الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نواصل الحديث في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- عن الأذكار التي تُقال في الصَّباح والمساء، أو في اليوم والليلة، فمن هذه الأذكار: ما جاء عن أبان بن عثمان قال: سمعتُ عثمان بن عفان يقول: قال رسولُ الله ﷺ: ما من عبدٍ يقول في صباح كل يومٍ، ومساء كل ليلةٍ: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، وهو السَّميع العليم، ثلاث مرات، فيضرّه شيءٌ. وكان أبان قد أصابه طرف فالجٍ، فجعل الرجلُ ينظر إليه -يعني: السَّامع-، فقال له أبان: ما تنظر؟ أما إنَّ الحديثَ كما حدَّثتُك، ولكني لم أقله يومئذٍ؛ ليُمضي اللهُ عليَّ قدره. أخرجه الترمذي، وقال: حسنٌ، صحيحٌ، غريبٌ[1]. وابن ماجه[2].
وفي رواية أبي داود: لم تُصبه فجاءة بلاءٍ[3]، وقد سكت عنه أبو داود، وعرفنا أنَّ ما سكت عنه فهو صالحٌ للاحتجاج عنده، وحسَّنه البغوي[4]، وقال المنذري: إسناده صحيحٌ، أو حسنٌ، أو ما قاربهما[5]. وقال الحافظُ ابن حجر: حسنٌ، صحيحٌ[6]. وقال في موضعٍ آخر: له طرقٌ أخرى مرفوعة وموقوفة[7]. وصحح إسناده الشيخُ أحمد شاكر[8]، وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز: صحيحٌ[9]. وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: صحيحٌ[10]. وقال في موضعٍ آخر: حسنٌ، صحيحٌ[11]. فهذه أقوال هؤلاء العلماء -رحمهم الله جميعًا- في تصحيحه.
وقال النَّسائي في رُواته: عبدالرحمن ابن أبي الزناد ضعيفٌ، ويزيد بن فراس مجهولٌ، لا نعرفه[12].
وقال ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق": غريبٌ من حديث المنذر[13].
فقوله: ما من عبدٍ "عبد" هنا نكرة، و(ما) في هذا السِّياق يحتمل أن تكون شرطيةً، أو نافيةً، بحسب ما يكون به ضبط الجواب بعدها، وهو قوله: فيضرَّه، أو فيضرُّه، وقد اختلف أهلُ العلم في ضبطه.
على كل حالٍ، سواء كانت شرطيَّةً، أو كانت نافيةً؛ فإنَّ النَّكرة في سياق النَّفي أو النَّهي أو الشَّرط أو الاستفهام تُفيد العموم، فإذا سُبقت بـ(من) كما في هذا الموضع: ما من عبدٍ، الأصل: (ما عبد)، فإذا سُبقت بـ(مَن) فإنها تكون نصًّا صريحًا في العموم، بعد أن كان العمومُ فيها ظاهِرًا.
يقول في صباح كل يوم عرفنا أنَّ الصباح يبدأ من طلوع الفجر الصَّادق، وأنَّ المساء يكون من بعد الزَّوال، لكن هنا هل المراد أنَّ ذلك يُقال في المساء؟ يعني: من بعد الزوال، أو بعد العصر؟ أو أنَّ المقصود بالمساء -كما ذكرنا من قبل- أنَّه يُطلق بإطلاقٍ أوسع، فيدخل فيه ما بعد الغروب؟
الظاهر أنَّ هذا المعنى هو المراد هنا، وأنَّ المقصود بالمساء هنا أيّ: الليلة، وأنَّ هذا الذكر ليس من أذكار الصَّباح والمساء بالمعنى الشَّائع الذَّائع المعروف، وهي الأذكار التي تُقال في أول النَّهار، وتُقال بعد الزوال مثلاً، أو بعد العصر، وإنما هنا المساء الذي يظهر -والله أعلم- أنَّ المراد به الليل، يعني: من بعد الغروب، فإنَّ ذلك أيضًا يُقال له: مساء، ويدلّ على ذلك أمران:
الأمر الأول: أنَّه قال: في صباح كل يومٍ، ومساء كل ليلةٍ، فمتى يكون مساءُ الليلة: العصر أو الظُّهر، لا يكون له تعلّق بما يكون بعد غروب الشَّمس؛ لأنَّ الليلة التي تكون بعد غروب الشمس، مثل هذه الليلة هي ليلة الخميس، فإذا قاله عصر الأربعاء، أو ظهر الأربعاء في المساء، فلا يكون له تعلّقٌ بهذه الليلة بحالٍ من الأحوال.
