الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "الدُّعاء لمن قال: بارك الله فيك"، وجاء في ذلك حديثُ عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: أُهديت لرسول الله ﷺ شاةٌ، فقال: اقسميها.
قال: وكانت عائشةُ إذا رجعت الخادمُ قالت:ما قالوا لكِ؟ قال: يقولون: بارك الله فيكم. فتقول عائشةُ -رضي الله عنها-: وفيهم بارك الله. يعني: أنها تردّ عليهم مثلما قالوا. ويبقى أجرُنا لنا.
هذا الحديثُ أخرجه النَّسائي في "الكبرى"[1]، وابن السُّني في "عمل اليوم والليلة"[2]، وقال الشيخُ ناصر الدِّين الألباني-رحمه الله-: إسناده جيدٌ[3].
"أُهديت لرسول الله ﷺ شاةٌ"،وكان من هديه -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه يقبل الهديةَ، ولا يأخذ الصَّدقة.
فقال ﷺ: اقسميها يعني: بين الناس: من قرابةٍ، أو جيرانٍ، أو فُقراء، أو غير ذلك.
قال:"وكانت عائشةُ إذا رجعت الخادم"، الخادم يُقال لمن يشتغل بالخدمة، سواء كان ذكرًا أو أنثى، وهو واحدُ الخدم، يُقال: هذا خادمٌ، وهذه خادمٌ. يعني: الخادمة، حيث بعثتها بهذه العطيَّة، أو الهديَّة، أو الصَّدقة.
فتسألها عائشةُ -رضي الله عنها- تقول:"ما قالوا لكِ؟ قال: يقولون: بارك اللهُ فيكم"، فتقول عائشةُ :"وفيهم بارك الله"، فتردّ عليهم بالمثل، ويبقى أجرُ الهدية، أو الصَّدقة، أو نحو ذلك وافيًا.
فكانت تفعل ذلك -رضي الله تعالى عنها- لأنَّ الذي يدعو لك بخيرٍ إذا أعطيتَه، أو وهبتَه، أو أهديتَه، أو نحو ذلك، يكون قد كافأكَ، كما مضى في بعض الليالي الماضية في قوله: مَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه[4]، ثم أرشد ﷺ حال عدم وجود ما يُكافأ به، فإنَّه يُدْعَى له، فيُقال: جزاك الله خيرًا. فقد تكون قد وفيتَ في الجزاء، حيث فوَّضتَ ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-.
فكانت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها- تردّ عليهم بالمثل، فتسأل: "ماذا قالوا لكِ؟" فتقول مثلما قالوا، وهذا كما ذكرنا في بعض المناسبات عند الكلام على قوله -تبارك وتعالى-:إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان:9]، وذكرتُ كلامَ شيخ الإسلام -رحمه الله-: بأنَّ الذي يُعطي وينتظر من المعطين الشُّكر، أو الثَّناء، أو الدُّعاء، أنَّه لا يدخل في هذه الآية:إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وذكرتُ في بعض المناسبات أحوالًا وأخبارًا للسَّلف -رضي الله تعالى عنهم- في هذا.
فالمؤمن إذا أعطى لا ينتظر عائدةً على هذا، أو من جرَّاء هذا العطاء من أهل الدنيا من المخلوقين، وإنما ينتظر ذلك من الله، فكيف بالذي يعتب حينما لا يُشْكَر؟! وكيف بالذي يغضب حينما لا يُذكر؟! وكيف بالذي يُطالب الآخرين: إمَّا صراحةً، أو تلميحًا، إمَّا مباشرة، أو بواسطةٍ، يطلب منهم أن يكتبوا له بالشُّكر، ونحو ذلك،أو أن يكتبوا له الخطابات بأن يُعطى درعًا، أو نحو ذلك؛ لأنَّه تبرع لهذا المشروع، أو تبنَّى هذا الإعلان، أو غير ذلك؟! فهذا لا يليق بمَن كان يرجو ما عند الله -تبارك وتعالى-، فعليه أن يترفّع من ذلك كلِّه.
