الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
سنُواصل الحديث عن الأذكار التي تُقال في الصباح والمساء، فمن ذلك ما جاء عن عبدالرحمن ابن أبي بكرة: أنه قال لأبيه : أيا أبه، إني أسمعك تدعو كلَّ غداةٍ: (اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت) ثلاثًا حين تُصبح، وثلاثًا حين تُمسي، وتقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر)، تُعيدها ثلاثًا حين تُصبح، وثلاثًا حين تُمسي؟ قال: نعم، يا بني، إني سمعتُ رسولَ الله ﷺ يدعو بهنَّ، فأنا أُحبُّ أن أستنَّ بسُنَّته[1].
أخرجه أبو داود في "سننه"، والنَّسائي في "الكبرى"، وفي "عمل اليوم والليلة"، وأخرجه أحمد في "مسنده"، والبخاري في "الأدب المفرد".
هذا الحديث سكت عنه أبو داود، يعني: أنَّه صالحٌ للاحتجاج عنده، وقال فيه النَّسائي في "سُننه الكبرى": "فيه جعفر بن ميمون، ليس بالقوي"[2]، وقد حسَّن هذا الحديثَ جماعةٌ، وصححه آخرون؛ حسَّنه الحافظُ ابن حجر، ومن المعاصرين سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[3] -رحمه الله-، والشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود" قال: "إسناده حسنٌ"[4]، وكذا قال في "تمام المنَّة"[5]، وضعَّفه في "ضعيف الجامع"[6]، وقال في "تخريج المشكاة": "فيه جعفر بن ميمون"[7]، وأمَّا السيوطي فقال: "صحيحٌ"[8].
فهنا عبدالرحمن يسأل أبا بكرة يقول: "سمعتُك تدعو كلَّ غداةٍ"، والغداة هي أول اليوم بما يكون بين طلوع الفجر إلى طلوع الشَّمس، "تدعو كلَّ غداةٍ: اللهم عافني في بدني"، "عافني في بدني" أي: مُعافاةً تامَّةً من الأسقام والعِلل والأمراض، وذلك من أجل أن يقوم الإنسانُ بطاعة الله والتَّقرب إليه، والعافية علَّمنا النبيُّ ﷺ أن نسألها، ولا يُشرع للإنسان أن يدعو على نفسه بالمرض، أو البلاء، أو نحو ذلك، وإنما يسأل ربَّه العافية: (اللهم عافني في بدني).
ثم خصَّ بعد ذلك السَّمع والبصر: (اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري)، فهذا خاصٌّ بعد العامِّ، وذكر بعض أفراد العامّ بعده يدلّ على أهمية هذا المذكور، هذا الذي خُصَّ بالذكر.
فهاتان الحاسّتان هما أعظم الحواسِّ أثرًا، وهما بابان إلى القلب، من طريقهما يتلقّى العلوم والمعارف، وما إلى ذلك مما يحصل به صلاح القلب أو فساده، فهو يرى بالبصر الآيات المشهودة، ويسمع الآيات المتلوّة، إلى غير ذلك، فهي من أعظم المنافع، وهذا أمرٌ معلومٌ؛ ولذلك يرد ذكر هاتين الحاسّتين كثيرًا في الكتاب والسُّنة: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
وتقديم السَّمع على البصر يمكن أن يُؤخذ منه بأنَّ السمعَ أشرفُ وأفضلُ من البصر، وهكذا ما جاء في قوله: (اللهم متّعنا بأسماعنا وأبصارنا)[9]. الحديث، فذكر السَّمع والبصر، قال: (واجعلها الوارثَ منا)، بحيث إنها تبقى سالمةً صحيحةً إلى أن يلقى الإنسانُ ربَّه، فإذا تعطَّل سمعُه وبصرُه تعطَّلت كثيرٌ من مصالح العبد، كما هو مُشاهَدٌ، إذا تعطَّل سمعُه فات كثيرٌ من العلم والخير، وأوقعه ذلك في كثيرٍ من الحرج.
نحن نجد أنَّ مَن فقد السَّمع لربما يتحرز ويتحرج ويتحاشى المجالس؛ لأنَّهم يتحدَّثون، ويضحكون، ولربما خاطبه بعضُهم ممن لا يشعر بحاله، فلا يُجيب، وكذلك إذا فقد الإنسانُ البصرَ فإنَّه يحتاج إلى غيره في كل شأنٍ من شؤونه.