الأمر الثاني: مما يدلّ على ذلك: ما جاء في بعض ألفاظ الحديث، كما جاء عند أحمد مثلاً: لم يضرّه شيءٌ في ذلك اليوم، أو في تلك الليلة[14]، يعني: إذا قاله في الصَّباح، فاليوم يمتدّ من طلوع الفجر إلى غروب الشَّمس، هذا اليوم، وليلته تسبقه.
قال: أو في تلك الليلة يعني: إذا قاله في المساء الذي يكون مُرادًا به الليل، فإنَّ ذلك يكون مُستمرًّا إلى انقضاء ذلك المساء بطلوع الفجر الصَّادق.
فهنا في هذه الرِّواية عند أحمد: لم يضرّه شيءٌ في ذلك اليوم، أو في تلك الليلة، وفي بعض رواياته كما عند الطَّحاوي في "شرح مشكل الآثار": لم تفجأه فاجئةُ بلاءٍ حتى الليل[15]، إذا قاله في الصَّباح لم تفجأه فاجئةُ بلاءٍ حتى الليل يعني: إلى غروب الشَّمس.
ومُقتضى هذا أنَّه إذا قاله في المساء، يعني: من ليلته بعد غروب الشَّمس لم تفجأه فاجئةُ بلاءٍ حتى يُصبح، فيكون ذلك حرزًا له في يومه وليلته، فهذا يدلّ -والله تعالى أعلم- على أنَّ هذا الذكر من أذكار اليوم والليلة -والله أعلم.
وكما قلتُ: هي أذكارٌ قليلةٌ التي تكون في اليوم والليلة، وعامَّة الأذكار هي أذكارٌ تُقال في الصباح والمساء.
ما من عبدٍ يقول في صباح كل يومٍ، ومساء كل ليلةٍ فيحسُن أن يقول ذلك في أول الصَّباح، وأن يقول ذلك في أول الليل، يعني: بعد غروب الشَّمس، ولا يقوله بعد العصر مثلاً، فإنَّه يبقى أثرُه إلى انقضاء ذلك اليوم؛ إلى غروب الشَّمس، فإذا قاله في ساعةٍ مُتأخرةٍ من الليل فإنَّه يبقى أثرُه إلى الفجر، فيبقى هناك ما بعد الغروب إلى أن قاله ليس بداخلٍ تحته.
بسم الله هذه الباء تكلّم أهلُ العلم فيها: هل هي للاستعانة، أو للمُصاحبة، أو لغير ذلك؟
فإذا قلنا: إنها للاستعانة، فهل المقدّر يكون خاصًّا، أو يكون عامًّا؟ وهل يكون مُقدَّمًا، أو مُؤخَّرًا؟ وهل يكون فعلاً، أو اسمًا؟
كلّ هذا لأهل العلم فيه كلامٌ، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ الأمر في هذا واسعٌ، ولكن تقديره في كل شيءٍ بحسب، وبما يليق به، فإذا كان بصدد الأكل قال: بسم الله، يعني: آكل، وإذا كان بصدد الشُّرب قال: بسم الله، يعني: أشرب، وإذا كان بصدد الاستعاذة مثلاً، أو الاستعانة، أو نحو ذلك، قال: بسم الله أستعين، وبسم الله أستعيذ، أو نحو ذلك؛ ولهذا ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ تقديره بأعمِّ معانيه هو الأولى، يعني: في الكون العام، بسم الله ماذا؟ بسم الله أبدأ، يصلح لكل شيءٍ مثلاً: للأكل، والشُّرب، والقراءة، والقيام، والجلوس، ونحو هذا.
وكذلك من أهل العلم مَن يُقدِّره هنا بفعلٍ: بسم الله، يعني: أبدأ، وبعض أهل العلم يقول: المقدّر يكون اسمًا، كما في قوله: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود:41]، والأمر في هذا واسعٌ.
وله أن يُقدّر شيئًا خاصًّا بحسب المقام، وكونه يُؤخِّر قد يكون هو الأولى؛ لئلا يتقدّم على اسم الله شيءٌ، فبدلاً من أن يكون التَّقدير: أبدأ بسم الله، وآكل بسم الله، وأقرأ بسم الله، فالمقدّر مُقدَّمٌ على اسم الله .
