الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نُواصل الحديث -أيّها الأحبّة- عمَّا كان يقوله ﷺ في الصباح والمساء، كما في حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنَّه قال: لم يكن رسولُ الله ﷺ يدع هؤلاء الدعوات حين يُمسي وحين يُصبح: اللهم إني أسألك العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودُنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي[1].
وقد تحدَّثنا عن شطر هذا الحديث، فقوله: اللهم احفظني يعني: من كلِّ ما أُحاذر، ومن كلِّ مكروهٍ، ومن كلِّ سُوءٍ، وفي بدني ونفسي.
من بين يدي أي: من أمامي، ومن خلفي أي: من ورائي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال، وفي لفظٍ: من أن أُغتال من تحتي[2]، فسَّره بعضُ الشُّراح: بالأخذ بغتةً، من حيث لا يتوقع، ولا يحتسب: كالقتل غيلةً وهو غافل، أو يُقتل في موضعٍ لا يراه فيه أحدٌ.
وقال وكيع بن الجرَّاح -وهو أحد رواته-: الخسف[3]. يعني: فسّره على ظاهره: أن يأتيه حتفُه وما يكره من تحته، وما الذي يكون من تحته؟ خسف الأرض، كما حصل لقارون، فهذه الأرض التي يمشي عليها، وجعلها الله مهادًا، قد يأتيه ما لا يحسب له حسابًا من ناحيتها، وتكون منيَّته وحفتُه من هذه الجهة.
وذكرُ الخسف إنما هو مثالٌ، ولربما تكون تلك هي الصُّورة المعهودة في السَّابق، وأمَّا اليوم فقد تنوَّعت آلةُ الفتك والقتل -نسأل الله العافية-، فيمكن أن يكون ذلك بالألغام التي يطأ عليها الناسُ، فتأتيهم حتوفُهم من أسفلهم ومن تحتهم، ولربما كان ذلك في موضعٍ يجلس عليه، أو نحو ذلك.
وقوله: وأعوذ بعظمتك، لم يقل: اللهم إني أعوذ بعظمتك أن أُغتال عن يميني، أو عن شمالي، أو نحو ذلك.
وقال: احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، فذكر الجهات الخمس، وأمَّا الجهة السَّادسة فقال: وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي؛ لأنَّ ذلك مما لا يستطيع دفعه، أو مُدافعته، فهو لا يحسب له حسابًا، بخلاف ما جاء من قبل وجهه، أو من ناحيةٍ من هذه النَّواحي.
ومَن فسَّره بأنَّ ذلك يكون في مثل الغيلة، فإنَّ مرجع ذلك إلى هذا المعنى: أنَّه مما لا مدفعَ له، يعني: يأتي من ورائه مثلاً، أو في موضعٍ لا يراه فيه أحدٌ، يغتاله من حيث لا يشعر.
فهذان قولان لأهل العلم في تفسير هذا الموضع، وفي تعليل قوله: وأعوذ بعظمتك، حيث خصَّ هذه الجهة السَّادسة بهذه الاستعاذة، وبهذه الصِّيغة الخاصَّة.
يقول الطِّيبي -رحمه الله-: "استوعب الجهات السّت بحذافيرها؛ لأنَّ ما يلحق الإنسان من نكبةٍ وفتنةٍ، فإنَّه يحيق به ويصل إليه من إحدى هذه الجهات"[4].
واعترض على ما قاله الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- في تعليله؛ حيث ذكر الحافظُ ابن حجر أنَّ ذلك مما يكون من جهة السّفل، أنَّه لا حيلةَ في دفع ما يخشى وقوعه فيها، بخلاف بقية الجهات، فإنَّه يمكن فيها الحيلة[5]، فالطِّيبي ذكر كلامَ الحافظ هذا وردَّه[6].
والشَّاهد أنَّ هذه الاستعاذة اشتملت على طلب الحفظ من الجهات السّت جميعًا.
وجاء قوله: وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي بهذه الصِّيغة آكد؛ لعظم خطورة البلاء الذي ينزل بالإنسان من هذه الجهة؛ كالخسف الذي يقع له، وهو نوع عقوبةٍ.
وهؤلاء الذين يُقارفون ما يُسخط الله ، فيأتيهم البلاءُ والعذابُ من تحت أرجلهم، من هذه الأرض التي يطأون عليها، ويمشون عليها فرحين مرحين، يمشون أشرًا وبطرًا، فيُعاقبون من هذه الجهة، كما قال الله : فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، ولاحظ هذه العقوبات جميعًا هي في أشياء في أصلها سهلة؛ فالحاصب: ريحٌ تحصبهم، وتحمل حجارةً صغيرةً، فإذا اشتدّت صارت قاتلةً، والصَّيحة: صوتٌ قويٌّ جدًّا، يموتون بمجرد سماع هذا الصَّوت، وهذا يدلّ على ضعف الإنسان، وكذلك أيضًا الخسف في الأرض التي يمشي الإنسانُ عليها، ويطمئنّ، ويأمن هذه الجهة، ولا يتوقع أن يهوي في أسفلها، فتتحول إلى شيءٍ آخر، فتنشقّ وتبتلعه، ومنهم مَن يكون ذلك بالغرق، وهذا الماء الرَّقيق قد يتحوّل إلى شيءٍ مُخيفٍ مُهلكٍ، له هدير، يحطم كلَّ ما في طريقه، وتتحول المساكنُ والمراكبُ وما إلى ذلك إلى قشٍّ يطفو فوقه، فهذا بأس الله -تبارك وتعالى-.
