الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا الكتاب الذي عُنون له بهذا: "رسالة نقض المنطق" هو على جزئين، أول الكتاب إلى الفائدة رقم (276) من الفوائد المنقولة هنا، هذا يوجد في أول المجلد الرابع من مجموع الفتاوى، وهو المعروف بمفصل الاعتقاد، فهذه بداية هذا الكتاب، الذي هو نقض المنطق، وهو جواب عن سؤال وُجّه لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن مذهب السلف، ومذهب غير السلف من المتأخرين، ما هو الصواب؟ وما هو مذهب هؤلاء ومذهب هؤلاء؟ وما هو مذهب شيخ الإسلام؟ فهو يسأله عن نفسه: إلى أي ذلك تميل؟ وسأله عن أهل الحديث هل هم الفرقة الناجية؟ وهل حدث بعدهم علوم جهلوها، وعلمها غيرهم أو لا؟
فأجاب شيخ الإسلام -رحمه الله- بهذا الجواب، هذا في المجلد الرابع، وتجدون هذا إلى الفائدة رقم (276) من الفوائد التي بين أيديكم.
وما بعد ذلك هو من أول المجلد التاسع من مجموع الفتاوى، المعنون له بكتاب: المنطق، وأوله: سُئل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية -قدس الله روحه-: ما تقولون في المنطق؟[1]، فأجاب.
وفي الهامش يقول ابن قاسم -رحمه الله-: هذا الجواب قسمٌ من كتاب نقض المنطق.
ومجموع الفتاوى لم تشتمل على جميع مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فترك بعض الكتب المشهورة، وكتاب نقض المنطق هو هذا.
وهذا الكتاب -نقض المنطق- الذي أُخرج بهذه الصورة، ليس عنوانه هكذا: نقض المنطق، ولم يكون له عنوان، وإنما هو سؤال وُجّه لشيخ الإسلام، فأجاب، والشيخ محمد حامد الفقي الذي كُتب على غلاف الكتاب: أنه صححه، استشار الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- حينما طبعه في مصر، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم في زيارة إلى مصر، فسأله: ماذا نُسمي هذا الكتاب؟ فاقترح عليه بهذا الاقتراح، وهو أن يسميه: (نقض المنطق) والكتاب هذا -نقض المنطق- عبارة عن قسمين.
ومخطوط هذا الكتاب نسخه أحد طلبة العلم المعاصرين، من المكتبة المحمودية، والذين حققوه الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، والشيخ سليمان الصنيع -رحمهم الله-، وطبعه الشيخ محمد حامد الفقي، وقدّم له مقدمة الشيخ عبد الرحمن الوكيل، وهو من العلماء السلفيين في مصر، ومن العلماء العارفين بالفلسفة، وله عناية بكتب شيخ الإسلام، ودراية بها، فكتب له مقدمة نافعة مفيدة جيدة، تكلّم على القسمين.
لكن الكتاب -نقض المنطق- حينما طُبع، طُبع على أنه كتاب واحد، والقسم الثاني الأخير الذي ذكرتُ لكم آنفًا هو عُنون له في صفحة (155) هكذا: "فصل: وأما المنطق فمن قال: إنه فرض كفاية، وأن من ليس له به خبرة، فليس له ثقة بشيء من علومه"[2]، وهذا كلام الغزالي في الأصل، والغزالي -كما يقول شيخ الإسلام في بعض المواضع- استفز العلماء، فقال: إن من لم يعرف المنطق، فإنه لا يبلغ رتبة الاجتهاد، ولا يوثق بعلومه[3]، فاستفز العلماء، فصاروا يدرسون المنطق، وصاروا يدخلونه في ثنايا كلامهم في أصول الفقه، والتفسير، وشروح الحديث، وفي علوم اللغة، وما أشبه ذلك؛ ليثبتوا أنهم قد حققّوا تلك الرتبة، وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، وحققوا مقتضاها، فهنا لم يصرح بالغزالي، لكنه صرح به في مواضع أخرى.
