بتوجيهاتٍ؛ يعني: حملوه على محامل، باعتبار أنَّه لا يرى الوجوب، وذلك من عند أنفسهم؛ يعني: هم اجتهدوا في بيان محامل لما صنعه طاووس -رحمه الله-، قالوا: لعله قصد بذلك التَّأديب؛ لأنَّه في مقام التَّعليم؛ تعليم الولد، فأمره أن يُعيد هذه الصَّلاة.

لكن مهما كان، هذه قضية شرعيّة، الصّلاة إذا وقعت على وجهٍ صحيحٍ؛ فإنَّه لا موضعَ للإعادة، إنما الذي يُعاد ما كان غير مُجزئٍ؛ يعني: ما كان واقعًا على صورةٍ صحيحةٍ، ولو كان فيه ما كان من النَّقص، فإنَّه لا موضعَ للإعادة؛ لأنَّ الثانية نافلةٌ، الفرض وقع في الأولى، سواء كان هذا في الصَّلاة، أو كان في الحجِّ، أو غير ذلك، إذا وقع على وجهٍ صحيحٍ، ولو كان فيه بعض النَّقص.

يعني: بعض الناس يقول: أنا صليتُ وما خشعتُ كما ينبغي، أريد أن أُعيد، يُقال: لا، انتهى، هذه الصَّلاة وقعت، ومضت.

بعض الناس يقول: حججتُ حجّة الإسلام، ولم يكن ذاك الحجّ الذي أتطلع إليه؛ كان معي رُفقة، وكنا نُكثر الضَّحك والمزاح والدُّعابة، وما إلى ذلك، أُريد أن أحجَّ ثانيةً، تكون هي حجّة الإسلام، نقول: لا، هيهات، تلك كانت حجّة الإسلام، وما بعدها يكون نافلةً.

فهنا هذا الأمر من طاووس يدلّ على أنَّه كان يرى الوجوب، فمهما كان التَّأديب والتَّعليم، فهذه قضيّة شرعيّة -والله تعالى أعلم-.

فهنا: إذا فرغ أحدُكم من التَّشهد الآخر[7] كما في بعض رواياته، يعني: آخر الصَّلاة؛ يعني: ليس التَّشهد الأول، فإذا كانت الصلاةُ من ركعتين، أو من ثلاثٍ، أو من أربعٍ؛ فإنَّ ذلك يكون في جلوسها الأخير: ففي صلاة الفجر يقول ذلك بعد الصَّلاة على النبي ﷺ، وفي صلاة المغرب والعشاء يكون في التَّشهد الثاني، ولا يقول ذلك في التَّشهد الأول، والتَّشهد الأول مبناه على التَّخفيف كما هو معلومٌ، وإنما يكون موضع الدّعاء قبل الانصراف من الصَّلاة، وفي آخرها، يكون في آخر الصَّلاة قبل السَّلام منها.

فليتعوَّذ كما في الرِّواية الأولى، وهذا في الرِّواية الثانية، وهذا ظاهره الوجوب؛ يعني: فليستعذ بالله، والاستعاذة والعوذ عرفنا أنَّه بمعنى: الالتجاء والاعتصام بالله -تبارك وتعالى-، يتعوّذ من ماذا؟ يقول: "اللهم إني"، عرفنا معنى: "اللهم"؛ يعني: يا الله: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم في رواية ابن عباسٍ.

وفي حديث أبي هريرة بدأ بعذاب القبر: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر[8]، والنبي ﷺ أخبر أنَّ هذه الأُمَّة تفتن في قبورها[9]، وأخبر عن عذاب القبر، ومرَّ بقبرين -كما هو معلومٌ- وقال: أما إنَّهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ؛ أمَّا أحدهما فكان يمشي بالنَّميمة، وأمَّا الآخر فكان لا يستتر من بوله[10]، فإذا كان العذابُ واقعًا على هذه الذُّنوب التي يتقالُّها الناس، يرون أنها قليلة، وأنها يسيرة، وهي من مُحقِّرات الذنوب في نظر الكثيرين، فما بالك إذًا بالذُّنوب الكِبار؟ وما بالك بما هو أعظم من ذلك، وهو الإشراك بالله -تبارك وتعالى-؟ والله يقول عن آل فرعون: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25]، فالفاء تدلّ على التَّعقيب المباشر، فاستدلَّ به أهلُ العلم على أنَّ ذلك يُقصد به عذاب القبر.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فهم يُعرضون على النَّار غدوًّا وعشيًّا، هذا في القبر، والحديث الطَّويل؛ حديث البراء يدلّ على ذلك أيضًا.