تقول: "ويبقى أجرنا" أي: أجر هذه الهديَّة، أو الصَّدقة، أو الابتداء بالمعروف.
فهذا الحديث يدلّ على استحباب مكافأة المهدِي بالدُّعاء، إذا دعا له عند الهدية.
وفيه جواز الهدية أيضًا، وقبول ذلك، واستحباب قسمة ذلك أيضًا، يعني: بعض الناس يعتقد أنَّ الهديةَ لا تُهدى، ولا تُباع، وهذا غير صحيحٍ؛ لأنَّ هذه الهدية قد دخلت في ملكه، فهو يتصرَّف فيها كما شاء: إن شاء أهداها، وإن شاء انتفع بها بوجهٍ من الانتفاع، وإن شاء باعها، أو غير ذلك، ولا إشكالَ في هذا كلِّه.
وكذلك أيضًا المدعو له يُبادل هذا الدَّاعي بدُعاءٍ، فيردّ في مثل هذا، يقول: "وفيك بارك الله"، إذا قال:"بارك الله فيك"، فإذا قيل له: "جزاك الله خيرًا"، قال أيضًا: "وجزاك الله خيرًا"؛ ولذلك بعض السَّلف كان يقول: "بل أنتم جزاكم الله خيرًا"، من أجل ألا يكون ذلك توفيةً لجزائه، فيردّ بما يُناسِب، بحسب الدُّعاء، فإن زاد فهو أفضل.
هذا ما يتعلَّق بهذا الحديث.
والحديث الآخر، وهو حديث الطِّيرة.
قال:"هذا باب كراهية الطِّيرة".
وفي الباب أحاديث، من ذلك:
حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ الله ﷺ: يُسْلِم مَن أرجعته الطِّيرةُ عن حاجته، فقد أشرك،قالوا: وما كفَّارة ذلك يا رسول الله؟ قال: يقول أحدُهم: اللهم لا طيرَ إلا طيرك، ولا خيرَ إلا خيرك، ولا إله غيرك.
هذا عن عبدالله بن عمر، رواه ابنُ السُّني في "عمل اليوم والليلة"[5].
وجاء من حديث بُريدة -رضي الله تعالى عنه- قال: ذُكرت الطِّيرةُ عند رسول الله ﷺ فقال: مَن أصابه من ذلك شيءٌ، ولا بدَّيعني: لا بدَّ أن يقع.
وكان يقول بُريدة : وكان قولُ رسول الله ﷺ: ولابدَّ أحبّ إلينا من كذا. يعني: كأنَّه عذرهم في ذلك، وذكر لهم الكفَّارة والمخرج: فليقل: اللهم لا طيرَ إلا طيرُك، ولا خيرَ إلا خيرك، ولا إله غيرك.هذا أخرجه البزَّار[6]، والطَّبراني في "الدعاء"[7].
وجاء من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص-رضي الله تعالى عنهما- مرفوعًا: مَن ردَّته الطيرةُ من حاجةٍ فقد أشرك،قالوا: يا رسول الله، ما كفَّارة ذلك؟ فذكر مثلما جاء في حديث بُريدة -رضي الله تعالى عنه-، وحديث ابن عمر، وهذا مخرجٌ عند أحمد[8]، والطَّبراني في "الكبير"[9]،وحسَّنه مُحقق "المسند"[10].
وكذلك جاء من حديث فضالة بن عبيد ، عن النبي ﷺ:مَن ردَّته الطيرةُ فقد قارف الشِّرك. وهذا أخرجه ابنُ وهبٍ في "الجامع"[11]، وحسَّنه الأرناؤوط[12].
فقوله ﷺ في الطِّيرة: اللهم لا طيرَ إلا طيرك، ولا خيرَ إلا خيرك، ولا إله غيرك هذا له شواهد مُتعددة يتقوَّى بها، وإن كانت هذه الأحاديث لا تخلو من ضعفٍ.