يقول: فصل: وأما المنطق فمن قال: إنه فرض كفاية، وأن من ليس له به خبرة، فليس له ثقة بشيء من علومه، فهذا القول في غاية الفساد من وجوهٍ كثيرة التعداد[4]، ثم بدأ يرد على هذا القول.
لكن لاحظوا هذا الكتاب من البداية إلى صفحة (154) هذا في السؤال الأول، عن مذهب السلف، ومذهب من بعدهم، وما يرجحه شيخ الإسلام، وعن أهل الحديث هل هم الفرقة الناجية؟
أما ما يتصل بالجزء الثاني، فهذا هو فقط، من صفحة (155) إلى صفحة (211) يعني: حوالي (55) صفحة، كما ترون، فجاء هذا مع هذا، وصار العنوان: (نقض المنطق).
وعلى كل حال فهذا الكتاب برهان ظاهر على تبحر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وإن من يقرأ هذا الكتاب لا يجد إلا شيئًا ينبعث؛ في نفسه وهو أن الله -تبارك وتعالى- فتح عليه من هذه الفتوح، فرزقه هذه العلوم، حتى صار -رحمه الله- يصحح للمؤلفين في المنطق، والمتخصصين به، فيُقوِّم كلامهم، ويقول: هذا القائل لم يفهم كلام أهل الصنعة، يصحح للمناطقة، وليس فقط يرد عليهم، ويرد عليهم من وجوه كثيرة، لكنه في هذا الكتاب تجد تصحيحات لمفاهيم أخطأ فيها بعض المؤلفين والمتخصصين في المنطق، فيقول: لهم ليس الأمر كما فهمتم، وإنما يقصدون كذا، ويقصدون كذا، ويصحح لهم المفاهيم، وينتقد هذا المنطق من وجوه كثيرة، ما كان الناس يدركونها آنذاك؛ ولما ظهر بعض المعاصرين من علماء الغرب من الفلاسفة، وتكلموا على المنطق اليوناني، وما فيه من العيوب والأخطاء، ذكروا بعض ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فكان سابقًا لزمانه.
فالحاصل: أن هذا الكتاب على صغر حجمه، سواءً في قسمه الأول، أو في القسم الثاني، يدل على تبحر شيخ الإسلام -رحمه الله-، فكان يفهم ما قاله هؤلاء، ويصحح لأهل الصنعة، ويرد عليهم من وجوه كثيرة قوية مفحمة، لا يستطيعون الخلاص منها، فإن قالوا: كذا، فهذا يقتضي أنهم كذا، وإذا قال: كذا، فيقتضي كذا، فلا مخرج، فيُبيّن لهم -في الخلاصة والنهاية- أن هذا المنطق لا يُستفاد منه علم يمكن أن يكون الإنسان عالمًا به من العلوم النافعة، سواءً في العلوم الشرعية، أو في العلوم الطبيعية، والتجريبية، والرياضية، والطبية.
ويذكر -كما سيأتي-: بأنه لا يُعرف عالم صار عالمًا بسبب المنطق أبدًا، وذكر المقدمات التي يذكرونها، والبراهين، والطرق التي يسلكونها، وأنها لا تُوصل إلى المطلوب، بحيث تكون حججًا قوية، مفيدة للعلم.
ويقول: بأن بعض من يستفيدون منها، فإنهم إما أن يستفيدوا منها في رد باطل آخر، لكن لما كان هؤلاء غير عالمين بالحق، احتاجوا لمثل هذا الباطل لرد باطل آخر، لكنهم لم يهتدوا إلى الصواب.
وذكر: أنها غير هادية للحق والصواب، وذكر أمرًا آخر: أن من قد يستفيدون منها، فإنهم يستفيدون بالتصرف فيها، وعدم التقيد بها، وما لهم من ذكاء فطري، وما إلى ذلك، فإن مثل هؤلاء ليس بالمنطق بمجرده استفادوا.
ثم ذكر حيرة أهل المنطق، وما انتهوا إليه، وبيّن حكم المنطق، وذكر كلام أهل العلم فيه، وذكر ما أوصل المنطق أصحابه إليه.