وجاء تعقيب هذه الآية: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
وهذا الدُّعاء -أيّها الأحبّة- ابتدأه النبيُّ ﷺ بسؤال العافية في الدنيا والآخرة، والعافية لا يعدلها شيءٌ، ومَن أُعطي العافية في الدنيا والآخرة فقد حصل له كمالُ المطلوب، فيسلم من الشُّرور والآفات في دينه ودُنياه، يسلم في الدنيا، ويسلم في الآخرة.
وقد سأل النبيُّ ﷺ في هذا الدُّعاء العفو والعافية في الدِّين والدنيا والآخرة، والأهل والمال، فهذا قد اشتمل على المعافاة والعافية في جميع مطالب الإنسان؛ فعافيته في دينه أن يحفظ له هذا الدِّين، فلا يحصل له ضلالٌ وزيغٌ وانحرافٌ، أو انتكاسةٌ، أو نحو ذلك، ولا تكون مصيبةُ هذا الإنسان في دينه، وكذلك أيضًا في الدنيا، فينتفي عنه كلّ ما أضرّ به من المصائب والبلايا –الضَّراء- ونحو ذلك، وهكذا في الآخرة من أهوال القيامة، وعذاب النار، والأهل بحفظهم في أبدانهم، ونفوسهم، وعقولهم، وأديانهم، وما إلى ذلك، يُحفظون من الفتن والشُّرور والآفات، فإنَّ ابن آدم عُرضة، وأولاده عُرضة أيضًا لهذه البلايا والرَّزايا والشَّدائد والمحن والفتن.
وأمَّا في المال: فبحفظه من كلِّ آفةٍ تُكدِّر حاله، ومن كلِّ آفةٍ تجتاحه، أو تُفسده: من خسارةٍ، أو سرقةٍ، أو ضياعٍ، أو غير ذلك، فهنا كلّ العوارض المؤذية جاءت الاستعاذةُ منها.
فالعبد يسأل ربَّه أن يحفظه من جميع الشُّرور والآفات والمهالك والمعاطب التي تعرض للإنسان من أي جهةٍ من الجهات السّت، لم يبقَ شيء، والبلاء قد يأتيه من هنا أو هناك، عن يمينه، أو شماله، أو من فوقه، أو غير ذلك.
وبعض الناس لربما لشدّة وجده ومحبَّته لولده -وهذا واقعٌ لدى بعض الناس- لربما جعله لا يركب إلا في سيارةٍ كبيرةٍ، ويجلس في وسطها، وهذا السَّائق قد أُعطي من التَّعليمات مما ينبغي أن يفعله تجاه هذا الولد من الحذر الشَّديد، فالأب لا يدري من أين يُؤتَى؟ يُريد أن يكون في موضعٍ يأمن على هذا الولد، وقد يأتيه ما يُحاذره من حيث لا يحتسب -نسأل الله العافية-، وهذا يحصل وموجودٌ، ولعلَّ بعضَكم يعرف أمثلةً واقعيةً لذلك.
أحيانًا -نسأل الله أن يلطف بالجميع، وأن يُعوض المسلمين خيرًا- لربما كان حتفُ هذا الذي يُتخوّف عليه أو نحو ذلك هو الدَّهس تحت نفس هذه السيارة، من شدّة الحذر والحرص.
فالإنسان بحاجةٍ إلى أن يسأل الله، فمهما بذلنا من الجهود والاحتياطات يبقى حفظُ الله في المنتهى هو الأصل، وهو الأساس: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُو [يونس:107]، فهنا نتوجّه إلى الله -تبارك وتعالى-، ولا يُنجي حذرٌ من قدرٍ، وبعض الناس لا يركب في الأسفار -وحتى في البلد أحيانًا- في المقعد الأمامي في السيارة، ورأيتُهم في بعض النَّواحي يُسمّون هذا المقعد: مقعد الشَّهيد، أي: أنَّه هو عُرضة للآفات والحوادث، ونحو ذلك، ولكن قد يسلم هذا الراكب في الأمام، ويموت الذي في الخلف، فالحافظ هو الله .
ومن الشُّرور التي يُحاذرها الإنسانُ شرَّ الشيطان الذي يتربص به الدَّوائر، ويأتيه من كل النَّواحي: لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:17]، لكنَّه لم يذكر العلو؛ لأنَّ الله من فوقهم، فهذا الشَّيطان مُتربصٌ، مُتوعّدٌ، يقول: سآتيهم من جميع الجهات. فهذا يدخل في هذه الاستعاذة، فالشَّيطان يجرّه إلى البلاء والمصائب؛ فيُغريه بالفاحشة والمنكر، ويُزين له الشُّرور والآفات، ولربما أغراه بالجريمة، ولربما حمله بدوافع الشَّهوة على الوقوع بالفواحش، أو بالغضب على القتل والعدوان على الناس، وما إلى ذلك، ولربما أوقعه في شيءٍ من الآفات التي يتخبَّطه بها: كالصّرع والجنون والمسّ، ونحو هذا، فيبقى هذا المبتلى أمام جمعٍ من الأطباء يتحيَّرون في علَّته، فالإنسان يستعيذ من هذا كلِّه.
نسأل الله أن يُعيذنا وإياكم من كل شرٍّ وآفةٍ.
اللهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن يميننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودُنيانا وأهلنا ومالنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا.
اللهم لا تدع لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلا غفرتَه، ولا عيبًا إلا سترته، ولا مريضًا إلا عافيته، ولا دَيْنًا إلا قضيتَه، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة إلا أعنتنا على قضائها ويسَّرتها يا أرحم الرَّاحمين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5074)، وابن ماجه: كتاب الدُّعاء، باب ما يدعو به الرجلُ إذا أصبح وإذا أمسى، برقم (3871)، وصححه الألباني.
- أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" برقم (1200)، وصححه الألباني.
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/1664).
- "شرح المشكاة" للطيبي = "الكاشف عن حقائق السنن" (6/1881-1882).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/1664).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/1664).