والسَّمع كما مضى في بعض المناسبات أنفع وأهمّ من البصر، فالإنسان إذا فقد عينَه الباصرة فإنَّ ذلك ينعكس على القلب فيقوى، ويكون ذلك أدعى للضَّبط والحفظ، فيكون القلبُ أوعى للعلم، ولما يسمع؛ وذلك أنَّ البصر يُفرِّقه بكثرة المشاهدات، فإذا ذهب بصرُه اجتمعت القوى المدركة في القلب، وصار عنده من قوة الإدراك والحفظ والحذق ما لا يكون عند المبصرين، فتتوفر فيه هذه القوى، ويتوفر فيه غيرها؛ وذلك أنَّك تُشاهد من بعض مَن فقدوا البصرَ من القُدرة على ضبط العلوم، بل ضبط المهن والمزاولات الدّنيوية بما لا يُوجد عند كثيرٍ من المبصرين، والعمى الحقيقي هو عمى البصيرة:
إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما | ففي فؤادي وقلبي منهما نور |
عقلي ذكيّ وقلبي غير ذي دخلٍ | وفي فمي صارمٌ كالسَّيف مشهور[10] |
إذا أبصر القلبُ المروءةَ والتُّقى | فإنَّ عمى العينين ليس يضير[11] |
وانظر إلى العُلماء قديمًا وحديثًا؛ تجد أنَّ كثيرًا من حُذَّاقهم كانوا من العُمي، لكن إذا فقد الإنسانُ السمعَ؛ فإن كان ذلك من أول خروجه على هذه الدنيا فإنَّ ذلك يعني: أنَّه لا يستطيع الكلام؛ لأنَّه إنما يتلقَّاه عن طريق السَّمع، وهو لا يسمع الكلام، ومن ثم أيضًا فإنَّه يكون في جهلٍ مُطبقٍ إذا فقد سمعَه.
ثم إنَّ البصر لا يُشاهد به إلا في أحوالٍ مُعينةٍ، يُشاهد الأشياء التي يصل إليها البصرُ، ويرى أمامَه، ولا يرى خلفه، ولا من الجهات الأخرى، كما أنَّه لا يرى إلا المتشخِّصات.
أمَّا السَّمع؛ فيسمع الأصوات للأشياء البعيدة التي لا يصل إليها البصرُ، ويسمع من جميع النَّواحي، ويسمع ما لا يرى أصلاً: كأصوات الرِّياح، ونحو ذلك، فهذا أكمل من البصر.
ثم يقول: (لا إله إلا أنت)، أقرَّ لله -تبارك وتعالى- بالتوحيد، ومن ثم يستعيذ بالله -تبارك وتعالى-، ويلتجئ إليه، يقول: أنت الإله الواحد المعبود دون مَن سواك، فألجأ إليك: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر).
هذه الأشياء يستعيذ بها بعد أن ذكر التوحيد، وكأنَّه يتوسّل بذلك، ويجعل بين يدي هذا السؤال أو هذه الاستعاذة يُقدّم بين يديه التوحيد.
هنا استعاذ النبيُّ ﷺ من الفقر، وقرنه بالكفر، وذلك كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في "عُدَّة الصَّابرين"[12]: بأنَّ الخيرَ نوعان:
الأول: هو خير الآخرة، ويُقابل ذلك الكفر، فإنَّ مَن كان كافرًا فإنَّه لا خيرَ له في الآخرة، ولا حظَّ له عند الله -تبارك وتعالى-، وأمَّا خير الدنيا فالذي يُقابله الفقر، الخير هو المال، يُقابله الفقر، فاستعاذ من الكفر، واستعاذ من الفقر، فالفقر سببٌ لعذاب الدنيا والشَّقاء فيها، والكفرٌ سببٌ لعذاب الآخرة والشَّقاء فيها.
وقد يقول قائلٌ: إنَّه ذكر هنا عذابَ القبر، ولم يذكر عذابَ النار؟!
فيُمكن أن يُقال -والله تعالى أعلم-: لما كان عذابُ القبر هو المقدّمة بين يدي عذاب النار، فإنَّ الإنسانَ يعرف حاله وهو في قبره، يعرف مصيره، ومآله، فاستعاذ من عذاب القبر الذي هو أول منازل الآخرة.
هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5090)، وأحمد في "المسند"، برقم (20430)، وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ في المتابعات والشَّواهد"، والنَّسائي في "الكبرى"، برقم (9766)، وفي "عمل اليوم والليلة" (ص146)، برقم (22)، والبخاري في "الأدب المفرد"، برقم (701)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (1210)، وحسَّنه في "صحيح الأدب المفرد"، برقم (542).
- انظر: "السنن الكبرى" للنَّسائي، برقم (9766).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (26/33).
- "صحيح أبي داود" (٢/٦٩٨).
- "تمام المنَّة في التَّعليق على فقه السُّنة" (ص232).
- "ضعيف الجامع"، برقم (1210).
- "مشكاة المصابيح" (2/746)، برقم (2413).
- "الجامع الصَّغير وزيادته" (ص3135، بترقيم الشاملة آليًّا)، برقم (3135).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3502)، والنَّسائي في "الكبرى"، برقم (10161)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (1268).
- انظر: "الشعر والشعراء" (2/843)، و"التذكرة الحمدونية" (4/308).
- "البيان والتبيين" (2/192).
- "عدّة الصَّابرين وذخيرة الشَّاكرين" (ص261).