والشيخ عبد الرحمن الوكيل -رحمه الله- وصف الشقين في الكتاب، فالقسم الأول من الكتاب يتحدث عن مذهب السلف في الاعتقاد، وصحة نسبة هذا المذهب إليهم، يذكر أقوال أئمة السلف، وأئمة المذاهب الفقهية في هذا الموضوع، ثم يدلل بالنقل والعقل على أن السلف أرباب المعتقدات في الإسلام أعلم وأحكم؛ ولذلك ما قد يوجد في بعض نسخ الحموية: أن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم، وأن من قال: بأن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم[5]، فإنه قد يكون لذلك وجه، فهذا مقحم فيها، وليس بصحيح.
وشيخ الإسلام كلامه كثير في هذا المعنى.
يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل -رحمه الله-: ويبدع ابن تيمية في الحِجَاج حين يذكر ما عابه المفترون على أهل الحديث من قلة الفهم والمعرفة، ويرد على فريتهم، ردًا قويًا محكمًا، مبرهنًا على دقة الفهم، وشمول المعرفة عند أهل الحديث[6].
ثم يذكر المتكلمين مبينًا، وهن اعتقادهم، واضطرابهم، وأنهم أعظم الناس شكًا[7]، وحيرة في النهاية.
ثم يُعرج على حصول العلم في القلب عقب النظر في الدليل، وهل هو بالتولُّد كزعم المعتزلة؟ أم بفعل الله كقول الأشاعرة؟ أم بفيض عن العقل الفعال، كما يهذي الفلاسفة؟"[8]، والعقل الفعال عندهم هو جبريل ، وشيخ الإسلام يذكر إن هذه خرافة، وأن هذا ليس له أصل.
ثم بعد ذلك يبدأ يرد على الفلاسفة، وما بنوه، ويُبيّن الحق الذي جهله الأشاعرة والمعتزلة، ويُبيّن النظر المفيد للعلم، وأنه ما اعتمد على دليل هادٍ، وأن الدليل الهادي لا يكون إلا من القرآن أو من السنة[9].
ثم يتكلم على أنواع النظر، ثم يعود إلى علماء الكلام، ويتكلم على اضطرابهم في الاستدلال، ويصفهم بالتناقض، والتذبذب، وأنهم يأخذون بالرأي مع نقيضه، مقارنًا بينهم وبين أهل الحديث في هذه الناحية.
ويذكر الثبات على العقيدة، وعدم التناقض، والنأي عن الانحرافات، ومزالق الرأي، وأن كل ذلك لأهل الحديث، ثم يتكلم على ما اتّهم به المتكلمون أهل الحديث: من أنهم يقلدون، وأنهم ينكرون لحجة العقل، وأنهم ليسوا بأهل نظر واستدلال، ويرد على هذه التهم بحجج قوية.
ثم يتحدث عن الاتحاديين والجهميين، وعن رأيهم في الوجود الإلهي، وصفاته، ثم يُبيّن أوجه التشابه في هذا الزيغ بين الفريقين، ويتكلم على الغزالي، وعن جنوحه إلى الفلسفة، ثم يُفصِّل مناهج الباحثين في كلام الرسول ﷺ، فيتكلم على أهل التخييل، والتجهيل، والتأويل، فأهل التخييل يعني: الذين يقولون: أن الرسل خيلوا للناس، وأهل التجهيل: الذين يقولون: بأنهم لم يفهموا ولم يدركوا مرامي هذه الأشياء، وكذلك أهل التأويل، مبينًا أن خاتمة المطاف للمؤولة: شك وريبة، وحيرة بالغة.
ثم يتحدث عن الشيعة، وما يدعون من أن علي -رضي الله تعالى عنه- قد خُص بعلوم وأسرار ليست في كتاب الله، ويتحدث عن الكتب المنسوبة إلى أئمتهم، كالجفر وغيره، ويرد عليهم.
