الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(310) الاستغفار والتوبة "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الأولى / ١٤٣٦
التحميل: 1814
مرات الإستماع: 1408

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نشرع في باب "الاستغفار والتوبة"، وما ذكر تحته من الأحاديث والأذكار، فأول ذلك: ما جاء من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً.أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله- في "صحيحه"[1].

فقوله: سمعتُ رسولَ الله يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً، هذا على سبيل التَّحضيض والتَّحريض، فيُخبر عن كثرة استغفاره وتوبته إلى الله-تبارك وتعالى-؛ تعليمًا للأُمّة وتحريضًا، من أجل أن يُكثروا من الاستغفار والتّوبة، فذكر ذلك مبتدأ بالقسم: "والله".

والنبي ليس عند السَّامع من أهل الإيمان أدنى شكٍّ في صدقه -عليه الصلاة والسلام-، فيكون القسمُ قد ورد تأكيدًا لقوله -عليه الصلاة والسلام-، وإن لم يكن ثمّة شكٌّ لدى المخاطب.

إني لأستغفر الله، أستغفر الله من ماذا؟

النبي غُفر له ما تقدّم من ذنبه:"أستغفر" الحروف الأولى التي زِيدت في أول هذه اللَّفظة التي أصلها "غفر" تلك للطلب: "أستغفر" يعني: أطلب المغفرة، الغفر يدلّ على السّتر، كما يدلّ أيضًا على الوقاية، السّتر والوقاية.

فإذا قال العبدُ: "أستغفر الله" معناه: أنه يطلب سترَه، فلا يفتضح في الدنيا، ولا في الآخرة.

"المغفر" يستر رأسَ المقاتل، يُغطيه، كما أنَّه يقيه ضرب السلاح، فيكون قد وُقي ما يتخوّفه من جرائر وآثار الذنوب والمعاصي.

فقوله إني لأستغفر الله وأتوب إليه، يستغفر من ماذا وقد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر -عليه الصلاة والسلام-؟

وبعضهم يقول: إنَّ ذلك باعتبار التَّقصير في الطَّاعة، فهذا قد يقع من العبد في بعض الأحوال، ومهما بذل العبدُ، ومهما عبد ربَّه، فإنه لا يُوفي حقّه ونِعَمه عليه، الظَّاهرة والباطنة؛ لأنَّ كلَّ عبادةٍ مُتجددةٍ يُهدى إليها العبدُ ويُوفّق علمًا وعملًا، فإنَّتلك نعمةٌ جديدةٌ تستوجب شكرًا جديدًا: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا[النحل:18]، يعني: مجرد الإحصاء، فضلًا عن الشُّكر المرتّب عليه.

فهنا بعضهم قال: من التَّقصير؛ أنَّ العبد مهما اجتهد وجدَّ فإنَّه لا يُوفي نِعَم الله عليه، فيستغفر النبيُّ ؛ ولهذا كان يعقب كثيرًا من العبادات بالاستغفار، فكان إذا انصرف من صلاته -عليه الصلاة والسلام- يستغفر ثلاثًا[2].

وهكذا أيضًا: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ[آل عمران:17]، فالسَّحر وقتٌ للاستغفار، يكون قد قضى ليلًا في قيام الليل، ثم بعد ذلك يستغفر في وقت السَّحر.

إني لأستغفر الله أي: أطلب منه المغفرة.

وأتوب إليه التوبة بمعنى الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- بعد التَّقصير والإساءة، أو المعصية، ونحو ذلك، فهذا يكون من قبيل الرجوع، والأول طلب المغفرة، يعني: أنَّ الأول من قبيل السؤال والدُّعاء والطَّلب، والثاني من قبيل الفعل؛ لأنَّ التوبة عملٌ من الأعمال القلبية، وقد مضى الكلامُ على ذلك مُفصَّلًا في آخر الأعمال القلبية.

فكان النبي يُكثر من هذا، كما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: "إنا كنا لنعدّ لرسول الله في المجلس –يعني: الواحد-مئة مرة: ربّ اغفر لي، وتُبْ عليَّ، إنَّك أنت التَّواب الغفور[3].

