الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(209) الذكر عقب السلام من الوتر "سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح"
تاريخ النشر: ٢٥ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 2268
مرات الإستماع: 1729

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

هذا "باب الذكر عقب السَّلام من الوتر"، يقول: "سبحان الملك القدوس" ثلاث مرات، والثالثة يجهر بها، ويمدّ بها صوته، ويقول: "ربّ الملائكة والروح".

جاء هذا عن عبدالرحمن بن أبزى: أنَّ رسول الله ﷺ كان يُوتر بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى]، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون]، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الصمد]، وكان يقول إذا سلَّم: سبحان الملك القدوس ثلاثًا، ويرفع صوتَه في الثالثة.

وفي روايةٍ عند الدَّارقطني[1]: عن عبدالرحمن بن أبزى، عن أُبي بن كعبٍ قال: كان رسولُ الله ﷺ يُوتر بثلاثٍ: بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ويقنت قبل الركوع، وإذا سلَّم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، يمدّ بها صوتَه في الأخيرة، يقول: "ربّ الملائكة والروح".

هذا الحديث أخرجه أبو داود[2]، والنَّسائي[3]، والدَّارقطني[4]، وسكت عنه أبو داود، وما سكت عنه فهو صالحٌ للاحتجاج عنده، وقال النَّسائي حين أخرجه في "سُننه الكبرى": "أرسله مالك بن مغول"[5]، وقال أيضًا مرةً في موضعٍ آخر: "رواه غيرُ واحدٍ عن زبيدٍ، فلم يذكر أحدٌ منهم فيه: ويقنت قبل الركوع"[6]، وقال أيضًا الحسن بن نصر الطُّوسي في "مختصر الأحكام": "حسنٌ غريبٌ"[7]، وقال عنه عبدُالحقِّ الإشبيلي في "الأحكام الكبرى": "روى هذا الحديثَ جماعةٌ عن زبيد فلم يذكروا: "ويقنت قبل الركوع"، وتفرَّد به سفيان الثوري وحده"[8]، وأشار في مقدمة "الأحكام الصُّغرى" إلى أنَّه صحيحُ الإسناد[9]، وقال ابنُ القطَّان في "الوهم والإيهام": "صحيحٌ"[10]، ومرةً قال: "صحيحٌ، أو حسنٌ"[11]، وقال في موضعٍ ثالثٍ: "صحَّت الزيادةُ المذكورة"[12]، يعني: قوله بعد الفراغ: "سبحان الملك القدوس"، من غير رواية الثَّوري.

وقال النَّووي: "إسناده صحيحٌ"[13]، وقال الذَّهبي: "فيه ابن يونس الكديمي، هالك"[14]، وقال ابنُ الملقن: "في إسناده محمد بن أنس الرازي، قد تفرد بمناكير"[15]، وقال في موضعٍ آخر: "إسناده جيدٌ"[16]، وقال الحافظُ ابن حجر: "رُوِيَ من وجهٍ آخر مرفوعًا"[17]، وقال في موضعٍ آخر: "صحيحٌ"[18]، وهكذا العجلوني في "كشف الخفاء" صحح إسناده[19]، والشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- قال: "إسناده صحيحٌ"[20].

ليس الكلامُ فيما يقرأ في الوتر، ولا في موضع القنوت: هل يكون قبل الركوع، أو بعد الركوع؟ وإنما الكلام فيما يُقال بعد الوتر، فإنَّ هذا يتعلّق بما نحن بصدده من الكلام على الأذكار، ولكني أُحبّ إيراد السِّياق؛ لما فيه من الفوائد والمعاني، وما يحصل به إيضاح بعض الجوانب من المناسبة وغيرها.

فقوله: "سبحان الملك القدوس"، هذه اللَّفظة "سبحان" هي علمٌ للتَّسبيح، كما يقول بعضُ أهل العلم.

وأصل التَّسبيح بمعنى: التَّنزيه، وهو أيضًا بمعنى: التَّبرئة والتَّقديس من النَّقائص.

"سبحان الملك"، والملك هو التَّصرف المطلق، والقدُّوس مضى الكلامُ عليه أيضًا في بعض المناسبات، مضى الكلامُ على ما يُقال في الركوع مثلاً: من حديث عائشة -رضي الله عنها- وغيرها: سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح[21].

فالقدُّوس يُفسَّر بأنَّه البالغ أقصى النَّزاهة، ومن أسمائه -تبارك وتعالى-: القدُّوس، فله التَّنزيه المطلق عن كلِّ وصفٍ قاصرٍ أو ناقصٍ، وهو الطَّاهر من كل عيبٍ ونقصٍ، والله -تبارك وتعالى- يقول: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر:23]، وكذلك في قوله ﷺ في هذا الحديث: سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح، كل ذلك مما يثبت هذا الاسم الكريم لله -تبارك وتعالى.

وفسَّر قتادةُ[22] القدوس: بالمبارك.

وكلام أهل العلم يدور على هذه المعاني في تفسير "القدُّوس": أنه المنزَّه من كل عيبٍ ونقصٍ، وبهذا يكون بمعنى: السبُّوح.

