الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(309) ما يقال لرد كيد مردة الشياطين
تاريخ النشر: ٠٨ / جمادى الأولى / ١٤٣٦
التحميل: 1467
مرات الإستماع: 1565

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذا باب "ما يُقال لردِّ كيد مردة الشَّياطين"، وذكر فيه حديث أبي التياح، قال: سأل رجلٌ عبدالرحمن بن خنبش: كيف صنع رسولُ الله ﷺ حين كادته الشَّياطين؟ قال: جاءت الشياطينُ إلى رسول الله ﷺ من الأودية، وتحدّرت من الجبال، وفيهم شيطانٌ معه شُعلة من نارٍ يُريد أن يحرق بها رسولَ الله ﷺ. قال: فرعب. قال جعفر: أحسبه قال: جعل يتأخّر.

قال: وجاء جبريل فقال: يا محمد، قل، قال: ما أقول؟ قال: قل: أعوذ بكلمات الله التَّامات التي لا يُجاوزهنَّ برٌّ ولا فاجرٌ من شرِّ ما خلق، وذرأ، وبرأ، ومن شرِّ ما ينزل من السَّماء، ومن شرِّ ما يعرج فيها، ومن شرِّ ما ذرأ في الأرض، ومن شرِّ ما يخرج منها، ومن شرِّ فتن الليل والنَّهار، ومن شرِّ كل طارقٍ، إلا طارقًا يطرق بخيرٍ يا رحمن، فطُفئت نارُ الشياطين، وهزمهم الله .

أخرجه الإمامُ أحمد[1]-رحمه الله-، وقال عنه المنذري: "إسناده جيدٌ مُحتجٌّ به"[2]، وقد قال عنه شيخُ الإسلام ابن تيمية[3]-رحمه الله- بأنه ثابتٌ عن النبي ﷺ، وقال الهيثمي: "رجال أحد إسنادي أحمد وأبي يعلى رجال الصَّحيح"[4]، وقال الشيخُ ناصر الدين الألباني:"صحيحٌ"[5].

فقوله: أعوذ بكلمات الله التَّامات مضى الكلامُ على هذه الجملة في مناسبات سابقةٍ، فوصفها بالتَّمام على الإطلاق هكذا، وهذا يحتمل أنَّ المراد أنَّه لا يدخلها ولا يتطرق إليها نقصٌ بوجهٍ من الوجوه، فكلمات غير الله يتطرق إليها النَّقصُ في ألفاظها، وفي مضامينها ومعانيها، أمَّا كلماته -تبارك وتعالى- فهي بالغةٌ في الكمال غايته من جهة اللَّفظ، ومن جهة المعنى.

ويحتمل أن يكون المرادُ بذلك كما يقول بعضُ أهل العلم: الفاضلة، وهذا يمكن أن يرجع إلى ما قبله.

وبعضهم يقول: يعني: الثابت حكمه، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا[الأعراف:137] يعني: ثبتت، فهذا احتمالٌ.

ويمكن أن يُجمع بين هذه المعاني: فهي تامّة، بمعنى الكمال؛ حيث إنها بلغت في الكمال في ألفاظها ومعانيها الغاية، وكذلك ما كان بهذه المثابة فلا شكَّ أنَّه الفاضل الذي يُوصَف بالفضل التَّام المطلق.

وهكذا أيضًا هي ثابتة، لا تبديلَ لها، ولا تغيرَ لألفاظها، ولا لأحكامها، وهذه الكلمات ما المراد بها؟

بعضهم يقول: هي صفاته القائمة بذاته.

وبعضهم يقول: هي العلم؛ لأنَّه أعمّ الصِّفات.

وبعضهم يقول: القرآن، يعني: الكلمات الدِّينية الشَّرعية المتلوّة.

وبعضهم لا يخصّه بالقرآن بهذا الاعتبار، وإنما يقول: جميع ما نزل على الأنبياء -عليهم السلام-، باعتبار أنَّ الجمع المضاف يعمّ، جمع مضاف إلى معرفةٍ: "أعوذ بكلمات الله"، كلمات مُضاف، ولفظ الجلالة مُضاف إليه: "بكلمات الله"، فهذا جمعٌ مُضافٌ فيعمّ كلمات الربّ-تبارك وتعالى- هكذا.

وبعضهم فسَّره بالنَّافعة، لكن هذا لا يخلو من بُعْدٍ، والأقرب -والله تعالى أعلم- ما ذكرناه في مناسبات سابقةٍ: أنَّ ذلك بحسب هذا المقام، وهو مقام الاستعاذة من شرِّ ما خلق؛ أنَّ المناسب في ذلك هو الكلمات الكونية التي يحصل بها الخلق والإيجاد وتدبير أمر الخليقة، فهي التي لا يُجاوزها برٌّ ولا فاجرٌ، كما ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا المعنى، فهي التي تكون بها الكائنات، فلا يخرج برٌّ ولا فاجرٌ عن تكوينه ومشيئته وقُدرته، أمَّا الكلمات الدِّينية في الكتب المنزلة، وما فيها من أمره، ونهيه، وشرعه، فأطاعها الأبرارُ، وعصاها الفُجَّار.