هنا في حديث أبي هريرة: أكثر من سبعين مرةً،"أكثر" إلى أيّ مدًى؟ الله أعلم، لكنَّه هنا في حديث ابن عمر: في المجلس الواحد، وهذه الصِّيغة المذكورة في حديث ابن عمر هي من صيغ التوبة التي يمكن أن يُعبّر بها المؤمنُ، يقول: "ربي اغفر لي، وتُبْ عليَّ، إنَّك أنت التَّواب الغفور"، يعني: في قوله إني لأستغفر الله وأتوب إليه، هنا خبرٌ عن الاستغفار والتوبة، لكن ما ذكر الصيغة، ما الذي كان يقوله ؟ الصيغة التي يُعبّر بها عن الاستغفار، هل كان يقول: "أستغفر الله، أتوب إلى الله" مثلًا، "أستغفر الله وأتوب إليه"؟

هنا في حديث ابن عمر أخبرنا عن قوله ربي اغفر لي، وتُبْعليَّ، إنَّك أنت التَّواب الغفور، يمكن أن تُردد هذا كثيرًا في اليوم والليلة.

هنا يقول: كانوا في المجلس الواحد يعدّون له -عليه الصلاة والسلام- مئة مرة، يقول مثل هذا الكلام، "في المجلس الواحد" معنى ذلك: كم كان يقول مثل هذا في المجالس، في خلوته، في ذهابه ومجيئه -عليه الصلاة والسلام-؟ ثم نرجع إلى أنفسنا بعد ذلك، وننظر: كم مرة نقول هذا في اليوم والليلة، على كثرة التَّقصير والذّنوب والمقارفات التي يعلمها الله -تبارك وتعالى- ويسترها؟!

فهذا في اليوم! واليوم شرعًا يكون ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويكون في لغة العرب من طلوع الشمس إلى غروبها.

أكثر من سبعين مرةً، وفي حديث أنس: إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرةً[4]، والزيادة لا تُنافي ذلك؛ فقد كان يزيد -عليه الصلاة والسلام-، فإنَّ قوله: أكثر من سبعين، "أكثر" هكذا مُبهم، يمكن أن يُفسّر بالحديث الآخر: أنه يبلغ إلى المئة، بل أكثر من ذلك؛ لأنَّه في المجلس الواحد يقول هذا مئة مرة-عليه الصلاة والسلام-، مع أنَّه مغفورٌ له -عليه الصلاة والسلام- ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر!

فالاستغفار في حدِّ ذاته عبادة، وفعله هذا تعليمٌ للأُمّة، أيضًا كثرة الاستغفار والتوبة إلى الله -تبارك وتعالى-، وكذلك الاستغفار يكون لترك الأولى.

وبعضهم يقول: يحتمل أن يكون قال ذلك تواضعًا، أو ما وقع على سبيل السَّهو، أو ما قبل النُّبوة.

وقيل أيضًا: ربما لاشتغاله في بعض الأوقات بمصالح الأُمّة، والنَّظر في جهاد الأعداء ومحاربة الكفَّار، ونحو ذلك من الأشغال والأعمال التي قد ينشغل بها عن الذكر، فيستغفر ربَّه -تبارك وتعالى-، مع أنَّ هذه الأمور من أجلّ العبادات، أعني: الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-، والقيام على مصالح الأُمّة، وتدبير شؤونها، ومع ذلك كان يستغفر -عليه الصَّلاة والسَّلام-.

وهكذا أيضًا فإنَّ الطبعَ- كما يقول بعضُ أهل العلم- ربما يتجدد له شيءٌ من مُوجبات الاستغفار، يعني: كما كان النبي ﷺ يقول: وإنه ليُغان على قلبي، وقد مضى الكلامُ على معنى هذه الجملة، فمثل ابن الجوزي -رحمه الله- يقول:"إن هفوات الطِّباع البشرية لا يسلم منها أحدٌ، والأنبياء -عليهم السلام- لم يُعصموا من الصَّغائر"[5]، كذلك أيضًا فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الأنفال:33]، فذكر أمانين:

الأول: وجود النبي ﷺ.

والثاني: الاستغفار، فالاستغفار: إمَّا من نزول العذاب، فإذا كان هذا ينفع الكفَّار: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، فكيف بأهل الإيمان؟!