فالمقصود أنَّه ابتدأ بعذاب القبر، ابتدأ بالأخصِّ، ثم الأعمّ، ثم الأعمّ، فبدأ بهذا التَّدريج: "اللهم إني أعوذ بك"؛ أي: ألتجئ وأعتصم من عذاب القبر، ومن عذاب النار، فعذاب النَّار أعمُّ من عذاب القبر؛ لأنَّ عذابَ النار يكون في القبر، حيث يرى منزله من النار، ويُفتح له نافذة إلى النَّار، ويناله من حرِّها، ومن سمومها، إلى آخره، وكذلك أيضًا في الآخرة، فهذا تعميمٌ بعد تخصيصٍ.

ثم بعد ذلك ذكر الاستعاذة من فتنة المحيا والممات، فتنة المحيا والممات هذا أيضًا أعمّ من عذاب النار، وعذاب القبر، فهذا يدخل فيه فتنة المحيا: ما يكون في الحياة، وما يكون عند الموت، وما يكون في القبر، وما يكون في المحشر، وما يكون بعد ذلك أيضًا من عذاب النار، أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها.

ونُلاحظ هنا أنَّه كرر: "أعوذ"، و"أعوذ بك من فتنة المحيا والممات"، في كلِّ واحدةٍ يُكرر هذه اللَّفظة؛ إظهارًا لعظم موقعها، وأنها حقيقة باستعاذة مُستقلة؛ يعني: كلّ جملةٍ، أو كلّ مُستعاذٍ بالله منه من هذه القضايا يستحقّ أن يُستعاذ بالله منه على سبيل الاستقلال لشدّته وعظيم خطره؛ ولذلك لم يعطف بالواو من غير إعادةٍ لفعل الاستعاذة: "أعوذ بك من فتنة المحيا والممات"، ما فتنة المحيا وفتنة الممات؟

فتنة المحيا فسَّرها بعضُ أهل العلم بالابتلاء الذي يقع للإنسان مع زوال الصَّبر، الله أخبر أنَّ هذه الحياة هي موضع ابتلاء: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، هو الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وأخبرنا أنَّه يبلونا أيضًا بالخير والشَّر فتنةً، فهذه الفتنة تكون بالمسارِّ والأمور المحبوبة: بالمال، والولد، واللَّذات، وتكون أيضًا بالمكاره، فالوقوع في الآفات داخلٌ فيه، والإصرار على السَّيئات، ومُعافسة الموبقات، كلّ هذا من فتنة المحيا: التَّعلق بمساخط الله ، بالأمور التي يكرهها، بالأمور التي يسخطها، بالأمور التي تُودي بالعبد إلى عذاب الله -تبارك وتعالى-، كلّ ذلك داخلٌ في فتنة المحيا.

وفتنة الممات فُسِّر ذلك بسؤال الملكين، وكذلك أيضًا عذاب القبر، ويدخل فيه أيضًا ما ذكره بعضُ أهل العلم من الابتلاء عند النَّزع، كلّ هذا داخلٌ فيه، والعلم عند الله -تبارك وتعالى-.