إذن الأقرب لا سيّما في مقام الاستعاذة هنا؛ بحيث إنَّه يعصم من جميع المخاوف والشُّرور وأسباب الشُّرور التي جُمعت في هذه الجُمَل القصيرة، فإنَّ هذا يصلح معه الكلمات الكونية، وليس الكلمات الشَّرعية.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إنَّ هذه الكلمات التَّامات هي التي يحصل بها الخلق، لا يخرج عن هذا الأمر الكوني، لا يخرج منه شيءٌ عن مشيئته -تبارك وتعالى- وتكوينه. ذكر هذا في رسالته في "أمراض القلوب وشفائها"، وفي "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان"[6].

هذه الكلمات التي لا يُجاوزهنَّ برٌّ ولا فاجرٌ، "لا يُجاوزها" يعني: في التَّمام، يعني: لا يزيد عليها، إذا قيل بأنها الكلمات الدِّينية، يعني: الكتب المنزلة، أو أنها لا ينتهي علمُ أحدٍ إلى ما يزيد عليها: لا من الأبرار، ولا من الفُجَّار، لكن إذا فُسّرت بالكلمات الكونية:"لا يُجاوزها" بأنَّ أحكامَها ماضية، وأنَّ ما قدَّره الله -عزَّ وجلَّ- وحكم به نافذٌ، لا يستطيع أن يخرج عن مشيئته وتكوينه برٌّ ولا فاجرٌ، فذلك مُتحققٌ في الجميع.

ومن شرِّ ما ينزل من السَّماء، ومن شرِّ ما يعرج فيها، ما الذي ينزل من السَّماء؟ وما الذي يعرج فيها؟

يحتمل من كلِّ شيءٍ ينزل من السَّماء فيُصيب أهلَ الأرض، أو يعرج إلى السَّماء، يعني: مما تكون بسببه العقوبات والعذاب الذي ينزل على أهل الأرض، أو ينزل على بعضهم من أجله، يعني: الجرائم وذنوب بني آدم وأعمال بني آدم السّيئة.

وبعضهم يقول: من شرِّ ما ينزل من السَّماء يعني: أنواع العقوبات والصَّواعق، ونحو ذلك، ومن شرِّ ما يعرج فيها أيضًا من مُوجبات العذاب.

ومن شرِّ ما ذرأ في الأرض بعضهم يقول: أيّ: ما خلقه على ظهر الأرض، ومن شرِّ ما يخرج منهامما خلقه في بطنها، مما أوجده في بطنها.

ومن فتن الليل والنَّهار فسَّره بعضُهم بأنَّ المراد بذلك الفتن التي تُصيب في الليل والنَّهار، أو تُخلق في الليل والنهار، فأضافها إلى الليل والنَّهار بهذا الاعتبار: إمَّا باعتبار الوقوع والإصابة، أو باعتبار الإيجاد والخلق، أو الفتن التي سببها الليل والنَّهار مما يستعين أهلُ الفتن عليها بالليل؛ فيستترون به، ويتوصّلون فيه إليها، وكذلك النَّهار، وكأنَّ المقصود -والله تعالى أعلم-بفتن الليل والنَّهار، يعني: ما يقع فيهما، فيكون ذلك عامًّا في أنواع الفتن.

ومن شرِّ كلِّ طارقٍ لما كان الطارقُ يأتي بالشَّر وبالخير؛ استثنى طارقَ الخير الذي يأتي به، فإنَّه رغب في إتيانه، ولم يستعذ منه.

قال: ومن طوارق الليل والنَّهار،هنا قال: من شرِّ كلِّ طارقٍ، إلا طارقًا يطرق بخيرٍ، وفي لفظٍ آخر: من طوارق الليل والنَّهار، يعني: ما جاءك ليلًا، أو ما جاءك نهارًا، وذلك من الطرق، قيل: أصله من الدّق، سُمّي الآتي بالليل: طارقًا؛ لاحتياجه إلى الدّق، والذي يأتي في النَّهار على سبيل الإتباع.

هذا الحديث اشتمل على هذه الاستعاذة الشَّاملة العامَّة التي تشتمل على جميع أنواع الشُّرور مما يتّصل بالشياطين: شياطين الجنّ، وشياطين الإنس، وأنواع المكاره التي تكون في الأرض مما يخرج منها، أو يكون على ظهرها، أو مما ينزل من السَّماء.

والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.

 

 

  1. أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (15461)، وقال مُحققوه: "إسناده ضعيف"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (74).
  2. "الترغيب والترهيب" للمُنذري (2/303)، برقم (2482).
  3. "مجموع الفتاوى" (24/281).
  4. "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/127)، برقم (17069).
  5. "صحيح الجامع"، برقم (74).
  6. "أمراض القلوب وشفاؤها" (ص47)، و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (ص150).

مواد ذات صلة