وإذا قال: بسم الله أستعين، وبسم الله أستعيذ، أو أتحفَّظ من كل مُؤذٍ؛ كان المقدَّم اسم الله، وهو أولى.
الذي لا يضرّ مع اسمه شيءٌ يعني: مع ذكر اسمه، فإذا وُجد عند الإنسان اليقينُ كان قلبه حاضرًا، فإنَّ مثل هذه الأذكار يكون تأثيرها بقدر ما يقوم في قلب قائلها، فلمَّا يقول: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيءٌ في الأرض، ولا في السَّماء يعني: ما الذي بقي؟ لم يبقَ شيءٌ، فإنَّ العالم إمَّا علوي -السَّماء-، وإمَّا سُفلي -الأرض-، في العالم كلّه لا يضرّ شيء، سواء كان ذلك من الجنِّ، أو الإنس، أو الشياطين، أو من البلاء النَّازل من السَّماء، أو الكائن في الأرض، فمَن تعوَّذ بسم الله -تبارك وتعالى- لا تضرّه بليَّةٌ ولا مُصيبةٌ من جهة الأرض، ولا من جهة السَّماء.
وهو السَّميع لكلِّ الأصوات، العليم بكل الأشياء، فالله بكل شيءٍ عليم، فإذا كان يسمع جميع الأصوات، ويعلم جميع الأشياء، فيعلم المستعيذ، والمستعاذ منه، والشُّرور، والآفات، والأدواء، والبلايا، والرَّزايا، يعلم ذلك جميعًا، ولا تخفى عليه خافية، وهو يستطيع أن يمنعك، وقد يكون عند الإنسان حرسٌ من البشر يحرسونه، ولكنَّهم قد يغفلون، وقد تخفى عليهم بعضُ الشُّرور التي قد تصل إلى هذا الذي احترز واحتاط بهؤلاء الذين يحرسونه، أمَّا الله -تبارك وتعالى- فلا يفوته شيءٌ، فيقول ذلك ثلاث مرَّاتٍ.
فيضرَّه بالنصب جوابًا، وبالرفع عطفًا على (يقول)، يعني: لا يجتمع هذا القول مع المضرّة، ولا تحصل له مضرَّة.
فيضرَّه شيءٌ، وكما ذكرنا في بعض رواياته: لم يضرّه شيءٌ في ذلك اليوم يعني: إلى مُنتهاه، أو في تلك الليلة إذا كان قاله من ليلته، وفي اللَّفظ الآخر: لم تفجأه فاجئةُ بلاءٍ حتى الليل، لم تُصبه فُجاءةُ بلاءٍ، كما في بعض الألفاظ، والمعنى: لا يأتيه شيءٌ يفجأه بغتةً في يومه ذلك، أو في ليلته، والأشياء التي تفجأ أشياء كثيرة، منها: السَّكتة القلبية، والجلطات -أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين من كل شرٍّ، وعافى المبتلين.
وكذلك أيضًا هذه الحوادث التي تفجأ هذا الإنسان الذي ليس به علَّة، وليس به بأسٌ: يضحك، ويأكل، ويشرب في سيارته، ومع أسرته، ويتحدَّثون، وبلحظةٍ تتحول الحالُ إلى شيءٍ آخر، نسأل الله العافية.
فالمقصود أنَّه لم يحصل له هنا فاجئةُ بلاءٍ، أو فُجاءة بلاءٍ.
وهذا أحد السَّامعين لأبان بن عثمان يُحدِّث بهذا، وكان أبان قد أصابه طرف فالجٍ، يعني: نوعًا من الفالج، وهو ما نُسميه الآن: بالشَّلل، والأقدمون يعرفونه بأنَّه استرخاء لأحد شقّي الإنسان، ويُعللونه عندهم طبيًّا -عند المتقدِّمين- بأنَّ ذلك لانصباب أخلاطٍ بلغميَّةٍ تنسد منها مسالك الروح، يعني: مجاري الدَّم، يقولون عنه: الروح، أو ما له روح، أو نفس سائلة، ونحو ذلك، فهذا هو تعريف الجلطة الآن عند الأطباء المعاصرين.