وكذلك أيضًا نزول البركات، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۝ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[نوح:10-12].

فالاستغفار يكون سببًا لخيرات الدنيا والآخرة؛ به تُجلب المسرات والانشراح، وبه تُدفع النِّقَم والعقوبات الخاصّة والعامّة، إلى غير ذلك مما ذكره أهلُ العلم.

ولا شكَّ -كما قال بعضُ شرَّاح الصحيح- أنَّ أولى العباد بالاجتهاد في العبادة والاستغفار هم الأنبياء -عليهم السلام-؛ لما حباهم الله -تبارك وتعالى- به من معرفته، يعني: بمعنى أنَّه كلما كان العبدُ بربه أعرف: بصفات عظمته، ودلائل قُدرته، ونحو ذلك من أوصاف الكمال، فإنَّه يعرف أنه لا يُوفي حقّه.

إذا عرف العبدُربَّه، وعرف نِعمه الظَّاهرة والباطنة عليه؛ فإنَّ ذلك يجعل العبدَ يستشعر التَّقصير دائمًا: ما عبدناك حقَّ عبادتك، فيستغفر، ويُجدد التوبةَ دائمًا.

فهؤلاء دائبون في شُكر ربهم، مُعترفون له بالتَّقصير، لا يدلون عليه بالأعمال كما يفعل الجُهلاء، وإنما هي الاستكانة والخشوع.

وقد ذكر شيخُ الإسلام -رحمه الله- أنَّ العباد عمومًا لا بدَّ لهم من الاستغفار، أول العباد، وآخر العباد، كلّ العباد، وقد ذكر الله عن آدم أبي البشر -عليه السلام- أنَّه استغفر ربَّه وتاب إليه؛ فاجتباه ربّه وتاب عليه وهداه، بخلاف إبليس الذي أبى واستكبر؛ فلعنه الله وأقصاه، فمَن أذنب، فتاب وندم فقد أشبه أباه، ومَن أشبه أباه فما ظلم.

يقول: "ولهذا قرن اللهُ-تبارك وتعالى- بين التوحيد والاستغفار في عددٍ من الآيات؛ كما في قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[محمد:19]، وقال: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ[فصلت:6]"[6]، فقرن بين الاستقامة والاستغفار؛ لأنَّ العبدَ مهما فعل فإنَّه لا بدَّ من تقصيرٍ، فيحتاج مع ذلك إلى استغفارٍ.

وذكر في موضعٍ آخر –أعني: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- أنَّ الصديقَ والنبي -عليه الصَّلاة والسلام- يقول:"إنما كملت مرتبته، وانتهت درجته، وتمَّ علو منزلته في نهايته، لا في بدايته، وإنما نال ذلك بفعل ما أمر الله به من الأعمال الصَّالحة، وأفضل ذلك التوبة، وما وُجِدَ قبل التوبة فإنَّه لم ينقص صاحبه، ولا يُتصور أنَّ بشرًا يستغني عن التوبة، كما في الحديث: يا أيّها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرةً[7]، وقال: وإنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة[8]، وكذلك في قوله: اللهم اغفر لي خطئي وجهلي، وعمدي، وكلّ ذلك عندي[9]"[10]، فهذا فيه من الاعتراف بالتَّقصير والذَّنب ما لا يخفى.

وهكذا ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-، وتكلّم وذكر الاستغفار في استفتاح الصَّلاة، وفي خاتمة الصَّلاة، وأنه علَّم أفضل الأُمّة –يعني: أبا بكر رضي الله تعالى عنه- أن يستغفر في صلاته، ويعترف على نفسه بظلمٍ كثيرٍ، وقد مضى الكلامُ على هذا الذكر المتعلّق به.

والله -تبارك وتعالى- أمر نبيَّه ﷺ فقال: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[محمد:19]، في قوله ممتثلًا: "أستغفر الله وأتوب إليه"، والله يقول: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ[الفتح:2].