الطِّيرة تُقال للتَّشاؤم بالشَّيء أيًّا كان، فهذا يُقال له: التَّطير، وأصل التَّسمية أنَّهم كانوا في الجاهلية يتطيرون ويتشاءمون بالطَّير، فإذا خرج أحدُهم لأمرٍ فإن رأى الطيرَ توجّه يمنةً تيمّن به، واستبشر وتفاءل، ومضى في حاجته، وإن توجّه هذا الطائرُ إلى ناحية الشِّمال، أو اليسار، فإنَّه يتشاءم به، ويرجع عن حاجته، فإن لم يجد طيرًا لربما هيَّج الطيرَ، إذا أراد أن يمضي في سفرٍ أو نحو ذلك يُهيج الطير، ثم ينظر إلى أيِّ اتِّجاهٍ تصير، فيعتمد ذلك، فجاء الشرعُ بالنَّهي عن هذا.
وربما تشاءم ببعض أنواع الطيور: كالغراب، والبوم، والصّرد، ونحو هذا، وربما تشاءم بأصواتها، وربما تشاءم بغير ذلك: كأن يرى الأبرصَ أو الأعرجَ في أول يومه، أو يرى جنازةً حينما يريد الخروجَ في سفرٍ، أو نحو هذا، فيتشاءم ويرجع، مع أنَّ هذه الأمور لا أثرَ لها إطلاقًا.
وكذلك منازل القمر: ربما نظر إلى القمر فوجده في بعض المنازل التي يتشاءم بها أهلُ الجاهلية؛ فيرجع، والأخبار في هذا كثيرة من أخبار الخلفاء وأخبار السَّلف -رضي الله تعالى عنهم- فمَن بعدهم.
وقد كان بعضُ أهل الجاهلية يُنكر التَّطير، ويتمدح بتركه، حتى قال قائلُهم:
وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكُنْتُ لَا | أَغْدُو عَلَى وَاقٍ وَحَاتِم |
إِذَا الْأَشَائِمُ كَالْأَيَا | مِنِ، وَالْأَيَامِنُ كَالْأَشَائِم[13] |
ويُقال: الوأق،وهو الصّرد، ويُقال أيضًا للغُراب.
فيقول هذا الشَّاعر:"كنتُ لا أغدو على واقٍ وحاتم"، والحاتم هو الغُراب، يقول: كنتُ إذا غدوتُ ذهبتُ في أول النَّهار، فإذا رأيتُ الغرابَ، أو رأيتُ الصّرد، أو نحو ذلك، رجعتُ من حاجتي.
يقول: "فإذا الأشائم كالأيامن، والأيامن كالأشائم"، أي: استوت الحالُ عندي الآن، فأنا لا أُبالي بشيءٍ من ذلك.
ويقول الآخر:
الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمُ | مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ[14] |
فهؤلاء ليس عندهم شيءٌ.
وقول الآخر:
ومَا عاجلاتُ الطَّيرِ تُدْنِي مِنَ الفَتى | رَشادًا وَلَا عَن ريثهنَّ يخيبُ[15] |
وقول الآخر:
لعَمْرُك ما تدري الطَّوارقُ بالحَصَى | ولا زاجراتُ الطّيرِ ما اللَّهُ فاعِلُ[16] |
فما الذي أعلم هذا الطَّائر الضَّعيف أنَّ في الغيب أمرًا مكروهًا، أو يوجد في الغيب أمرٌ محبوبٌ؛ فيتَّجه جهةَ اليمين، أو جهةَ الشمال؟! هو لا يدري ولا يعرف شيئًا من ذلك، ويضع له الصَّبي الفخَّ، فيقع عليه، فيصطاده، كما هو معلومٌ.
فهنا النبي ﷺ لما ذُكرت عنده الطِّيرة قال: فليقل: اللهم لا طيرَ إلا طيرك، ولا خيرَ إلا خيرك، ولا إله غيرك.
