الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
لا يزال الحديثُ عن قوله ﷺ: سيدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، قال: ومَن قالها من النَّهار مُوقِنًا بها، فمات من يومه قبل أن يُمسي؛ فهو من أهل الجنَّة، ومَن قالها من الليل وهو مُوقِنٌ بها، فمات قبل أن يُصبح؛ فهو من أهل الجنَّة[1]. أخرجه البخاري.
سبق الكلامُ على ما تضمنه هذا الحديث من المعاني، وبقي الكلامُ على وجه كون هذا الذكر هو سيد الاستغفار، فقد ذكر أهلُ العلم كلامًا يُوضِّح هذا المعنى، فقالوا: بأنَّ هذا الحديثَ لما كان جامعًا لمعاني التوبة، مُشتملاً على حقائق الإيمان، مُتضمنًا لمحض العبودية، وتمام الذل والافتقار؛ فاق سائر الصِّيغ الواردة في الاستغفار من جهة الفضيلة، وتميز بهذه المضامين التي مضى الكلامُ عليها.
فالنبي ﷺ بدأه بالثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، والاعتراف بأنَّه عبدٌ لله، مربوبٌ، مخلوقٌ له ، وأنَّه -تبارك وتعالى- هو المعبود بحقٍّ، لا معبودَ بحقٍّ سواه: لا إله إلا أنت، وأنه مُقيمٌ على الوعد: وأنا على عهدك ووعدك ثابتٌ على العهد: من الإيمان به، وبكتابه، وسائر أنبيائه ورسله بحسب طاقته واستطاعته.
ثم استعاذ به سبحانه من كل شرٍّ صنعه: أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ من التَّقصير في طاعته، أو الجرأة على معصيته، وهكذا أيضًا التَّقصير في شُكر إنعامه وإفضاله.
ثم أقرَّ بترادف نِعَم الله عليه، وتوالي العطايا والمنن والإفضال، واعترف بما يجنيه ويُقارفه من الذنوب والمعاصي: أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، ثم سأله المغفرة من ذلك كلّه، مُعترفًا بأنَّه لا يغفر الذنوبَ سواه.
فهذا حينما يقول المؤمنُ هذه الجُمَل مُستيقنًا بها، يفتتح نهاره بذلك، ويختتمه بالتوحيد بأنواعه؛ فإنَّه مع هذا الاعتراف بالمنَّة، والنِّعمة، ومُطالعة عيب النَّفس وتقصيرها، وطلب العفو والمغفرة من الله -تبارك وتعالى-، مع الذلِّ والانكسار والخضوع، فهذا يكون جزاؤه إن مات من يومه دخل الجنَّة، وإن مات من ليلته فهو أيضًا من أهل الجنة.
فهذا الحديث كما يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية[2] -رحمه الله- قد اشتمل على هذه المعارف الجليلة التي استحقّ من أجلها أن يكون سيد الاستغفار، فهو كما سمعتُم بما تضمّنه وما صدر به هذا الذكر من أنواع التوحيد إلى غير ذلك.
وهكذا أيضًا ما ذكره الحافظُ ابن القيم[3] -رحمه الله- من كون هذا الذكر مُتضمنًا للاعتراف بربوبية الله وأُلوهيَّته وتوحيده، والاعتراف بأنَّه خالقه، العالِـم به، إذ أنشأه نشأةً تستلزم عجزه عن أداء حقِّه، وتقصيره مع التَّقصير فيه، ثم التزام الدُّخول تحت عهده، وهو أمره ونهيه الذي عهده إليه على لسان رسوله ﷺ، وأنَّ ذلك بحسب الاستطاعة، لا بحسب أداء الحقِّ كما ينبغي لله -تبارك وتعالى-، فذلك من غير المقدور للبشر؛ فإننا لا نستطيع أن نُوفي حقَّه على الوجه الكامل كما هو معلومٌ، إنما هو جهد المقلّ، وقدر الطَّاقة، يقول: ومع ذلك فأنا مُصدِّقٌ بوعدك الذي وعدته لأهل الطَّاعة بالثَّواب، ولأهل المعصية بالعقاب، فأنا مُقيمٌ على عهدك، مُصدِّقٌ بوعدك.