بعدما ذكر فتنة المحيا والممات، فتنة المحيا بمعنى: فتنة الحياة، وفتنة الممات يعني: بما يكون بعد الموت، فتنة المحيا بما يكون في أيام حياته من أوَّلها إلى آخرها في دار الابتلاء، فهذه الدُّنيا دار الشَّهوات، دار فتنةٍ، ويكون آخر ذلك عند النَّزع، فعلى أي شيءٍ يموت الإنسانُ؟ وبأيِّ شيءٍ يُختم له؟

ومن هنا فإنَّ من أهل العلم مَن قال بأنَّ فتنة المحيا والممات، بأنَّ فتنة المحيا يدخل فيها كلّ ما يكون من ذلك الذي قاله أهلُ العلم في حياة الإنسان، وفتنة الممات يدخل فيها كلّ ما قيل من سؤال الملكين، وما يكون عند النزع، وعذاب القبر، وما إلى ذلك، كلّه داخلٌ في فتنة الممات؛ لأنَّ ذلك يقع بعد الموت.

وأضاف هذه الفتنة إلى المحيا والممات؛ المحيا باعتبار أنَّها واقعة في الحياة، وأمَّا ما يكون في القبر وبعد الموت أضافه إلى الممات؛ لتعلُّقه به، وقُربه منه، فإنَّ ذلك يكون عند الاحتضار، ويكون بعد مُفارقة الروح الجسد من سؤال الملكين، كلّ هذا قريبٌ من موته، فإنَّ الإنسان إذا مات قامت قيامتُه.

وهنا أيضًا نُلاحظ أنَّه قدَّم عذابَ القبر في هذه الرِّواية على فتنة الدَّجال.

أجاب بعض أهل العلم على هذا؛ يعني: فتنة الدَّجال واقعة في الحياة، فهي من جملة فتنة المحيا، فبعض أهل العلم قال: باعتبار أنَّ فتنةَ الممات أطولُ من فتنة الدَّجال، أطول من جهة الزمن، وأعظم شأنًا؛ يعني: عذاب القبر مثلاً أعظم شأنًا، وأعظم امتحانًا. هكذا قال بعضُ أهل العلم.

ثم قال: "وأعوذ بك من فتنة المسيح الدَّجال"، فتنة المسيح الدَّجال يعني: ابتلاء المسيح الدَّجال وامتحانه، فإنَّ ذلك يكون فتنةً واقعةً عظيمةً لمن أدركها؛ ولهذا فإنَّ الله لم يبعث نبيًّا إلا حذَّر أُمَّته الدَّجال[11]، كما أخبر النبي ﷺ؛ وذلك لعظم فتنته، وشدّة خطرها.

والدَّجال المقصود به: المسيح الذي أخبر عنه النبيُّ ﷺ، والدَّجال يُقال للخدَّاع، والمفسِد، والمضلّ، والمموه الذي يفتن الناس ويصدّهم عن الحقِّ بتمويهاته، وخِداعه، وتضليله، ودجله.

لماذا سُمِّي بالمسيح؟

بعض أهل العلم يقول: قيل له ذلك لأنَّ إحدى عينيه ممسوحة؛ يعني: هو فعيل؛ بمعنى: مفعول، مسيح؛ بمعنى: ممسوح؛ يعني: عينه ذاهبة.

وبعضهم يقول: لأنَّه ممسوحٌ من كل خيرٍ، مُبْعَدٌ عنه، لا خيرَ فيه؛ أو لأنَّ أحد شقّي الوجه خُلق ممسوحًا، لا عينَ فيه، ولا حاجب. وهذا قريبٌ، يرجع إلى القول الأول.

وبعضهم يقول: إنَّه فعيل؛ بمعنى: فاعل؛ يعني: مسيحٌ؛ بمعنى: ماسح، باعتبار أنَّه يمسح الأرض؛ يعني: يقطعها، يدخل القُرى والمدن، ونحو ذلك في مدةٍ وجيزةٍ، إلا مكّة والمدينة، فإنَّه لا يتمكّن من ذلك.

وهذا بخلاف عيسى ؛ فإنَّه يُقال له: المسيح.

وبعضهم يقول: إنَّ أصلَه المسيح باللغة العبرانية، وهو المبارك.

وبعضهم يقول: لأنَّه خرج من بطون أُمِّه ممسوحًا بالدّهن، فقيل له: المسيح.