وهكذا قوله ﷺ: مَن ردَّته الطِّيرةُ من حاجةٍ فقد أشرك، فهذا الشِّرك قد يكون من قبيل الشِّرك الأكبر؛ وذلك إذا اعتقد هذا المتشائم أنَّ هذه الطيور أو الأشياء -من الظَّبي ونحوها- حينما تتوجّه يمنةًأو يسرةً، أو القمر في بعض منازله، أو نحو ذلك من الأصوات، أو ما يُشاهده من المشاهدات: أنَّ ذلك يُؤثر بذاته في القدر فيما يجري في هذا الكون؛ فهذا شركٌ في الربوبية.
فإذا اعتقد أنَّ هذه الأشياء تُؤثر من دون الله -تبارك وتعالى- كما كان يعتقد أهلُ الجاهلية؛ فهذا من قبيل الشِّرك الأكبر، لكن لو أنَّه اعتقد أنَّ ذلك من قبيل السَّبب فقط، وأنَّ الله هو الذي يُجري الأمور، لكن جعل ذلك أمارةً وعلامةً، والواقع أنَّه ليس كذلك،ولا شأن ولا تعلّق له بمثل هذه الأمور، لكن مَن اعتقد ذلك فهو كاذبٌ على القدر، وقد صرَّح بعضُ أهل العلم أنَّ هذا من قبيل الشِّرك الأصغر، وقالوا: إنَّ ما يُضاف إلى الشَّرع أو القدر، ولا يكون كذلك، أنَّ هذا يكون من قبيل الشِّرك الأصغر؛ لأنَّه قد جعل مُشَرِّعًا، أو جعل تشريعًا، أو جعل شيئًا لم يجعله الله قدرًا من قبيل الأسباب، فيكون ذلك من قبيل الكذب على القدر، ويكون من قبيل الشِّرك الأصغر.
هكذا قال بعضُ أهل العلم، يعني: مَن اعتقد مثلًا في نوعٍ من الطِّين، أو في نوعٍ من أعشاب البحر، أو اعتقد في نوعٍ من المياه والعيون تحمل خاصيةً، أو جعل الله فيها خاصيةً؛ تشفي من الأمراض مثلًا، فمثل هذا إن لم تدلّ التَّجربة على ذلك، فيكون هذا من قبيل الكذب على القدر في أقلّ حالاته.
وبعض أهل العلم قال: هذا من الشِّرك الأصغر، وكثيرًا ما تُضاف أشياء إلى أمورٍمن المعالجات وغيرها، ولم يجعلها اللهُ سببًا لذلك، فهذا لا يشتغل به الطبُّ مثلًا، فالأصل فيه الإباحة، ما لم يشتمل على محرمٍ، فإن دلَّت التَّجربةُ على نفع شيءٍ، وأنَّ الله قد جعل فيه هذه الخاصية؛ فهذا لا إشكالَ فيه، لكن في كثيرٍ من الأحيان يتخرَّص هؤلاء الناس، وهذا كثيرٌ في الرُّقاة، وفي الذين يتطببون بالأعشاب -الذي يُسمّونه: بالطبِّ البديل-، فقد يذكرون له أشياء لا علاقةَ لها بهذه العِلَّة، فيكون ذلك كذبًا على القدر.
فالسَّبب الشَّرعي من القراءة، والدُّعاء الكوني، والأدوية التي جُرِّب نفعُها، لكن قراءة بعض الآيات في السِّحْر، أو في المسّ، أو نحو ذلك، هذا من باب الطبِّ، فإذا دلَّت التجربةُ على تأثير ذلك فلا إشكالَ، لكن ما الذي يُثبت هذا؟ كثيرًا ما يتخرَّص هؤلاء بأشياء، وبأعداد، وأرقام، وأيام، والأمر قد لا يكون كما قالوا، والله تعالى أعلم.
