الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
من أذكار الصَّباح والمساء ما جاء من حديث أبي هريرة قال: كان رسولُ الله ﷺ يُعلِّم أصحابَه يقول: إذا أصبح أحدُكم فليقل: اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير، وإذا أمسى فليقل: اللهم بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النُّشور[1].
أخرجه أبو داود، والترمذي، وسكت عنه أبو داود، وما سكت عنه فهو صالحٌ للاحتجاج عنده، وصححه الإمامُ النَّووي[2]، وابن دقيق العيد[3]، والحافظ ابن القيم[4]، والهيثمي[5]، والحافظ ابن حجر قال في موضعٍ: "صحيحٌ، غريبٌ"[6]، وهكذا أيضًا صححه من المعاصرين: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[7] -رحمه الله-، والشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- قال مرةً: "حسنٌ، صحيحٌ"[8]، وقال مرةً: "صحيحٌ"[9]، وقال مرةً: "إسناده جيدٌ، رجاله ثقات، رجال مسلم"[10]، وقال مرةً: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقات، رجال مسلم"[11]، وفي موضعٍ حسَّن إسناده[12]، وممن حسَّن إسناده أيضًا الإمام البغوي[13]، وكذلك أيضًا الحافظ ابن حجر[14] في موضعٍ سوى الموضع، موضع آخر غير الموضع السَّابق، وكذلك أيضًا السيوطي[15] حسَّن إسناده.
كان رسولُ الله ﷺ يُعلِّم أصحابَه يقول: إذا أصبح أحدُكم فليقل، إذا أصبح أحدُكم يعني: دخل في الصَّباح، وعرفنا أنَّ الصباحَ يدخل بطلوع الفجر الصَّادق، وأنَّ الأفضلَ في هذه الأذكار أن تُقال بعد صلاة الفجر، وقبل طلوع الشمس في وقت الغدو، هذا هو أفضل هذه الأوقات.
إذا أصبح أحدُكم فليقل: اللهم بك أصبحنا، اللهم بك أصبحنا يحتمل أن يكون المعنى: بك أصبحنا أي: مُتلبِّسين بحفظك، أو مغمورين، أو مُشتغلين بذكرك، أو مُستعينين باسمك، أو مشمولين بتوفيقك، أو مُتحركين بحولك وقُوتك، ومُتقلبين بإرادتك، وما إلى ذلك من المعاني التي يحتملها هذا اللَّفظ.
بك أصبحنا فنحن حينما نُصبح بك أصبحنا بالله -تبارك وتعالى-، إذن الله -تبارك وتعالى- هو الذي أحيانا إلى هذا الصَّباح حتى دخلنا فيه، ونحن لا نستغني عن ألطافه، وبرِّه، وإحسانه، ومعونته طرفةَ عينٍ، فبه أصبحنا، ولولا ذلك لما دخلنا في هذا الصَّباح، ولما أدركناه، فإنما دخولنا فيه بإبقاء الله لنا، وبإعانته، وما إلى ذلك من حفظه وإنعامه وتوفيقه.
وبك أمسينا أي: أنا دخلنا في المساء، أو ندخل في المساء بإبقائك لنا، بحفظنا حتى نُدركه، بإعانتك، وما إلى ذلك، فالعبد إنما قيامه بالله -تبارك وتعالى-، وذكرنا هذا في بعض المناسبات في الكلام على معنى القيّوم، وقلنا: إنَّ القيومَ من أسمائه، يعني: أنَّه القائم بنفسه، المقيم غيره، فلا قيامَ للخلق إلا بإقامته لهم، وهو القائم على أرزاقهم، وآجالهم، وأعمالهم، فبه يُصبحون، وبه يُمسون، وبه يُظهرون -يدخلون في وقت الظَّهيرة-؛ ولهذا قال بعده: وبك نحيا، وبك نموت، بك نحيا يعني: بإحيائك، أنت الذي تُحيينا، وبك نموت فأنت الذي تقبض أرواحنا، وتتوفى نفوسنا.