فهذا الانسداد لمسالك الروح بهذه الأخلاط البلغميَّة؛ فيحصل عنده تجمّعٌ لهذا الدَّم المنعقد، فيحصل بسببه هذا الانسداد؛ فيُؤدِّي به إلى استرخاء شقِّه، فلا يستطيع أن يُحرِّك يده، ولا رجله، وقد يحصل له ذلك في شقِّ بدنه من أسفله إلى أعلاه، وقد يحصل له من مُنتصف البدن؛ فيكون أعلاه يتحرك، ويكون أسفله لا يتحرك، أو غير ذلك مما هو معلومٌ، نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين.
فهذا الرجل الذي يستمع جعل ينظر إلى أبان وقد أصابه الفالج، ويتعجَّب، يعني: أين أنت من هذا؟! تُحدِّث بهذا وأنت مُصابٌ، مُبْتَلًى؟!
فقال: إنَّ الحديثَ كما حدَّثتك، ولكني لم أقله، يعني: غفل عنه في ذلك اليوم الذي أصابه هذا، (فلم أقله يومئذٍ؛ ليُمضي اللهُ عليَّ قدره) يعني: مقدوره، فهذا حقٌّ.
يقول القرطبيُّ -رحمه الله-: هذا خبرٌ صحيحٌ، وقولٌ صادقٌ، علمناه دليلاً وتجربةً، فإني منذ سمعتُه عملتُ به، فلم يضرني شيءٌ إلى حين تركته؛ فلدغتني عقربٌ بالمدينة ليلاً، فتفكَّرتُ، فإذا أنا قد نسيتُ أن أتعوَّذ بتلك الكلمات[16].
وقول القرطبي هذا ذكَّرني برجلٍ أعرفه حدَّثني بهذا منذ زمنٍ بعيدٍ، سنة 1398هـ، كان يذهب إلى المدينة في الإجازة الصَّيفية هو وأهله، وكانت البيوتُ في المدينة غالبًا في ذلك الوقت بيوتًا شعبيَّةً قديمةً، وأهل المدينة يعرفون هذا، وكانوا يتحدَّثون بذلك، وكانت العقاربُ إلى عهدٍ قريبٍ، ويمكن إلى الآن في بيوتهم، بل لربما الحيَّات في البيوت القديمة، وتعرفون ما جاء في هذا من الأحاديث، وأمَّا العقارب ونحو ذلك فتُوجد حتى في البيوت الحديثة، هذا شيءٌ شاهدناه ورأيناه رأي العين، وليس بروايةٍ عن أحدٍ، وإنما هو مُشاهدة.
فالشَّاهد: أنَّ هذا الرجل نحسبه من أهل الصَّلاح، وكان إمامًا لمسجدٍ، وكان يذهب في الإجازات كاملةً إلى المدينة، ويسكنون في هذه البيوت الشَّعبية، يقول: فنمنا ليلةً، فإذا بشيءٍ ثقيلٍ يمشي على رقبتي، فقمتُ، وإذا عقربٌ أسودُ كبيرٌ، والعقارب السُّود الكبار موجودة، ورأيناها في مثل هذه السِّنين، لكن هو يتحدَّث عن ذلك الحين، يقول: فقتلتُه وهو يمشي على رقبتي. مع أنَّ العقربَ عادةً لا يُمهل، مُباشرةً يُصيب ويلدغ، فالله المستعان.
فالشَّاهد أنَّ الرجل يقول: كنتُ قد قلتُ هذا الدُّعاء. ونحن نُوقِن بهذا، لكن ذكَّرتني به كلمةُ القُرطبي -رحمه الله-.
أسأل الله أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي: كتاب الدَّعوات، باب ما جاء في الدُّعاء إذا أصبح وإذا أمسى، برقم (3310)، وصححه الألباني.
- أخرجه ابن ماجه: كتاب الدُّعاء، باب ما يدعو به الرجلُ إذا أصبح وإذا أمسى، برقم (3859)، وصححه الألباني.
- أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (4425)، وصححه الألباني.
- "شرح السنة" للبغوي (5/113).
- "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/255).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (2/367).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (2/369).
- في تعليقه على "مسند أحمد" ت: شاكر (1/367).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (26/28).
- في "صحيح ابن ماجه"، برقم (3869) وغيره.
- في "صحيح سنن الترمذي" (7/388).
- "عمل اليوم والليلة" (ص291).
- "تاريخ دمشق" لابن عساكر (6/149).
- أخرجه أحمد في "المسند"، ت: شاكر، برقم (474).
- "مشكل الآثار" (4/336).
- ينظر: "الفتوحات الربانية" لابن علان (3/100).