الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(285) ما يقول من أتاه أمرٌ يسره أو يكرهه
تاريخ النشر: ٠٢ / ربيع الآخر / ١٤٣٦
التحميل: 1448
مرات الإستماع: 1387

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

هذا باب "ما يقول مَن أتاه أمرٌ يسرّه أو يكرهه"، وأورد فيه المؤلفُ حديثَ عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسولُ الله ﷺ إذا رأى ما يُحبّ قال: الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصَّالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حالٍ.

هذا الحديث أخرجه ابنُ ماجه[1]، والحاكم[2]، وابن السُّني في "عمل اليوم والليلة"[3].

وقد جوَّد إسنادَه الإمامُ النووي[4]، والعيني[5]، وقال ابنُ عساكر: حسنٌ، غريبٌ[6]. وحسَّنهالسيوطي[7].

وصححه الألباني في بعض كتبه[8]، مع أنَّه قال فيموضعٍمن المواضع: يمكن تحسينه[9]. وقال في موضعٍ آخر: حسنٌ[10]. وقال في موضعٍ آخر: ضعيفٌ[11].

قولها -رضي الله عنها-: "كان رسولُ الله ﷺ إذا رأى ما يُحبّ قال" مثل هذا التركيب -كما عرفنا- يدلّ على أنَّه كان من عادته أنَّه "إذا رأى ما يُحبّ قال: الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصَّالحات".

وفي بعض الألفاظ والرِّوايات: "كان إذا أتاه الأمرُ يسرُّه"[12]، وفي بعضها: "إذا أتاه الشَّيء يسرُّه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصَّالحات"[13]، يعني: تقع الأمورُ المحبوبة، فذلك تفضّلٌ منه -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-على عباده، فهو يُحسِن إليهم، ويُيسّر لهم الأسباب التي تُوصلهم إلى المحابِّ والمسارِّ، ويدفع عنهم الضُّر، ويرفع عنهم الكُربات والشُّرور، وما إلى ذلك.

"وإذا أتاه الأمرُ يكرهه"، وفي اللَّفظ الآخر:"وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حالٍ"، إذا رأى ما يكره في نفسه، أو ولده، أو لمن يحتفّ به، فيقول:الحمد لله على كل حالٍ؛ وذلك أنَّه -تبارك وتعالى- إنما يقضي لحكمةٍ وعلمٍ وبصرٍ نافذٍ بخلقه -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.

فأفعاله -تبارك وتعالى- خيرٌ، وإنما يقع المكروه والشَّر في مفعولاته، لا في أفعاله، وسواء علم العبدُ ما في مضامين ذلك من الخير، أو لم يعلم، فإنَّ النبي ﷺ قال:عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه له خيرٌ، إن أصابته سرَّاء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر؛ فكان خيرًا له[14].

ولاحظ: في هذه المواضع الثلاثة قال: له، ولم يقل: عليه، فذكر السَّراء، وقال: شكر؛فكان خيرًا له إذا شكر، وإن أصابته الضَّراء صبر؛ فكان خيرًا له، فذلك يكون للمؤمن، كما قال النبي ﷺ، فالمؤمن يتقلَّب في أحوالٍ من العبودية: في حال السَّراء، وفي حال الضَّراء.

والله -تبارك وتعالى- محمودٌ في ابتداء الخلق، وانتهائه، واستمراره، وهو محمودٌ على ما أنزل من الشَّرائع، ومحمودٌ على كل الأحوال.

وهذا يدل على أنَّ الشَّدائد التي تقع في الدنيا يلزم العبد الشكر عليها؛ لأنَّها تُفضي به إلى منافع عظيمةٍ إذا صبر واحتسب ذلك عند الله -تبارك وتعالى-، وتكون العاقبةُ لأهل الإيمان من أهل الصَّبر والاحتساب واليقين، فيكون لهم الثوابُ الجزيل، وما إلى ذلك من حُسن العاقبة.

