الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا باب "الدعاء لمن أقرض عند القضاء"، يعني: الدُّعاء للمُقرض إذا أراد المقترض أن يقضي هذا الدَّين، ذكر حديث عبدالله ابن أبي ربيعة قال: "استقرض مني النبيُّ ﷺ أربعين ألفًا، فجاءه مالٌ، فدفعه إليَّ وقال: بارك اللهُ لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السَّلف الحمدُ والأداء.
أخرجه النَّسائي[1]، وابن ماجه[2]، وقد قال ابنُ القطّان: "لا يصحّ؛ فيه إبراهيم بن عبدالرحمن بن عبدالله، لا تُعرف حاله، وإسماعيل بن إبراهيم أيضًا لم تثبت عدالته"[3].
ولكن الحديث حسَّنه العراقي[4]، والشيخ ناصر الدِّين الألباني في بعض المواضع[5]، وفي بعض المواضع صححه[6].
يقول: "استقرض مني النبيُّ ﷺ أربعين ألفًا"، استقرض يعني: أخذ قرضًا واستدان.
والقرض معروفٌ، وهو عقد إرفاقٍ، يعني: أنَّ المقصود به الإحسان للمُقْرَض، الإحسان إلى المدين، هذا هو المقصود، دون أن يكون ذلك في مقابل مالٍ يزيده على هذا المال الذي أقرضه، أو عرض غير المال، أو سلعة، أو ربما يكون ذلك بأمرٍ آخر: كالخدمة، ونحوها.
والقاعدة معروفة: أنَّ كلَّ قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا، وإذا كان الأمرُ كذلك فتوصيف التَّعامل مع البنوك: أنَّ الناس الذين يُودعون في البنوك هم في هذا الصَّنيع يكون الواحدُ منهم مُقرضًا للبنك، وإذا كان الأمرُ كذلك فلا يجوز له أن يحصل على هبات، وهدايا، وحوافز، وجوائز، وتسهيلات، وما إلى ذلك فيما يتعلّق بالفنادق، والمتاجر، والأسواق، وغير ذلك من العروض التي تُقدّمها البنوك لعُملائها، مثل هذا لا يصحّ؛ لأنَّ هذا المقرضَ للبنك –يعني: المودع- صار يستجرّ نفعًا، ولكن لو كان الشَّيء لا قيمةَ له: كالتَّقويم الذي يُعطى للجميع من منسوبي البنك، ومن المودعين، ومن غيرهم، فهذا لا إشكالَ فيه، أمَّا الأشياء التي لها قيمة، ولها ثمن، مثل هذا لا يصحّ، ولو كان من قبيل المنافع التي لا تكون مالًا مُباشرةً، ولكنَّها خدمات تُقدّم له، غير ما جرت به العادة مما يكون من المزاولات المعروفة التي تسهل عملية التَّعامل مع البنك، فمثل هذا لا إشكالَ فيه، وأعني بذلك: الأمور التي تكون من قبيل التَّسهيلات الإدارية ونحوها في التَّعامل، حينما يكون هذا الإنسانُ مثلًا يُضع لهؤلاء مرافق، أو نحو ذلك، أماكن يجلسون فيها، وأماكن مُريحة، أو مكاتب للاستقبال مُريحة، أو غير ذلك من الأشياء، أو مثل هذه البطاقات التي يستطيعون السَّحبَ من خلالها، أو نحو ذلك، هذا لا إشكالَ فيه.
وأمَّا ما يفعله كثيرون ربما بطرقٍ ووسائل يتوصَّلون بها إلى الزيادة، ويُسمّون ذلك قرضًا، أو غير ذلك من الوسائل والطُّرق بأيّ اسمٍ كان، فإنَّ هذا احتيالٌ على الربا، القرض المقصود به الإرفاق، أعطاه مئة ألفٍ، يُعيدها مئة ألفٍ، بلا توابع، بأي صيغةٍ كانت تلك التَّوابع فإنَّ هذا لا يجوز.
والحِيَل في هذا الباب أكثر من أن تُحصى، ولا زالت الأذهان والقرائح في كل يومٍ تُفرز ألوانًا جديدةً من الحِيَل التي شابهت بها هذه الأمّة مَن قبلها، حِيَل بني إسرائيل: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم[7].
"استقرض النبيُّ ﷺ أربعين ألفًا"، يحتمل أن تكون هذه الأربعون من قبيل الدَّراهم، كما رجَّحه بعضُ الشراح.
وذكر بعضُ أهل العلم: أنَّ هذا كان في غزوة حنين، فجاءه مالٌ كثيرٌ فدفعه إليه، وقال: بارك اللهُ لك في أهلك ومالك، دفع إليه هذا المال الكثير، يحتمل أنَّه دفع إليه المالَ الذي اقترضه منه، يعني: بقدر ما اقترض.
ويحتمل أنَّه جاء مالٌ كثيرٌ فدفعه إليه، يعني: أعطاه أكثر مما أخذ، وهذا لا إشكالَ فيه إن لم يكن ثمّة مُشارطة، فإذا كان ذلك من قبيل الإحسان والتَّكرم، وإحسان الردّ من قِبَل المقترض؛ فلا شكَّ أنَّه أفضل قضاءً؛ أنَّ ذلك يكون أرفع وأكمل في مرتبته، وقد جاء ذلك عن النبي ﷺ من قوله وفعله، فهذا لا إشكالَ فيه، إلا إذا كان الاشتراطُ؛ فهذا من قبيل الرِّبا.
والشَّاهد هنا أنَّ النبي ﷺ دعا له حينما قضاه فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دعا له في المال؛ لأنَّه اقترض منه مالًا، وزاد على ذلك بالدُّعاء لأهله، وهذا من المكافأة لمن أحسن، كما مضى في الدُّعاء له.