ثم يتحدث عن التفسير، وجواز الترجمة، ثم يتحدث عن الملائكة، ثم يتكلم عن الفلسفة الميتافيزيقية، ويرد على هؤلاء بحجج عقلية، ثم يتكلم على من قال: إن الحشوية على ضربين، ويتهم السلف بذلك[10]، ويُبيّن الحق في هذه المسألة، ويتكلم على التوحيد، والتنزيه، والتشبيه، والتجسيم، ويُبيّن حقيقة التوحيد، ويتكلم على مقولة: إن مذهب السلف أسلم، وطريقة: الخلف أعلم وأحكم، ويُبيّن فسادها، وأن السلامة والعلم والحكمة في مذهب السلف، ثم يتحدث عن الفلاسفة والباطنية، وعن زندقتهم في زعمهم أن النبي ﷺ لم يُبيّن الحق المستور في باب التوحيد، ويتكلم على كلام لابن الجوزي يرمي فيه الحنابلة بالتجسيم، ويرد عليه، هذا القسم الأول من الكتاب، الذي هو جواب عن سؤال عن مذهب السلف -رضي الله تعالى عنهم-.
القسم الثاني: المتعلق بالمنطق مباشرة، فهو تحدث عن المنطق، ورد على القائلين: بأنه فرض كفاية، ثم بعد ذلك ذكر ذم علماء المسلمين للمنطق، وأن المنطق لا يكفي في الوصول إلى الحق، وأنه لا يفيد أربابه الإيمان الواجب، بل طالما كان المنطقي زنديقًا، يعني: أنه يورثهم زندقة، وقد يجمع صاحبه بين الإيمان والنفاق.
ثم تحدث عن الأقيسة المنطقية بأنواعها، وعن الحاجة إليها، ثم ذكر أن هذا القياس ينعقد بالفطرة دون حاجة إلى تعلم المنطق، ويذكر أنه خُدع بالمنطق، ثم تبيّن له أنه لا يفيد، ثم تحدث عن أنواع الأقيسة، ومفاهيم هذه الأقيسة عند المناطقة، وعن صلة القياس بالبديهة والفطرة، ثم انتقد مناطقة الفلاسفة، والمتكلمين واليهود، والنصارى في موقفهم من القياس، ثم تحدث عن قياس التمثيل الذي قلنا: إنه قياس الفقهاء، وعن علم ما بعد الطبيعة، وصلة المنطق بالعلوم، وعدم الحاجة إليه في الأمور العملية، وتكلم عن الجوانب النظرية والعملية.
ثم بعد ذلك بدأ يتحدث عن الأصول الثلاثة: التوحيد، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، وبيّن أن السعادة لا يحصلها منطق، ولا حكمة، ولا فلسفة المناطقة، والحكماء، والفلاسفة، وبرهن على أن غير العلم الإلهي ليس فيه يقين، وليس سبيلاً للنجاة، ثم بيّن أن كلام المناطقة إنما ينحصر في الحدود التي تفيد التصورات، والحدود يعني: التعريفات، والتصورات هي نتيجة معرفة الحدود، يعني: الحدود تفيد التصورات، أما الأحكام هي التي يسمونها التصديقات، فالأشياء على أمرين: إما تصورات، وإما تصديقات، فالحدود مفيدة للتصورات، تقول: الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستخرجة من أدلتها التفصيلية، هذا تصور، لكن هل صرت فيه فقيهًا؟ وهل استفدت حكمًا؟ الجواب: لا، لكن حينما تقول: الصلاة واجبة، هذا يسمونه حكم، يعني: تصديق، وهو نسبة شيء لآخر.
فيُبيّن أن كلام المناطقة ينحصر في الحدود التي تفيد التصورات، وفي الأقيسة التي تفيد التصديقات، وأن غالب كلامهم في هذا، فيه تكلف في العلم والقول، وأكثره لغو لا فائدة فيه.
ثم بعد ذلك بدأ يتكلم على زعم المناطقة: أن التصور الذي ليس ببديهي لا يُنال إلا بالحد، ورد عليهم، ثم بيّن فضل منطق متكلمي الإسلام على سواهم من الفلاسفة والمتكلمين من الروم، ثم بعد ذلك تكلم على القياس والقياس المنطقي، وبيّن أن ذلك يكون فطريًا، دون حاجة إلى تعلم، ثم بعد ذلك بدأ يستدل على فساد هذا النوع من القياس بحجج متنوعة.