وقد ذكر الحافظُابن القيم-رحمه الله تبارك وتعالى- ما يمكن أن يُوجّه به هذا، يعني: أنَّ الله -تبارك وتعالى- محمودٌ على كل حالٍ، فيقول إذا رأى ما يكره:الحمد لله على كل حالٍ؛ وذلك أنَّ الله تعالى موصوفٌ بكلِّ كمالٍ، وهو مُنَزَّهٌ عن كل نقصٍ وعيبٍ، فكما أنَّه موصوفٌ في أفعاله بكل حمدٍ وحكمةٍ وغايةٍ محمودةٍ، فهو مُنَزَّهٌ فيها عن كل عيبٍ وظلمٍ وقبيحٍ، وبهذا استحقَّ أن يكون محمودًا على كل حالٍ، وأن يكون محمودًا على المكاره، كما هو محمودٌ على المحابِّ[15]. إلى آخر ما ذكر -رحمه الله-.

والمقصود أنَّ الله محمودٌ في السَّراء، وهو محمودٌ أيضًافي الضَّراء، فيُحمد في السَّراء حمد الشُّكر، وأمَّا في الضَّراء فيُحمد حمد تفويضٍ وصبرٍ؛ لأنَّ الشيء الذي يضرّ الإنسان قد لا يتبينله وجهه، وما فيه من المصلحة له، ولكن الله -تبارك وتعالى- عليمٌ حكيمٌ، يضع الأمورَ في مواضعها، ويُوقعها في مواقعها.

فإذا وقع للإنسان المرضُ، أو وقعت له خسارةٌ في تجارته، أو نحو ذلك، فلا ينبغي للإنسان أن ييأس، وأن يقنط، وأن يسُوء ظنُّه بربِّه -تبارك وتعالى-، وأنَّ الله أراد أن يكسره، أو نحو ذلكمن الظنون السَّيئة التي لا تليق بالله -تبارك وتعالى-، فتدبيره -جلَّ وعلا- مبناه على العلم والحكمة، إذًا هذا التَّدبير لأمر الخليقة إنما هو تدبيرٌ على وجهٍ من الكمال الذي لا يعتريه نقصٌ بحالٍ من الأحوال، وإذا كان كاملًا في تدبيره وأفعاله وتصريفه لأمور خلقه، فهذا يقتضي أن يُحمد، فإذا كان العبدُ يرى الأمورَ المحبوبة؛ فيحمد عليها، فكذلك إذا رأى الأمورَ المكروهة عليه أن يحمد الله -تبارك وتعالى- عليها.

وقد ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: أنَّ الرِّضا وإن كان من أعمال القلوب، يقول: "فكماله هو الحمد"، كمال الرِّضا، يقول:"حتى إنَّ بعضَهم فسَّر الحمدَ بالرِّضا"، يقول:"ولهذا جاء في الكتاب والسُّنة حمدُ الله على كل حالٍ؛ وذلك يتضمّن الرِّضا بقضائه، وفي الحديث: أول مَن يُدعى إلى الجنَّة الحمَّادون الذين يحمدون الله في السَّراء والضَّراء[16]، وجاء أيضًا عن النبي ﷺ أنَّه كان إذا أتاه الأمرُ يسرّه ..."، وذكر شيخُ الإسلام -رحمه الله- هذا الحديث[17].

فهذا كلّه يدلّ على كماله -تبارك وتعالى-، وقد جاء من حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي ﷺ قال: إذا قُبِضَ ولدُ العبد يقول اللهُ لملائكته: أقبضتُم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتُم ثمرةَ فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع يعني: قال:"إنَّا لله وإنا إليه راجعون"، فيقول: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنّة، وسمّوه: بيت الحمد[18]، والنبي ﷺ هو صاحب لواء الحمد، وأمّته هم الحمَّادون، الذين يحمدون الله -تبارك وتعالى- على السَّراء والضَّراء[19].

ثم ذكر شيخُ الإسلام: أنَّ الحمدَ على الضَّراء يُوجِبه مشهدانِ- يعني: أن يستحضر العبدُ بقلبه أمرين-:

الأول: أن يعلم أنَّ الله -تبارك وتعالى- مُستوجبٌ لذلك، وأنه مُستحقٌّ له تمام الاستحقاق، فإنَّه أحسن كلَّ شيءٍ خلقَه، وأتقن كل شيءٍ، وهو العليم، الحكيم، الخبير، الرحيم، فهو مُستوجبٌ للحمد.

والثاني: مما يستحضره العبدُ، ويُوجِب له الحمد في حال الضَّراء، هو علمه بأنَّ اختيارَ الله لعبده المؤمن خيرٌ من اختياره لنفسه.