وإليك النُّشور يعني: البعث بعد الموت، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يبعث الخلائق: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا [البقرة:259] على هذه القراءة المتواترة، فالله -تبارك وتعالى- يبعثها ويُحييها بعدما تفرَّقت وتحوَّلت إلى ترابٍ، فالله -تبارك وتعالى- إليه النُّشور، وليس إلى أحدٍ سواه، فهو القادر على ذلك، والخلق يُحشرون إليه؛ فيُجازيهم على أعمالهم، ويُحاسبهم على ما قدَّموا من خيرٍ وشرٍّ؛ ولهذا قال: وإليك المصير في المساء.
في الصَّباح: وإليك النُّشور، وفي المساء: وإليك المصير يعني: المرجع والمآب: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:8]، فكل الخلق يرجعون إليه ، والله -تبارك وتعالى- لما ذكر تفرّق الحجيج في يوم النفر الأول والثاني –يوم الثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجّة- قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]، فهؤلاء الذين يتفرَّقون من منى لا يجتمعون إلى يوم القيامة، يذهبون إلى أقطار المعمورة، لا يمكن أن يجتمع هؤلاء جميعًا للحجِّ الآخر، أو لأي موسمٍ كان، نفس هؤلاء، فبعضهم يموت قبل أن يصل إلى بلده، وبعضهم يصل ويموت في بلده، وبعضهم لا يُمهل إلى العام الذي بعده، وبعضهم لا يتيسّر له الحجّ، وبعضهم يمرض، فالله هو الذي يحشر هؤلاء بعد أن يتفرَّقوا، لا يستطيع أحدٌ أن يجمعهم ثانيةً.
فهنا إلى الله -تبارك وتعالى- المصير، والنبي ﷺ قال في الصَّباح: وإليك النُّشور، وفي المساء: وإليك المصير، هذا على أظهر الرِّوايات، وإلا فقد جاء بعكس ذلك: بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير، وفي المساء: وإليك النُّشور، لكن هذه الرِّواية هي الأظهر -والله تعالى أعلم-، وهذا في غاية المناسبة؛ وذلك أنَّ الصباحَ يُشبه النَّشر؛ نشر الأرواح: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، فحينما يتنفّس الصباحُ فهذا يومٌ جديدٌ بُعِثَ، هذا يومٌ خلقه الله -تبارك وتعالى-، وتُردّ الأرواح إلى الأجسام ثانيةً بعد أن فارقتها مُفارقةً جزئيةً يرتفع معها الإدراكُ بالنّوم، الوفاة الصُّغرى.
فحينما يُصبح يُناسِب أن يقول: وإليك النُّشور، فهذا يُذكره بالإحياء والبعث الأكبر حينما يموت الناس ويُبعثون يوم القيامة، فهذا بعثٌ جديدٌ، ويومٌ جديدٌ تُردّ فيه الأرواح، وينتشر فيه الناس، ويتنفّس هذا الصَّباح الجديد الذي خلقه الله ؛ ليكون شاهدًا على ابن آدم، وتكون أوقاته وآناؤه خزائن لأعمالنا.
وفي المساء حينما يتصرّم هذا اليوم، ويرجع الناسُ من أعمالهم وانتشارهم في مصالحهم ومعايشهم، يرجعون إلى دورهم، ويخلدون إلى الراحة بعد أن تفرَّقوا، فهنا هذا يُناسب قوله: وإليك المصير، انصرم هذا اليوم الجديد الذي رُدَّت فيه الأرواح إلى الأجساد: وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، ثم بعد ذلك يصيرون أيضًا إلى وفاةٍ أخرى، هكذا تتجدد في كل يومٍ وليلةٍ، فإلى الله -تبارك وتعالى- المرجع، والمآل، والمصير.