وبعضهم يقول: هو الطَّاهر.

وبعضهم يقول: بأنَّ "القدُّوس" بمعنى المبارك، كما يقول قتادة، وقد مضى الكلامُ على هذا في الكلام على الأسماء الحسنى، وفي الكلام على آخر سورة الحشر أيضًا في التَّعليق على "المصباح المنير"، في ذكر الفرق بين السَّلام والقدُّوس: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ [الحشر:23]، وأنَّ بعض أهل العلم قال: بأنَّ القدوسَ هو: السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ في الزمن الماضي، والسَّلام هو: السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ في المستقبل، يعني: "القدُّوس" مُقدَّسٌ، مُنَزَّهٌ عن كل عيبٍ ونقصٍ في الزمن الماضي والحاضر، والسَّلام في المستقبل، لكن هذا لا دليلَ عليه، كأنَّهم أرادوا أن يُفرِّقوا بينهما من جهة الزمان، ولكن هذا التَّقديس فيه معنى التَّنزيه والتَّطهير وزيادة؛ فإنَّه حينما يُقال: هذا شيءٌ مُقدَّسٌ، فإنَّ هذا يعني أنَّه مُنزَّهٌ ومُطَهَّرٌ ومُعظَّمٌ، ففيه هذه المعاني الثلاثة مما لا يوجد في اسمٍ، أو في معنى السَّلام، أو في معنى السبُّوح -والله تعالى أعلم-.

ولهذا تفاوتت عبارات أهل العلم في تفسير "القدوس"، وكأنَّه يرجع إلى مجموع هذه المعاني الثلاثة، والملائكة -عليهم الصَّلاة والسَّلام- قالوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، فُسِّر أي -كما يقول ابنُ جريرٍ رحمه الله-: نُقدِّس لك، أي: ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطَّهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهلُ الكفر بك[23]، يعني: نُنزهك عن ذلك.

وابن القيم -رحمه الله- يقول:

هذا ومن أوصافه القدّوس ذو التـ ـتنزيه بالتَّعظيم للرحمن[24]

فأعاده إلى معنى التَّنزيه، فهو تنزيهٌ وزيادة، والله -تبارك وتعالى- قُدسيته تامَّة من كل وجهٍ؛ قدُّوسٌ في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، فأسماؤه كلّها حُسنى، وصفاته كاملة لا نقصَ فيها، وكذلك أفعاله على الكمال والتَّمام، وهو مُنزَّهٌ من كل العيوب والنَّقائص: ليس له زوجة، لا صاحبةَ له، ولا ولد، وهو مُنزَّهٌ عن الظُّلم، وعن النوم، والآفات، وغير ذلك من الشَّبيه والمثيل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، إلى غير ذلك من أنواع التَّقديس والتَّنزيه.

وقد مضى في بعض المناسبات الكلامُ على وجه الاقتران بين القدُّوس والملك: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ [الجمعة:1]، وهكذا في آخر سورة الحشر: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23]، فهذا الاقتران بعضُ أهل العلم؛ كالطَّاهر ابن عاشور -رحمه الله- في "التَّحرير والتَّنوير" يذكر أنَّ من صفات هذا الملك أنَّه قدُّوسٌ، إشارة إلى أنَّه تعالى مع كونه ملكًا مُدبِّرًا مُتصرِّفًا في كل شيءٍ، فهو قدُّوسٌ مُنزَّهٌ عمَّا يعتري الملوك من النَّقائص التي أشهرها الاستبداد والظُّلم، والاسترسال مع الهوى، والشَّهوات، والمحاباة[25].

وبعضهم يقول: إنَّ مُقتضى اسمه "الملك" أن يكون رحيمًا مُنزَّهًا عن الظُّلم والجور؛ ولذلك اقترن الملك بالقدُّوس والسَّلام؛ لبيان أنَّه تعالى مع كونه ملكًا قاهرًا فهو يتصرَّف في خلقه كيف شاء، إلا أنَّه سبحانه مُنزَّهٌ مُبرَّأ في أفعاله من الظُّلم والجور، فهو السَّلام الذي سلم عباده من ظُلمه، وهو المؤمن الذي يُؤمن عبيده من جوره وظلمه، وهذا من تمام ملكه -تبارك وتعالى-.

أمَّا هذه الزيادة: ربّ الملائكة والروح، فهذه ليست في روايات هذا الحديث عند هؤلاء: كأبي داود، والنَّسائي.

والحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: "وزاد بعضُهم: ربّ الملائكة والروح، وليس له أصلٌ في الحديث"[26]، هكذا قال.

وهذا الحديث جاء مُرسلاً من رواية عبدالرحمن بن أبزى، كما سبق، وذكر فيه أنَّه يمدّ في الثالثة صوتَه ويرفع، وأمَّا في حديث أُبي فلم يزد هذه الزِّيادة، لم يذكر هذه الزيادة: ثلاث مرات، أنَّه يقول: "سبحان الملك القدوس" ثلاثًا.