فيقول ابنُ القيم: "فأهل السَّماء وأهل الأرض محتاجون إلى مغفرته، كما هم محتاجون إلى رحمته، ومَن ظنَّ أنه يستغني عن مغفرة الله فهو كمَن ظنَّ أنه مُستغنٍ عن رحمته، فلا يستغني أحدٌ عن مغفرته ورحمته، كما لا يستغني عن نعمته ومِنَّته، فلو أمسك عنهم فضلَه ومِنَّته ورحمته لهلكوا وعُذِّبوا، ولم يكن ظالـمًا، وحينئذٍ فتُصيبهم النِّقَم بإمساك فضله، وكل نقمةٍ منه عدلٌ"[11]، إلى آخر ما ذكره.

إلى أن يقول: والتوبة لا بدَّ فيها من صدقٍ، بحيث إذا تاب الإنسانُ إلى الله أقلع عن الذَّنب، أمَّا الإنسان الذي يتوب بلسانه، وقلبه مُنْطَوٍ على فعل المعصية، أو على ترك الواجب، أو يتوب إلى الله بلسانه، وتكون جوارحُه في حالٍ من الاستمراء والاستمرار على المعصية؛ فإنَّ هذا لا تنفعه هذه التوبة.

حينما تقول: "أتوب إلى الله"، يجب أن يعزم الإنسانُ على هذه التوبة فعلًا، وأن يعقد قلبَه، وإلا فإنَّه يكون كاذبًا، هذا الذي يقول: "أتوب إلى الله"، وقلبه مُصرٌّ على المعصية، هو مُستمرٌّ عليها، عازمٌ على فعلها كلما لاحت له الفرصة، مثل هذا لم يتب في الحقيقة، وإنما يقول ذلك كاذبًا، ولو عامل أحدًا من البشر بهذه الطَّريقة فإنَّه يكون مُستخفًّا به، مُستهزئًا.

ومن هنا فإنَّ العبد يجب عليه دائمًا أن يُجدد التوبة، وشيخ الإسلام -رحمه الله- كان يقول: "إني في كلِّ يومٍ أُجدد إسلامي، وما صحَّ لي إسلامٌ بَعْدُ"[12].

إذا كثر علمُ الإنسان وعرف ربَّه عرف شدّة التقصير، إذا عرف تفاصيل الصِّراط المستقيم، وشرائع الإسلام بتفاصيلها، وعرف كثرةَ ما يعرض على القلب من العوارض التي تُشوّشه، وتشغله، وتصرفه عن ربِّه وخالقه -تبارك وتعالى-؛ فإنه يحتاج فيكل يومٍ إلى تجديدٍ.

وهذه الصوارف متنوعة: منها ما يتعلّق بالشَّهوات، الشَّهوات التي تتعلق بالنفس، شهوات تتعلق بالغير، هناك أشياء تتعلق بأمورٍ مما يُدنس التوحيد والاعتقاد والإخلاص لله -تبارك وتعالى-: كالرياء والسُّمعة، فهذا يأتي للإنسان في خواطره، في حركاته وسكناته، في صمته وكلامه، يأتيه في ذكره وقراءته للقرآن وصلاته، ونحو ذلك، يحتاج إلى تعاهُدٍ مُستمرٍّ، يحتاج إلى تجديدٍ، يحتاج إلى توبةٍ، وإلى استغفارٍ.

هذه الأعمال التي نعملها في اليوم والليلة، الأعمال الكثيرة من: ذهابٍ، ومجيءٍ، وتجارةٍ، ووظيفةٍ، وأكلٍ، وشُربٍ، ونومٍ، هذه لا تخلو من تقصيرٍ فيما نُعافسه مما تكون فيه المؤاخذة، وفي قلّة الشُّكر أيضًا على ذلك؛ فلو أنَّ الإنسان لم يحصل له مُراده من نومٍ، أو أكلٍ وشربٍ، أو نحو ذلك، فإنَّه يكون في حالٍ أخرى تمامًا؛ لا يطيب له العيش، ثم تتابع عليه أنواع العِلل، يعني: إن لم يستطع النوم فإنَّ ذلك يتبعه أمورٌ أخرى كالأرق، يتبع ذلك أيضًا من الأمور التي ربما تتحول إلى قضايا تستعصي على الأطباء، ومبدأ ذلك هو ذهاب النوم، ومُجافاة النوم عنه، فهذه نِعَمٌ تحتاج إلى شكرٍ.