ثم هو أيضًا يفزع إلى الاعتصام به -تبارك وتعالى- من شرِّ ما فرَّط فيه من أمر الله ونهيه، يقول: فإن لم تعذن من شرِّه، وإلا أحاطت بي الهلكة، فإنَّ إضاعة حقِّك سبب الهلاك، وأنا أُقرّ لك، وألتزم بنعمتك عليَّ، وأُقرّ وألتزم بذنبي، وأرجع عنه، فمنك النِّعمة والإحسان والفضل، ومني الذَّنب والإساءة والتَّقصير، فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي، وأن تعفني من شرِّه، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، يقول: "فلهذا كان هذا الدُّعاءُ سيد الاستغفار"[4].
حينما نُقارن هذا الذكر، هذا الاستغفار بهذه الصِّيغة في أوَّله وآخره نُقارنه بقول: (أستغفر الله)، فهذا استغفارٌ، ولكن بين الاستغفارين بونٌ شاسعٌ، فكان له هذه المزيّة؛ ولذلك يُقال: بأنَّ العبدَ يستغفر ربَّه -تبارك وتعالى- صباح مساء، يُكثر من الاستغفار، النبي ﷺ كان يستغفر الله ويتوب إليه كثيرًا، لربما استغفر ربَّه -تبارك وتعالى- وتاب إليه في المجلس الواحد نحوًا من سبعين مرَّة[5]، ولربما استغفر في يومه -عليه الصَّلاة والسَّلام- نحوًا من مئة مرَّة[6]، وقد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
فإذا قال العبدُ: ما الأكمل في الاستغفار؟
نقول: أن يأتي بهذه الصِّيغة ويُرددها، فهذا هو الأكمل، كما نقول في الصَّلاة على النبي ﷺ خارج الصَّلاة، يعني: ليس الذي بعد التَّشهد، وإنما مثلاً في أوقاتٍ أخرى، وكذا من الإكثار في ليلة الجمعة، وفي يوم الجمعة، يمكن أن يقول: (اللهم صلِّ على محمدٍ)، ويمكن أن يقول الصِّيغة التي جاءت وعلَّمنا إياها النبيُّ ﷺ، لما قالوا: كيف نُصلِّي عليك؟ يقول: (اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم)، كما يقول في صلاته بعد التَّشهد، فهذا أكمل في الصَّلاة على النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فحينما يُردده ليلة الجمعة، يُردده يوم الجمعة، فهذا أكمل وأعظم في الصِّيغة والفضل والثَّواب؛ لأنَّ الصيغة إذا كانت كاملةً كان الجزاءُ أوفى وأتمّ، فكذلك هنا فيما يقوله من الاستغفار.
فنحن مُطالبون بأن نُكثر من الاستغفار، وأن يكون هذا الاستغفارُ بصيغةٍ أدعى إلى المغفرة، وما يترتّب عليه من دخول الجنَّة، فالنبي ﷺ علَّمنا هذا، والنبي ﷺ لم يذكر فيه التَّكرار، فمَن قاله مرةً واحدةً في أول اليوم، أو في أي وقتٍ من ساعات النَّهار وآنائه، فمات من ذلك اليوم؛ دخل الجنةَ، وإن قاله من ليلته، في أي ساعةٍ منها، فمات؛ فإنَّه يكون من أهل الجنَّة، فهذا فضلٌ عظيمٌ، فكيف بالذي يُكرره ويُردده ويُكثر منه ويتَّخذ ذلك ديدنه؟!
فهذا لا شكَّ أنَّه أعظم وأفضل، فالحمد لله الذي أرسل إلينا رسولَه ﷺ، وعلَّمنا هذا الهدى، علَّمنا الكتابَ والحكمة، علَّمنا ما لم نكن نعلم.
ونسأله -تبارك وتعالى- أن يمنّ علينا بالتَّوفيق والعمل بما تعلّمنا، وأن يتقبّل منا، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، مُقرّبةً إلى مرضاته.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم ارحم موتانا، اللهم لا تدع لنا في هذا المجلس ذنبًا إلا غفرتَه، ولا دَيْنًا إلا قضيته، ولا كربًا إلا نفَّستَه، ولا حاجةً من حوائج الدُّنيا والآخرة إلا أعنتنا على قضائها ويسَّرتها برحمتك يا أرحم الراحمين، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب أفضل الاستغفار، برقم (6306).
- انظر: "أمراض القلوب وشفاؤها" (ص79)، و"مجموع الفتاوى" (10/88).
- "طريق الهجرتين وباب السَّعادتين" (ص167)، و"مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/237).
- انظر: "مدارج السالكين" (1/237).
- أخرجه البخاري: كتاب الدعوات، باب استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم والليلة، برقم (6307).
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2702).