وبعضهم يقول: لأنَّ زكريا مسحَه؛ فقيل له ذلك.

وبعضهم يقول: لأنَّه ممسوح باطن القدم، الله تعالى أعلم.

ولكن المسيح يُقال له: المسيح، فيُعرف أنَّه عيسى ابن مريم .

وأمَّا الدَّجال فإذا قيل: المسيح؛ فإنَّه لا بدَّ من تقييده بالدَّجال.

وفتنة الدَّجال كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على نوعين، وهذا في غاية الأهميّة:

الأولى: فتنة جنسٍ[12]: بمعنى: أنَّه كل مُموهٍ، كلّ مُضلٍّ، كلّ صاحب شُبهات؛ فهو من جنس فتنة الدَّجال؛ يعني: سواء كان صاحبَ موقعٍ في الإنترنت، سواء كان صاحب حسابٍ في تويتر، سواء كان هذا صاحب قناةٍ فضائيةٍ، سواء كان هذا من المشعوذين، من المنجِّمين، من الكُهَّان، ممن يدَّعي أنَّه صاحب خوارق، ونحو ذلك، يدَّعي الإلهية، أو يدَّعي النبوة، أو يدَّعي أنَّه المهدي، أو غير ذلك.

وقد ذكرتُ لكم في بعض المناسبات ما ذكره الحافظُ ابن كثير -رحمه الله-، وما ذكره شيخُ الإسلام عن رجلٍ افتتن في بلاد الشَّام، فتنه الشَّيطانُ، وكان صاحب عبادةٍ، ذكر شيخُ الإسلام أنَّه كان يبقر الرُّخامة التي في المسجد الجامع بأصبعه، وكان يُري الناس رجالاً على خيلٍ عليهم البياض، وعليهم العمائم البيضاء، ويقول: هؤلاء الملائكة، أو رجال الغيب! وكلّ ذلك من تمويهاته، وكان يدَّعي أنَّه يُوحى إليه، فهذا من الدَّجاجلة[13].

كذلك المختار الثَّقفي كان يدَّعي أنَّه يُوحى إليه، وكان يُخبر عن مغيبات، فإذا لم تقع -قبَّحه الله- قال: بدا لله كذا وكذا -نسأل الله العافية-، إلى غير ذلك من الأسود العنسي، وسِجاح، وغير هؤلاء من الضَّالين المضلّين إلى يوم القيامة.

ولا يزال يخرج إلى الناس إلى اليوم مَن يُضللهم بألوان التَّضليل: إمَّا بشُبهات يضلّ بها عقولهم، ينشرها، ويُذيعها، وإمَّا بتمويهات وأمور من قبيل خفّة الحركة، أو معرفة خواصّ المواد، أو من قبيل السّحر، فيظهر أنَّ ذلك من قبيل الخوارق، وقد يكون مُضلاً بغير هذا كلِّه، كلّ مُضلٍّ وداعية إلى الضَّلال يُفْسِد عقائد الناس، وأديان الناس، وأخلاق الناس؛ فهو من الدَّجاجلة، هو من جملة الدَّجالين، وكل دجالٍ له أتباع، ولكن الدَّجال الكبير يكون يوم القيامة.

وانظروا إلى الدَّجاجلة في كل عصرٍ، وكم لهم من الأتباع في زماننا هذا، كل دجالٍ له أتباع، يصيح بهم الشَّيطانُ من أقصى الغرب، ثم يجد أتباعًا في أقاصي الشَّرق، هذا شيءٌ مُشاهَدٌ.

في بلادٍ مثل: إندونيسيا يُوجد مَن يدَّعي أنَّه إلهٌ، وله أتباعٌ في جميع المحافظات، يوجد هناك مَن يدَّعي أنَّه رسولٌ، وله أتباعٌ في جميع المحافظات، يوجد مَن يدَّعي أنَّه المهدي، وله أتباعٌ من جميع المحافظات، ويُوجد من دُعاة الضَّلالة القاديانية، ولهم أتباعٌ بالملايين، ويوجد مَن يدعو الناس إلى الرَّفض والمذاهب المضلّة، ويُوجد لهم أتباعٌ وقنوات فضائيَّة وإذاعات لربما تزيد على مئة إذاعةٍ.