فهذا الكتاب مطبوع سنة 1370هجرية، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي متى توفي؟ سنة: 1376هجرية، فالشيخ -رحمه الله- واضح أنه أخذ العنوان، أو النسخة التي نقل منها، واطلع عليها هي هذه، فسماه: نقض المنطق، وإلا فالأصل أن شيخ الإسلام ما سمى الكتاب بهذا الاسم.
فهذه المقدمة رأيتُ أنها مهمة؛ لأمور:
أولاً: لأن الكتاب على جزئين.
ثانيًا: أن الكتاب لم يسميه شيخ الإسلام.
ثالثًا: أن مثل هذه المقدمة تُسهِّل علينا فهم القضايا التي ستذكر بعد قليل؛ لأن فيها تلخيص للمضامين، وبخاصة أن كلام شيخ الإسلام هو عبارة عن ردود، وفي سياقات معينة، فأضطر أني أذكر المناسبة، والسياق، حتى يُفهم المراد، فهذه المقدمة لعلها تُسهِّل لنا كثيرًا -إن شاء الله- القضايا التي تُنقل من كتابٍ كهذا.
قال -رحمه الله-:
هذا الكلام حتى نفهم المراد منه، هنا يقول: ذِكْر الله يُعطي الإيمان، وهو أصل الإيمان، والله سبحانه هو رب كل شيء ومليكه[11]، ماذا يقصد شيخ الإسلام بهذا الكلام؟ نحتاج أن ننظر قليلاً في الكلام الذي ذكره قبله، آتي بمقتطفات سريعة منه، كما قلنا لكم: بأن أهل الكلام ماذا يقولون؟ تنازعوا في حصول العلم في القلب عقب النظر في الدليل، فبعضهم يقول: هذا على سبيل التولد من النظر، وبعضهم يقولون: بل ذلك بفعل الله تعالى، يخلقه في قلب العبد عند النظر، أو بعد النظر، وأن النظر إما متضمن للعلم، أو موجب له، وذكر كلام هؤلاء، ثم ذكر كلام الفلاسفة، بأن ذلك يحصل بطريق الفيض من العقل الفعال عند استعداد النفوس لقبول الفيض، والفيض من العقل الفعال يعني: جبريل ، وليس ذلك محل اتفاق بينهم أيضًا؛ لأن ذلك يقوله بعضهم.
فبدأ يرد على هؤلاء، ويناقش مقالات هؤلاء فيما يحصل به العلم، فمن مقتطفات من كلامه حتى نتدرج ونصل إلى هذه الجزئية، يقول: إذا كان النظر في دليل هادٍ كالقرآن، وسَلِم من معارضات الشيطان، تضمن ذلك النظرُ العلمَ والهدى[12]، يعني: لازم أن يكون بدليل هادٍ ويسلم من معارضات الشيطان.
يقول: ولهذا أُمر العبد بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند القراءة، وإذا كان النظر في دليل مضل، والناظر يعتقد صحته بأن تكون مقدمتاه، أو أحداهما متضمنة للباطل، أو تكون المقدمات صحيحة، لكن التأليف ليس بمستقيم، فإنه يصير في القلب بذلك اعتقاد فاسد، وهو غالب شبهات أهل الباطل المخالفين للكتاب والسنة، من المتفلسفة والمتكلمين ونحوهم[13]، ما هي المقدمات التي أقصدها؟ يقصد المقدمات في الدليل المنطقي، ما هي المقدمات؟ مثلاً حينما يقولون: كلُ متحيزٍ فهو مخلوق، الله ليس بمخلوق، إذًا الله ليس بمتحيز، نحن نقول: المقدمة الأولى: كل متحيز فهو مخلوق، هذه فيها مناقشة أصلاً، ما تقصدون بالتحيز؟ هل تقصدون إثبات جهة العلو، والاستواء على العرش؟ فهذه المقدمة غير مسلّمة، فلما يأتي هذا الإنسان ويأخذ هذه المقدمة على أنها مسلّمة، طبعًا المقدمات هذه لا بد أن تكون مسلّمة، حتى يتوصل إلى النتيجة المطلوبة، فهذا حينما يعتقد هذه المقدمة، ويسلِّم بها يصل إلى حق وإلا إلى باطل في النهاية؟ يصل إلى باطل؛ ولذلك كثير من عقائد هؤلاء المتكلمين كانت بهذه الصفة؛ لأنهم بنوا إما على مقدمات فاسدة جميعًا، يعني: كل المقدمات فاسدة، وإما أن إحدى المقدمتين فاسدة، ولو كانت الأخرى صحيحة، وإما أن يكون تركيب المقدمة مع المقدمة الأخرى حتى تخرج النتيجة خطأ، هذه المقدمة غير متلائمة مع المقدمة الأخرى، ولا متسقة معها، فهنا يُورث النتائج الخاطئة.