الشاهد: أنهم سألوا النبيَّ ﷺ: فما كفَّارة ذلك؟ ما كفَّارة هذا الشِّرك، أو ما الدَّواء الذي يُزيل هذا الشِّرك؛ لأنَّ الكفَّارة قد تُطلق على كفَّارة الشيء بعد فعله، وقد تُطلق على الكفَّارة قبل الفعل، فالنبي ﷺ أرشدهم إلى هذا الدُّعاء: اللهم لا طيرَ إلا طيرك.
فإن قيل: بأنَّ الطير هنا المقصود به الطائر المعروف الذي يطير بجناحيه، فهذا خلقٌ مُسَخَّرٌ لله -تبارك وتعالى- ومملوكٌ، لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، والله -تبارك وتعالى- هو الذي يأتي بالخير والشَّر.
وإن قصد بـلا طيرَ إلا طيركالتَّطير، فهنا يكون بمعنى: أنَّ ما يقع للإنسان من المكروه إنما هو بقدر الله -تبارك وتعالى-:أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ[الأعراف:131]،وكذلك ما يقع للإنسان من الخير، وهذا لا شأنَ له بما يتشاءمون به، فهذا قد يُراد به ما يتشاءم به.
والحافظ ابنُ القيم -رحمه الله- يذكر أنَّ النبي ﷺ قد شفى أُمَّته في الطِّيرة حينما سُئل وأجابهم، قال: ذاك شيءٌ يجدونه في صدورهم، فلا يصدّنهم[17]، وقال في الأثر الآخر: وإذا تطيرتَ فامضِ[18]، أي: امضِ لما قصدتَ له، ولا يصدّنك ذلك عنه، واعلم أنَّ التَّطير إنما يضرّ مَن أشفق منه وخاف.
حتى إنَّ ابن القيم -رحمه الله-يقول: "فالطِّيرة بَابٌ من الشِّرك وإلقاء الشَّيْطَان وتخويفه ووسوسته، يكبر ويعظم شَأْنهَا على مَن أتبعها نَفسه، واشتغل بهَا، وَأَكْثر الْعِنَايَة بهَا، وَتذهب وتضمحلّ عَمَّن لم يَلْتَفت إِلَيْهَا، وَلَا ألقى إِلَيْهَا باله، وَلَا شغل بهَا نَفسَه وفكره.
وَاعْلَم أَنَّ مَن كَانَ مُعتنيًا بهَا، قَائِلًا بهَا، كَانَت إِلَيْهِ أسْرَع من السَّيْل إلى مُنحدرٍ فُتحت لَهُ أَبْوَاب الوساوس فِيمَا يسمعهُ وَيَرَاهُ ويُعطاه، وَيفتح لَهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا من المناسبات الْبَعِيدَة والقريبة فِي اللَّفْظ وَالْمَعْنَى مَا يُفْسِد عَلَيْهِ دينَه، وينكد عَلَيْهِ عيشه[19].
ومن الأمثال المعروفة اللَّطيفة عند المصريين -وما أكثر الأمثال اللَّطيفة عندهم-، يقولون: الذي يخاف من العفريت يطلع له. فهكذا الذي يتطير تجد أنَّ هذا الإنسان تُسرع إليه مثل هذه الأمور، لكن عليه أن يمضي، ولا يُبالي بشيءٍ من ذلك، فإن سبق إلى قلبه شيءٌ من هذا فإنَّه يقول مثل هذا الدُّعاء.
وجاء عن ابن مسعودٍ قال: "لا تضرّ الطيرةُ إلا مَن تطير"[20]، يعني: التَّطير المنهي عنه، ويصدّه ذلك عن حاجته، بخلاف مَن توكّل على الله ، وعظمت ثقتُه وركونه إليه، وصار رجاؤه إلى ربِّه -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، فيقول الإنسانُ مثل هذه الكلمات، ولا يضره شيء بإذن الله -تبارك وتعالى-.
وكان ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- إذا سمع الغرابَ قال: "اللهم لا طيرَ إلا طيرك، ولا خيرَ إلا خيرك، ولا إله غيرك"[21].