دُعاةٌ على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، فكلّ هؤلاء من الدَّجاجلة، وقنواتهم هي أبواق الدَّجال؛ بمعنى: جنس الدَّجال الذي ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية، فهذه فتنة جنسٍ.

الثانية: هي فتنة شخصٍ: يعني: فتنة الدَّجال المسيح الذي ذكره النبيُّ ﷺ بأوصافه: الأعور الدَّجال، هذا ذكره شيخُ الإسلام في التِّسعينية.

وهنا حينما يُستعاذ بالله من كل فتنةٍ، فإنَّه يدخل في ذلك الفتن الصِّغار، والفتن الكِبار، فحينما نستعيذ من فتنة الدَّجال؛ فإنَّ الذين يُدركون شخصَ الدَّجال -أعني: المسيح الدَّجال- هم قلّة في الأمة بالنسبة لعددها من أوَّلها إلى آخرها، ولكن هذه الاستعاذة من كلِّ شخصٍ ينبغي أن يستحضر فيها أيضًا فتنة الدَّجالين، كما ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ففتنة الدَّجال لا تختصّ بالموجودين في زمانه، بل حقيقة فتنته الباطل المخالف للشَّريعة، كما يقول شيخُ الإسلام -رحمه الله-: المقرون بالخوارق، فمَن أقرَّ بما يُخالف الشَّريعة لخارقٍ؛ فقد أصابه نوعٌ من هذه الفتنة.

يقول: وهذا كثيرٌ في كل زمانٍ ومكانٍ، لكن هذا المعين فتنته أعظم الفتن، فإذا عصم اللهُ عبدَه منها، سواء أدركه، أو لم يُدركه؛ كان معصومًا مما هو دون هذه الفتنة[14]، وهكذا إنذار الرسل إياه أُممهم يقتضي تخويف عموم فتنته، وإن تأخَّر وجود شخصه حتى يقتله المسيح -عليه السلام- [15].

فالمقصود أنَّ الإنسان ينظر في حاله، وفي أهله، ومَن حوله، ومَن تحت يده، كيف يستجيبون لأبواب الشَّر والضَّلالة، وينقادون للشَّائعات وللأمور التي لا حقيقةَ لها، سواء كان ذلك من قضايا يُدَّعى أنها تنفع الإنسان في عافيته وبدنه، أو كان ذلك يعتقد أنَّه ينفعه في تجارته، وماله، وكسبه من الأمور التي لا حقيقةَ لها، هي خُرافات، إمَّا أن يُقال: هذا من جنس الطّب، ولا حقيقةَ له. أو يُقال: هذا يُفيد في كسب الأموال الطَّائلة، وهذا للأسف تجده ذائعًا شائعًا في كثيرٍ من هذه الدّورات التي قد مُلئت بالدَّجل والخُرافة، مما يكون من قبيل ما يُسمَّى بالطَّاقة، أو غير ذلك من الأمور الرُّوحانية، وما شابه مما يعتقدون، أو مما يضللون، أو مما يُوهمون أنَّه يحصل به الكسب الكثير للأموال، أو تحقيق المطالب المختلفة؛ من صحّة الأجسام، أو غير ذلك مما يطلبه الناس، فهذا كلّه من الدَّجل.

فهؤلاء الذين يتهافتون على هذه الأمور، ويدفعون الأموال، ويقضون الأوقات فيها، هؤلاء إذا صاح بهم الدَّجالُ ماذا سيفعلون؟

هؤلاء النِّسوة اللاتي قد بلغ الأمرُ ببعضهنَّ أنهنَّ يتشبَّهن، السؤال دائمًا عن زيِّ الأعاجم، زيّ القارة الهنديّة، الأذواق الكورية، واللباس الكوري، وصلت الأمور والإفلاس إلى هذا الحدِّ للأسف الشَّديد، أمور يُقال لهم: إنها تنفع من كذا، أصبح الإنسانُ لا يكاد يُصدِّقها، وقد سألنا بعضَ الباعة، وقال: هذا حقيقة.