يقول أيضًا: وأما النظر المفيد للعلم فهو ما كان في دليل هادٍ، والدليل الهادي على العموم والإطلاق، هو كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، فإن الذي جاءت به الشريعة من نوعي النظر هو ما يفيد وينفع ويُحصِّل الهدى، وهو بذكر الله، وما نزل من الحق[14]، لاحظ هذه أصول، يعني: لو أن الشباب يمشون على هذه الجادة في النظر، إن كانوا مؤهلين لهذا النظر، لكن فتنوا الآن بالفلسفات الغربية، وبطريق التقميش، حيث يقرؤون بعض الكتب المترجمة، أو بعض ما يفرزه ويكتبه بعض أولئك المتفلسفين من العرب من المنحرفين الذين تشربوا الفلسفات الغربية، فصاروا يكتبون، وبعضهم يكتب بزعمه من منظور إسلامي، فصار الشباب يتهافتون عليها، وإذا ذهبت إلى معرض الكتاب وجدت تلك الدور يتهافت عليها جموع الشباب والفتيات، وإذا نظرت إلى مضامين ما في هذه الكتب وما حوته، وجدت أنها تحوي ألوان المغالطات والباطل، لكنهم لم يكن عندهم من العلم والمعرفة بما جاء به الرسول ﷺ، والبصر الكاشف الذي يميزون به بين معدن الحق والشبهات، فيحصل لهم بسبب ذلك تلبيس، فتقع الانحرافات، فيبدأ يشك، ويغالط ويسفسط في أمور هي من قبيل المسلمات، يحصل له سفسطة، أو أنه ينحرف بالكلية، فيسلك طريقًا آخر؛ لأن الطريق التي ركبها والأدلة التي تشربها لا تُوصل إلى المطلوب، إنما يوصل إليه -أعني: الهداية- الوحي: الكتاب والسنة؛ ولهذا يمكن أن يقال: أخبرني ماذا تقرأ أخبرك من أنت؟ فإذا كنتَ تقرأ لمثل محمد عابد الجابري، وإلا أركون، وأمثال هؤلاء، فإن النتيجة معروفة من الآن، وبعض الناس لربما يفعل هذا حبًا في التجديد أو الإغراب أو التغيير، كما يفعل بعض الطيبين الذين نشأوا في بيئة صالحة، من ناحية السلوك العملي، فهؤلاء كثيرًا ما يتطلعون إلى شيء آخر من الناحية السلوكية من باب قطع المألوفات، وتغيير الشيء المعهود الذي ألفوه ونشأوا عليه، بخلاف أولئك الذين نشأوا في بيئات أخرى غير منضبطة مع الشرع، فتجد هؤلاء أشد إقبالاً على العلم الشرعي، وأشد إقبالاً على الخير، والعمل الصالح، ويتلقفون ذلك ويتشربونه، وإن شئتم أسألوا القائمين على المحاضن التربوية، يأتونكم بالنبأ اليقين، فهؤلاء أيضًا الذين نشأوا في أوساط الأخيار والصالحين من أبناء المحاضن التربوية لما يأتيهم مثل هذه الفلسفات الغربية، وأحيانًا بلبوس إسلامي يرون أن هذا طرح جديد، ما عهدوه من شيوخهم، ومن هذه البيئات التي نشأوا فيها، وتلقوا عنها، فيجذبهم ذلك ويأسرهم فيفتنون بهذا، هذا ملحظ مهم في سبب تهافت الكثيرين على مثل هذه الفلسفات، وبعض الناس يريد أن يتميز ولو بالانحراف، ثم يوغل أحيانًا، ويصل إلى أمور بعيدة جدًا، قد يمرق معها من الإسلام بالكلية، نسأل الله العافية.