قال: إنما جزاء السَّلف الحمدُ والأداء، "جزاء السَّلف" يعني: القرض، "الحمد" يعني: الشُّكر والثَّناء على هذا المقرض، فيكون ذلك ردًّا لجميله وإحسانه وحُسن صنيعه: أن يتكلَّم معه بما يدلّ على امتنانٍ، وما يدلّ على اغتباطٍ بهذا الصَّنيع، فيشكر هذا الإنسان.
وقد عرفنا ما جاء في ذلك: أنَّه لا يشكر اللهَ -تبارك وتعالى- مَن لا يشكر الناس: مَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، ثم أخبرنا النبي ﷺ أننا إن لم نجد ما نُكافئه فإننا ندعو له.
أمَّا أن يأخذ الإنسانُ ثم بعد ذلك يردّ القرضَ دون أن يتكلم بكلمةٍ، فمثل هذا لا يجمل ولا يليق، فهذه الشَّريعة جاءت بالكمالات: حمل الناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، وهذا هو القسم الثالث مما جاءت به هذه الشَّريعة مما يُسمّى: بالتَّحسينيات في مقاصدها؛ حمل الناس على الكمالات، والمروءات، ومكارم الأخلاق، وما يحسُن، وما يجمُل، هذا هو اللَّائق.
فالنبي ﷺ يقول: إنما جزاء السَّلف الحمدُ والأداء، يعني: القضاء بحُسن الوفاء؛ فيُثني عليه، وأيضًا يُؤدِّي له ذلك من غير مطلٍ، ولا إضجارٍ، أو إساءةٍ، أو نحو ذلك، فهذا كما قال الله -تبارك وتعالى-: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60].
فلا يليق بحالٍ من الأحوال أنَّ الإنسان يقترض من غيره، ثم يجد بُغيتَه، ويجد حاجتَه، قلَّت أو كثرت، ثم يتحوّل هذا المقرضُ بعد ذلك إلى مُستجدي: يطلبه، ويتَّصل عليه، ولا يجد ردًّا، قبل ذلك كان يراه صباح مساء، وإذا اتَّصل عليه وجده مباشرةً، وبعد أن اقترض أصبح لا يستجيب ولا يردّ على الاتِّصالات، وإذا ذهب إليه لم يجده، وبغير اعتذارٍ، وقد يُحدد له مدةً قريبةً أو بعيدةً، يقول: أقضيك نهاية الشهر، بعد يومين، بعد أسبوعٍ، بعد سنةٍ، بعد خمس سنوات، ثم تمضي هذه المدّة، وأضعاف هذه المدّة، ولا يعتذر، ما يقول: جاء الأجلُ، إذا جاء اليوم الذي فيه الأجلُ يأتي إليه ويقول له: هذا هو الموعد الذي أقضي دينَك فيه، لكني لا أجد، أعتذر إليك، نُحدد موعدًا آخر. أبدًا، وكأنَّ شيئًا لم يكن.
وإذا كان هذا الإنسانُ المقرض ربما يستحي، أو نحو ذلك، أو لا يُحبّ أن يُطالب الناسَ، أو نحو هذا؛ قد يذهب ماله بالكلية، وربما لو ذكَّره بعد حينٍ يُفاجأ بجوابٍ باردٍ، كأن يقول له: هذا منذ زمنٍ بعيدٍ، وأظن أني قضيتُك! هذا دَيْنٌ ما كتبناه، حينما طلبتُه لم تطلب كتابةً. ولو طُولِبت بالكتابة لعددتَ ذلك عيبًا، كثيرٌ من الناس يعدّ هذا من قلّة الثِّقة، أو نحو ذلك، فإذا جاء الأداءُ سمعت مثل هذا الردّ أحيانًا: ما كتبناه! وإذا ما كتباه الله قد كتبه، لا أتذكّر كم كان، لعلي قضيتُك، إني أتذكّر أنَّك لم تقض تمامًا، وأتذكّر قدر هذا الدَّين، إن شاء الله تعالى بعد أسبوعٍ يكون المالُ عندك، ويمضي الأسبوع والعشر سنوات ولا شيء.
فهذا أمرٌ مُزعجٌ ومُؤلمٌ: أن يتحول هؤلاء الناس الذين يُحسنون إلى مُستجدين؛ يستجدي، يتَّصل، يُتابع حتى يملّ -إذا كان يُتابع-، وأمَّا إذا كان لأول وهلةٍ يبتعد عن مثل هذه المطالبات، فذلك في الغالب –للأسف- حقّه قد ذهب وضاع، يعني: يعتبر أنَّ هذا القرضَ الذي دفعه من أول مرةٍ ينوي به الصَّدقة لوجه الله ، فهذا ما يليق.
الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد"[8] يذكر هدي النبي ﷺ في هذا الباب، وأنَّه كان أحسن الناس معاملةً، وكان إذا استسلف سلفًا قضى خيرًا منه، كما أنه يقضيه ويدعو له -عليه الصلاة والسلام-.
هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.
- أخرجه النَّسائي: كتاب البيوع، باب الاستقراض، برقم (4683).
- أخرجه ابن ماجه: أبواب الصَّدقات، باب لصاحب الحقِّ سلطان، برقم (2424).
- "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" (4/498).
- "تخريج أحاديث الإحياء = المغني عن حمل الأسفار" (ص391).
- "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السَّبيل" (5/224)، برقم (1388).
- "صحيح الجامع"، برقم (2353).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنة، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم))، برقم (7320)، ومسلم: كتاب العلم، باب اتِّباع سنن اليهود والنَّصارى، برقم (2669).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (1/159).