وعن عِكْرِمَة: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ ابْن عَبَّاسٍ، فَمرَّ طَائِرٌ يَصِيح، فَقَالَ رجلٌ من الْقَوْم: خير، خير. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ:"لَا خيرَ، وَلَا شَرَّ"[22]. يعني: لا حاجةَ لقول ذلك؛ لأنَّهم كانوا يقولون ذلك في الجاهلية ربما لدفع المكروه الذي وقع في نفوسهم، لكن النبي ﷺ علَّمنا ماذا نقول؟ فيكون كفَّارةً لما وقع، وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده.
وقول -رضي الله تعالى عنه-:"وما منَّا إلَّا– يعني: يقع في قلبه شيءٌ من ذلك- ولكنَّ الله يُذهبه بالتَّوكل" ابن مسعودٍ [23].
فمثل هذا الشِّرك الأصغر أو نحو ذلك لا يكاد يسلم منه العبدُ، لكن يحتاج إلى التَّعاهد لقلبه وخواطره، وما قد يسبق إلى ذهنه.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.
- "سنن الكبرى": كتاب الجمعة، برقم (91).
- "عمل اليوم والليلة" (ص244)، برقم (278).
- "الكلم الطيب" ط: المكتب الإسلامي (ص175)، برقم (239).
- أخرجه أبو داود: كتاب الزكاة، باب عطية مَن سأل بالله، برقم (1672)، وصححه الألباني.
- "عمل اليوم والليلة" (ص254)، برقم (292).
- أخرجه البزار في "البحر الزخار"، برقم (4379).
- "الدعاء" (ص380)، برقم (1270).
- أخرجه أحمد في "المسند" ط: الرسالة، برقم (7045).
- "المعجم الكبير"، برقم (38).
- "مسند أحمد" ط: الرسالة (11/623) ت: شعيب الأرناؤوط، عادل مُرشد، وآخرون.
- "الجامع" ت: مصطفى أبو الخير (ص743)، برقم (656).
- في تعليقه على "مسند أحمد" ط: الرسالة (11/624).
- البيتان للمرقش كما في "حياة الحيوان الكبرى" (1/320).
- البيت المجموع اللَّفيف (ص452) أنشده المبرد، وذُكر أنَّه للخليل.
- البيت لضابئ بن الحارث البرمجي في "الكامل في اللغة والأدب" (1/253).
- البيت في "سمط اللآلي في شرح أمالي القالي" (1/388) للبيد، وقد قيل: إنَّه لغيره.
- أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب تحريم الكلام في الصَّلاة، ونسخ ما كان من إباحته، برقم (537).
- "المعجم الكبير" للطبراني، برقم (3227).
- "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (2/230-231).
- "لطائف المعارف" لابن رجب (ص72).
- "فتح الباري" لابن حجر (4/38).
- "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (2/235).
- أخرجه أبو داود: كتاب الطب، بابٌ في الطيرة، برقم (3411)، والترمذي: أبواب السير، باب ما جاء في الطيرة، برقم (1614)، بلفظ: عن عبدالله بن مسعود، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الطِّيرة شركٌ، الطِّيرة شركٌ))، ثلاثًا، ((وما منَّا إلَّا ولكنَّ الله يُذهبه بالتَّوكل))، وصححه الألباني، وعقب الحديث قال الترمذي: "سمعتُ محمد بن إسماعيل–يعني: البخاري- يقول: كان سليمانُ بن حرب يقول في هذا الحديث:"وما منا إلَّا، ولكنَّ الله يُذهبه بالتَّوكل"، قال سليمان: هذا عندي قول عبدالله بن مسعود: وما منَّا ..."،وقال ابنُ القيم في "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (2/234):"وهذه اللَّفظة: (وما منا ...) إلى آخره مُدرجة في الحديث، ليست من كلام النبيّ، كذلك قاله بعضُ الحفَّاظ، وهو الصَّواب".