فالحاصل: أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: وأما النظر المفيد للعلم: فهو ما كان في دليل هادٍ، والدليل الهادي -على العموم والإطلاق- هو كتاب الله وسنة نبيه[15]، إلى أن يقول: وكذلك إذا كان النظر في الدليل الهادي وهو القرآن قد يضع الكلم مواضعه، ويفهم مقصود الدليل، فيهتدي بالقرآن، وقد لا يفهمه، أو يُحرف الكلم عن مواضعه، فيضل به، ويكون ذلك من الشيطان، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82][16]، يعني: بعض الناس قد ينظر في الدليل الهادي، ولكن شياطين الأنس والجن يصرفونه عن الحق الذي دل عليه، فيحصل له سوء فهم، وغلط وانحراف، كما قال الله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26] وقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:124-125] وقال: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44] نسأل الله العافية.
ثم يذكر أن الناظر في الدليل الهادي، كالمترائي للهلال، قد يراه، وقد لا يراه لعشىً في بصره، وكذلك أعمى القلب[17] قد لا يرى الدليل، وقد يراه.
يقول: وأما الناظر في المسألة فهذا يحتاج إلى شيئين: إلى أن يظفر بالدليل الهادي، وإلى أن يهتدي به فينتفع، فأمره الشرع بما يوجب أن ينزل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة، وهو ذكر الله تعالى، والغفلة عنه[18]؛ ولذلك ذكرتُ في بعض المناسبات، ولربما يأتي درس خاص بعنوان البصيرة في الدين، أن هذه البصيرة حينما تشرق النفس، ويشرق القلب بالإيمان، ويكون القلب والجوارح واللسان معمورًا بذكر الله بأنواعه الثلاث، فإن ذلك يكون عونًا للعبد على معرفة الحق والصواب، إذا وجد معه الإخلاص، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] فالإخلاص سبيل للخلاص، فيخلص من الشبهات والشهوات؛ ولهذا لعلي ذكرتُ في بعض المناسبات كلام بعض الأئمة في بعض من نظر في قضاياه من القضاة، قال: لما رأى ذلك صوابًا قال: إن هذا وأمثاله يعان على الصواب في الأحكام القضائية بقيام الليل، فالوقوف على الصواب قد لا يتحقق للإنسان لأسباب، فلذلك قد يبحث الإنسان المسألة ويدرسها، ثم يذهب ويتبجح على قناة فضائية، ويقول: هذا المسألة قتلناها بحثًا، ثم يأتي بنتيجة معكوسة، فيقال: ليتك ثم ليتك ما درستَ، فما كل من بحث ودرس يصل إلى الصواب، ثم يذكر هذا الكلام الذي سمعتموه.
فإذا قرأناه الآن مرة ثانية: وذِكْر الله يعطي الإيمان، وهو أصل الإيمان -ذكر الله بالقلب واللسان والجوارح- يعطي الإيمان[19]، يعني: هذه أمور متلازمة، ونحن نريد أن نصل إلى الصواب، فهذا الإنسان قد يقف على الدليل الهادي، ولكنه لا يفهم المراد منه، ولا يهتدي به، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44].