فإذا تأمّل العبدُ هذا، وتأمّل عباداته القليلة، تأمّل فيها ونظر، مع كثرة النّيات التي تُداخلها المقاصد؛ يحتاج إلى مجاهدةٍ دائمًا، فالعبد يحتاج إلى مجاهدةٍ وهو في بيته، فكيف إذا كان بحضرة الناس؟! فكيف لو كان هذا الإنسان مما ربما يُبْتَلى بشيءٍ مما يستحسنه الآخرون؛ كأن يكون هذا الإنسانُ يُصلي للناس وله صوتٌ حسنٌ جذَّابٌ، تُصلِّي خلفه الجموع، الآلاف المؤلّفة؟! فهذا كيف يستطيع أن يُجاهد نفسَه إذا كان هذا الإنسان قد توجّهت إليه أنظارُ الناس بسبب البريق الإعلامي، والظّهور الإعلامي، والشُّهرة، وما إلى ذلك؟! هذا يحتاج إلى مجاهدةٍ مضاعفةٍ في كل تصرفاته، وحركاته، هذا في النِّهاية قد يصعب عليه أن يزن الحركات، ويزن الخطأ، وحركة العين، وحركة اليد، قد يكون له في كل حركةٍ رياء -نسأل الله العافية-.

فالأمر ليس بالشيء السَّهل، يحتاج العبدُ أن يُجدد إسلامه كل يومٍ، وأن يتوب إلى الله كلّ يومٍ، ويستغفر الله -تبارك وتعالى- مئات المرات؛ لعله أن يصقل قلبه، وأن يرجع، وأن يتوب، وإلا فإنَّه يكون سادرًا في غيِّه، ولو كان في الظَّاهر مُصلحًا، مُعلِّمًا للناس الخير، داعيًا إليه، ونحو ذلك، إلا أنَّ هذه النية تتحول وتنقلب على الإنسان، لا يستطيع أن يضبط ذلك، ما لم تكن له مُجاهدات واستعانة بالله -تبارك وتعالى-.

وكان الربيعُ بن خثيم -رحمه الله- يقول: "لا تقل: أستغفر الله وأتوب إليه، فيكون ذنبًا وكذبًا إن لم تفعل، بل قل: اللهم اغفر لي، وتُبْ عليَّ"[13]، هو نظر إليها باعتبار الجزء الثاني الذي هو: "وأتوب إليه" أنه لم يتب، لكن ينبغي على العبد أن يتوب فعلًا، وليس يقول فقط: "تُبْ عليَّ"، بل عليه أن يتوب، وأن يصدق في هذه التوبة، هذا هو الصَّحيح.

ومناقشات العلماء لهذه الجملة التي قالها الربيعُ يمكن أن يُقال في ذلك هذا التَّفصيل، والله تعالى أعلم.

فالعبد بحاجةٍ إلى أن يدعو ربَّه: "وتُبْ عليَّ"، وكذلك هو بحاجةٍ إلى أن يتوب، من أجل أن يتوبَ اللهُ عليه، لكن لا يكون كاذبًا، بحيث يقول: "إني أتوب إلى الله"، "أستغفر الله وأتوب إليه"، وهو لم يتب.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.

 

 

  1. أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم والليلة، برقم (6307).
  2. أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (591).
  3. أخرجه أبو داود: تفريع أبواب الوتر، بابٌ في الاستغفار، برقم (1516)، والترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول إذا قام من مجلسه، برقم (3434)، وابن ماجه: أبواب الأدب، باب الاستغفار، برقم (3814)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"، برقم (1357).
  4. أخرجه النسائي في "الكبرى"، برقم (10193)، وابن حبان في "صحيحه"، برقم (924)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (2477).
  5. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/101)، و"تحفة الأحوذي" (9/103).
  6. "التدمرية" (ص224-226).
  7. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2702).
  8. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2702).
  9. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم اغفر لي ما قدَّمْتُ، وما أخَّرْتُ))، برقم (6399)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التَّعوذ من شرِّ ما عمل، ومن شرِّ ما لم يعمل، برقم (2719).
  10. انظر: "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/213)، و"مختصر الفتاوى المصرية" (ص112).
  11. انظر: "مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (ص248).
  12. "مدارج السالكين" لابن القيم (1/520).
  13. "ربيع الأبرار ونصوص الأخيار" (2/378).

مواد ذات صلة