يا إخوان، عُذرًا، القمل تُباع الواحدة بعشرة ريالات عند بعض العطَّارين، قيل لهؤلاء النِّساء: بأنَّ ذلك نافعٌ لجلدة الرأس، ويُغذِّي ذلك، ويُقوّيه. فصارت الواحدةُ من النِّساء تشتري الواحدةَ بعشرة، وتضعها في رأسها، هل رأيتم عقولاً قد بلغت هذا المبلغ إلى هذا الحدِّ؟!

هذا الكلام لم أُصدقه بحالٍ من الأحوال، ولا يمكن أن أقبله في عقلي، وأن أُصدِّقه، حتى سمعته من كثيرين، وسمعتُه من نساءٍ، وسمعتُه من بعض العطَّارين، قالوا: نعم يوجد، وتُباع الواحدةُ بعشرة ريالات. فإذا صاح الدَّجالُ فما ظنُّكم؟

يدعو الخربة فتُخرج كنوزَها تتبعه كيعاسيب النَّحل، يمرّ على الأرض المجدبة، فيأمر السَّماء فتُمطر، والأرض تُنبت، تعود لهم دوابهم وبهائمهم، ممتدة الخواصر، ممتلئة الضُّروع باللبن، فهذا إذا خرج ماذا سيفعل هؤلاء الناس إزاء فتنته؟!

هذا معيار، إذا كانت هذه الأشياء التَّافهة يتهافت كثيرٌ من الناس عليها، فكيف إذا جاءت تلك الفتنة العظيمة التي ما من نبيٍّ إلا حذَّر أُمَّته، حتى إنَّه ورد أنَّ الرجلَ يُوثق نساءه؛ لئلا يتبعنه، يتهافتون عليه، ويتبعه خلقٌ من الناس: من يهود أصبهان سبعون ألفًا، عليهم الطَّيالسة، يتبعه الخوارج، هؤلاء لخفَّة عقولهم، فيُصدِّقون أشياء وأمورًا لا حقيقةَ لها، ويعيشون في عالم آخر من الرُّؤى، والخيالات، والأحلام، والأماني الفارغة، ثم بعد ذلك يفعلون الأفاعيل؛ بناءً على الوهم الذي يتبعونه، فإذا جاء الدَّجالُ هرولوا خلفَه، نسأل الله العافية.

هذا، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب التَّعوذ من عذاب القبر، برقم (1377).
  2. أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب ما يُستعاذ منه في الصَّلاة، برقم (588).
  3. أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب ما يُستعاذ منه في الصَّلاة، برقم (590).
  4. انظر: "البحر المحيط الثَّجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للإتيوبي (13/149).
  5. انظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (2/301).
  6. انظر: "وبل الغمامة في شرح عمدة الفقه لابن قدامة" للطيار (1/292).
  7. أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب ما يُستعاذ منه في الصَّلاة، برقم (590).
  8. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الدُّعاء قبل السَّلام، برقم (832)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب ما يُستعاذ منه في الصَّلاة، برقم (589).
  9. أخرجه الطَّحاوي في "شرح مشكل الآثار": باب بيان مُشكل ما رُوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عذاب القبر، هل يسمعه أحدٌ أم لا؟ برقم (5203).
  10. أخرجه مسلم: كتاب الطَّهارة، باب الدَّليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، برقم (292).
  11. أخرجه ابن ماجه في "سننه": كتاب الفتن، باب فتنة الدَّجال وخروج عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج، برقم (4077)، وصححه الألباني في "الجامع الصغير"، برقم (13833).
  12. انظر: "جامع الرسائل" لابن تيمية (2/275).
  13. انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (12/286)، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (11/285).
  14. انظر: "بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية" لابن تيمية (ص483).
  15. انظر: المصدر السَّابق (ص514).

مواد ذات صلة