فهذا كلّه يُذكّر المؤمن حينما يُردده بأجله، يُذكره بعمله: أنَّ هذا يومٌ جديدٌ عليه أن يتَّقي الله فيه، وأن يكون شاهدًا له، لا شاهدًا عليه، وألا يقضي أوقاتَه في باطلٍ، أو في بطالةٍ، من غير عملٍ لا ينفعه: لا في الدنيا، ولا في الآخرة، الكل سيموتون، سينتقلون إلى الدار الآخرة، والآخرة دارٌ لا تصلح للمفاليس، وهذا الكدح، وهذه المزاولات والذَّهاب والمجيء والخطوات والأعمال التي نعملها هي الأرصدة التي نُرسلها، ثم بعد ذلك نجدها وافيةً، كاملةً، غير منقوصةٍ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
فهناك يتذكر الإنسانُ ما سعى، يتذكر أعمالَه وسعيه، يتذكّر كسبَه وجدَّه وهزلَه وتقصيره، وما إلى ذلك مما كان يدَّخره لآخرته.
كل يومٍ يُرسِل هذه الأعمال، وهي مرصودة تنتظره، ولا يدري متى يُوافي، ثم بعد ذلك تكون هذه الأعمال: إمَّا مِهادٌ من النَّعيم، وإما مِهادٌ من الجحيم.
فهذه الحياة الحقيقية التي يحتاج الإنسانُ أن يسعى لها، وليست هذه الحياة الدُّنيا المليئة بالأكدار والمنغِّصات، فيُصبح العبدُ حاله مع ربِّه -تبارك وتعالى-، فهذا يُذكره في كل يومٍ بالنُّشور، ويُذكّره بالمصير، ويُذكّره أيضًا بأنَّه لا حولَ له، ولا طولَ، ولا قوّة، وأنَّه ضعيفٌ، فلا يحصل منه طُغيان، ولا بغي، ولا ظلمٌ لأحدٍ؛ لأنَّه يقول: بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، ما منا شيءٌ، فنحن أضعف من أن نُصبح بحولنا وقوّتنا وتدبيرنا وإرادتنا، أو أن نُمسي بذلك، إنما أنت الذي تُقيمنا، وأنت الذي تُعيننا، وأنت الذي تحفظنا، وأنت الذي تُحيينا، وأنت الذي تُميتنا.
فهنا تكون عبوديةُ القلب تامَّةً، ومُتوجّهةً للمالك المعبود ؛ فيعظم افتقارُ العبد إلى ربِّه -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.
وهنا يتذكّر العبدُ نعمةَ الله عليه؛ أن أمهله إلى هذا اليوم الجديد الذي هو بعثٌ جديدٌ، ويتذكّر أنَّه ستأفل شمسُه وتغيب بما أُودع فيه؛ فيُحاسِب نفسَه من أول لحظةٍ: بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النُّشور، هكذا يُردده على نفسه في آخر النَّهار، دروسٌ يتلقَّنها المسلمُ، ومُذاكرة يذكر بها نفسَه.
فلو كنا نعي مثل هذه الأذكار لتغيرت قلوبنا، وتغيرت أعمالنا، وتغير واقعنا، وتغيرت نظرتنا للحياة؛ فأصبح الإنسانُ في حالٍ من الصِّلة بالله ، وحُسن الصِّلة بإخوانه المسلمين، والإحسان إليهم، والإحسان مع ربِّه -تبارك وتعالى-، كل هذا يتذكّره بمثل هذه الأذكار التي يُرددها صباح مساء.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5068)، والترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الدُّعاء إذا أصبح وإذا أمسى، برقم (3391).
- "الأذكار" للنووي، ط. ابن حزم (ص158)، برقم (433).
- "الاقتراح في بيان الاصطلاح" (ص118).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/337).
- "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/114)، برقم (16993).
- انظر: "نتائج الأفكار" (2/330-331).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (26/27).
- "تخريج الكلم الطيب" (ص69).
- "صحيح الأدب المفرد" (ص465)، برقم (1199).
- "سلسلة الأحاديث الصَّحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/526)، برقم (263)، وهذا لفظ ابن ماجه.
- "سلسلة الأحاديث الصَّحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/525)، برقم (262).
- "صحيح الجامع"، برقم (353).
- انظر: "شرح السنة" للبغوي (5/112)، برقم (1325).
- انظر: "نتائج الأفكار" (2/330-331).
- لم أقف عليه.