يعني: الأول: أن تستحضر أنَّ ربَّك -تبارك وتعالى- مُستحقٌّ للحمد، وأنَّه قد أحسن كلَّ شيءٍ خلقه، وأنَّه عليمٌ حكيمٌ، وأنَّ أفعالَه كاملة، إذًا يستحقّ الحمد.

الأمر الثاني:أن تستحضر أنَّ اختيارَ الله لك خيرٌ من اختيارك لنفسك.

وإذا كان الأمرُ كذلك، فلماذا يتسخّط الإنسانُ؟ ولماذا ييأس؟ ولماذا يقنط؟ ولماذا يسوء ظنُّه بالله -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-؟

فإذا وقع له المرضُ يعلم أنَّ الله ساق له هذا ليرفعه، لا ليكسره، وهكذا إذا وقع له المكروه: مات له ولدٌ، أو نحو ذلك، فإنَّه يحمد الله ، ويسترجع، ويصبر، ويحتسب، فإنَّ هذا الجزعَ لا يردّ له المفقود،ولا يردّ له الفائت، ويعلم أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد اختار له ذلك عن علمٍ وحكمةٍ، وليست هذه الأقدارُ"خبط عشواء، مَن تُصب تُمته، ومَن لا تُصب من الناس يسلم"، كما يقول شاعرو الجاهلية.

وأمَّا ما يقوله بعضُ الناس من قولهم: "الحمد لله الذي لا يُحْمَد على مكروهٍ سواه"، فإنَّ بعضَ أهل العلم ذكر أنَّ هذه الكلمة غير صحيحةٍ،وأنها لم ترد، وأنَّ معناها غير صحيحٍ، وإنما يُقال: الحمد لله على كل حالٍ، لماذا هذه الكلمة ليست كما ينبغي؟

باعتبار أنَّها تحمل في مضامينها رسالةً للسَّامع، كأنَّ هذا الإنسان يقول: بأنَّ الله قد ساق له المكروه والشَّر والضُّر، وما إلى ذلك! كأنَّه يقول: أنا في شدَّةٍ، وفي كربٍ ومكروهٍ، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه.

فالسَّامع مُباشرةً يتبادر إلى ذهنه أنَّ هذا الإنسان ليس في عافيةٍ، وأنَّه في حالٍ من الشّدة، وما يكرهه، ومثل هذا لا يكون من الشُّكر، ولا يكون من الحمد الحقيقي الذي يكون مُفضيًا بالعبد إلى الرِّضا، كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-، لكن هو يقول: أنا في مكروهٌ، والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه. يقولها وهو يستشعر ما هو فيه من الشّدة؛ فهذا لا يكون حالُ مَن كان راضيًا، صابرًا، وإنما يحمد وفي ضمن ذلك هذه الرسالة التي يُوصلها إلى السَّامعين.

هذا، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.

 

 

  1. أخرجه ابن ماجه: كتاب الأدب، باب فضل الحامدين، برقم (3803)، وحسَّنه الألباني.
  2. أخرجه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين"، برقم (1840).
  3. أخرجه ابن السّني في"عمل اليوم والليلة"، برقم (378).
  4. "الأذكار" للنووي، ط. ابن حزم (ص511).
  5. "العلم الهيب في شرح الكلم الطيب" للعيني (ص375).
  6. "معجم ابن عساكر" (1/349).
  7. "الجامع الصغير"، برقم (6683).
  8. "صحيح الجامع الصغير"، برقم (8769).
  9. لم أقف عليه.
  10. "صحيح سنن ابن ماجه"، برقم (3803).
  11. لم أقف عليه.
  12. أخرجه الحاكم في "المستدرك"، برقم (1840)، وصححه، والبيهقي في "شعب الإيمان"، برقم (4065).
  13. لم أقف على هذه الرواية بهذا اللفظ.
  14. أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كلّه خير، برقم (5318).
  15. "زاد المعاد في هدي خير العباد" (3/229).
  16. أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير"، برقم (288).
  17. "مجموع الفتاوى" (10/43).
  18. أخرجه الترمذي: أبواب الجنائز، باب فضل المصيبة إذا احتسب، برقم (1021)، وحسَّنه الألباني.
  19. "مجموع الفتاوى" (10/43).

مواد ذات صلة