وأمَّا زيادة: "ربّ الملائكة والروح" فهي عند الدَّارقطني.

وقد مضى الكلامُ على الروح، وخلاف العُلماء فيه عند الكلام على ما يُقال في الركوع: "سبُّوح، قدُّوس، ربّ الملائكة والروح"، وكذلك في التَّفسير عند الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4].

وقد ذكر كبيرُ المفسّرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- في ذلك ستة أقوالٍ، ولم يُرجح منها شيئًا، قال: "هذا يحتمل، وأنَّ الله لم يعلمنا عن شيءٍ بخصوصه منها"[27].

فبعضهم يقول: الروح هو ملكٌ من أعظم الملائكة خلقًا. وبعضهم يقول: هو جبريل -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وبعضهم يقول: خلقٌ من خلق الله في صورة بني آدم. وبعضهم يقول: هم بنو آدم. وبعضهم يقول: أرواح الآدميين. وبعضهم يقول: الروح هو القرآن؛ لأنَّ به حياة الأرواح. ابن جرير لم يُرجح شيئًا، والحافظ ابن كثيرٍ أشار إلى توقف ابن جرير -رحمه الله-، لكنَّه قال بعد ذلك: "والأشبه عندي -والله أعلم- أنَّهم بنو آدم"[28].

وقد مضى الكلامُ على هذا والتَّعليق عليه، وأنَّ الأقربَ أنَّ المراد بالروح هو جبريل ، وأنَّ ذلك من قبيل عطف الخاصِّ على العامِّ، وأنَّ ذكر الخاصِّ بعد العامِّ يدلّ على شرفه ومنزلته، ونحو ذلك ذكر الخاصِّ بعد العامِّ مثل: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، فذكر جبريل وميكال -عليهما السَّلام- لشرفهما، لمنزلتهما، لعظمهما، ونحو ذلك، فالعلم عند الله -تبارك وتعالى-.

هذه الزيادة: "ربّ الملائكة والروح" لا يحضرني شيءٌ في صحّتها أنها ثابتةٌ، فيتحقق منها، وفي ساعتي هذه لا أعلم ذلك، فالذي أقوله: "سبحان الملك القدُّوس" ثلاثًا، يرفع صوتَه في الثالثة، وإذا تبين شيءٌ أخبرتكم عنه.

فيما يتعلّق بإحدى المرات الكلام في: اللهم قني عذابَك يوم تبعث عبادك، هل هذا يُقال بعد الصَّلاة، أو يختصّ بكونه يُقال عند النوم؟ وهل يُقال ثلاثًا؟

الحديث في أنَّه يُقال بعد الصَّلاة في مسلم، لكن تكلّم عليه عامَّةُ أهل العلم، وقالوا: إنَّ ذلك إنما هو عند النوم؛ لأنَّ ذلك هو الأشهر في رواياته، وكلّه من رواية صحابيٍّ واحدٍ، والله تعالى أعلم.

  1. أخرجه الدَّارقطني في "سننه"، برقم (1660).
  2. أخرجه أبو داود: باب تفريع أبواب الوتر، بابٌ في الوتر قبل النوم، برقم (1430).
  3. أخرجه النَّسائي: كتاب قيام الليل وتطوع النَّهار، باب ذكر اختلاف ألفاظ النَّاقلين لخبر أُبي بن كعب في الوتر، برقم (1699)، وفي "السنن الكبرى"، برقم (10502).
  4. أخرجه الدَّارقطني في "سننه"، برقم (1660).
  5. "السنن الكبرى" للنَّسائي (9/269)، برقم (10499).
  6. "السنن الكبرى" للنَّسائي (2/167)، برقم (1436).
  7. "مختصر الأحكام = مُستخرج الطُّوسي على جامع الترمذي" (2/429)، برقم (311- 444).
  8. "الأحكام الكبرى" (2/357).
  9. "الأحكام الوسطى" (2/48-49).
  10. "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" (5/614-615)، برقم (2834).
  11. انظر: "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" (5/616).
  12. "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" (5/352)، برقم (2527).
  13. "الأذكار" للنووي، ت: الأرناؤوط (ص89)، برقم (249).
  14. انظر: "المغني في الضعفاء" (2/646).
  15. "البدر المنير" (4/338).
  16. "البدر المنير" (4/339).
  17. انظر: "نتائج الأفكار" (3/22).
  18. انظر: "نتائج الأفكار" (3/21).
  19. "كشف الخفاء" ت: هنداوي (1/510)، برقم (1452).
  20. "صحيح أبي داود" (5/166).
  21. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب ما يُقال في الركوع والسُّجود، برقم (487).
  22. "تفسير الطبري" (22/551).
  23. "تفسير الطبري = جامع البيان" ط. هجر (1/505).
  24. "نونية ابن القيم = الكافية الشَّافية" (ص210).
  25. انظر: "التحرير والتنوير" (28/120).
  26. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (3/951).
  27. انظر: "تفسير الطبري = جامع البيان" ط. هجر (24/46) وما بعدها.
  28. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (8/310).

مواد ذات صلة