قال: والله -سبحانه- هو رب كل شيء ومليكه، وهو معلمُ كل عِلْم وواهبه، فكما أن نفسه أصل لكل شيء موجود -يعني: أنه هو الخالق للموجودات- فذكره والعلم به أصل لكل علم[20]، ذكر الله تعالى، وذكره في القلب والقرآن يُعطي العلم المفصل، فيزيد الإيمان -كما قال جندب وغيره من الصحابة-: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا[21]، معناه: أن الحق لا يوصل إليه بالمنطق، ولا يوصل إليه بمجرد النظر الذي قال عنه المتكلمون: بأن الحق يتولد عند النظر، أو قول الفلاسفة: بأنه يفيض من العقل الفعال، أو غير ذلك، وإنما الهدى والعلم الصحيح يحصل بالنظر في الدلائل الهادية، وهذه الدلائل الهادية النظر فيها وحده لا يكفي، بل لا بد من أمر آخر: من إخلاص العبد، وارتباطه بربه -تبارك وتعالى-، وسؤال الهداية منه، اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم[22]، يعني: العبد بحاجة إلى هذا؛ ولهذا كان شيخ الإسلام يقول: إنه يقرأ في الآية الواحدة أكثر من مائة تفسير[23]، ثم بعد ذلك يذهب إلى بعض المساجد الخربة المهجورة في دمشق، ويمرغ وجه في التراب ويسجد، ثم يقول هذا: اللهم رب جبرائيل وميكائيل[24] إلى آخره، أكثر من مائة تفسير، تظنون هذا العلم جاء من فراغ؟! نحن لما نبحث المسألة أحيانًا من عشرة كتب، لا زلتُ أذكر أستاذًا -جزاه الله خيرًا على جهده- درسنا ونحن في السنة الثانية في الكلية، حيث كان يقول: أنا أحضر لكم من اثني عشر كتابًا، اثنا عشر كتابًا في تخصصه ويعتبرها كثيرة، وشيخ الإسلام يقرأ مائة تفسير، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- يقول: لا توجد آية في القرآن إلا درستها على حدة[25]؛ ولذلك الإنسان على الأقل مثلي كل ما غفل، أو نسي نفسه، أو نحو ذلك، أسمعُ مقطعًا من كلام الشنقيطي مسجلاً فأفيق، وأعرف أننا لا نصلح خدمًا لهؤلاء، ولولا أن يقال: هذا تواضع لقلتُ أكثر من هذا، لكن على كل حال اسمعوا دروسه المسجلة -رحمه الله-، تعرفون أين العلم؟
وإذا قرأتم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تتذكرون كلام مسروق: جالست أصحاب محمد ﷺ وكانوا كالأخاذ، الأخاذ يروي الراكب، والأخاذ يروي الراكبين، والأخاذ يروي العشرة، لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، وإن عبد الله من ذلك الأخاذ[26]، فشيخ الإسلام -رحمه الله- لو نزل به أهل الأرض لوسعهم، يغترف من بحر -رحمه الله رحمة واسعة-.
اتضح هذا الأمر الأول إذًا، وهي قضية مهمة في الوقوف على الحق والصواب، لا بد من أمرين: الأدلة الهادية، وأيضًا هناك أمور تقوم بالعبد تكون سببًا للتوفيق للحق والصواب والمعرفة، والوقوف عليه، لا بد من هذا؛ ولهذا نقول: العمل الصالح واللجأ إلى الله والدعاء والصدق والإخلاص، كل هذه أسباب ليكون الكلام عليه نور، ويكون له قبول، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].
هذا تابع للكلام الذي قبله، وهو: "العبد مفتقر إلى ما يسأله من العلم والهدى، طالب سائل، فبذكر الله والافتقار إليه يهديه الله" فلما وقف على الدليل الهادي عندئذٍ هو مفتقر إلى أمر آخر، وهو هداية الله له، هذه الهداية كيف تحصل؟ تحصل بالأمور السابقة: الدعاء، والعبادة، والخروج من حوله وطوله، فلا يقول: أنا بفهمي وبذكائي وبمهاراتي، وببحثي المتواصل، وباطلاعي الواسع، فإذا نظرت إلى هذا، ونظرت إلى من ينحرف من أبنائنا هذه الأيام بهذه الفلسفات، تقول: أين هذا من هؤلاء؟ لا بحث بدليل هادٍ، ولا سلوك الطريق الصحيح أصلاً، ولا معه عبادة، وما أن يحصل لأحد من هؤلاء شيء من هذه الانحرافات، حتى يبدأ بالجفاف، وتبدأ اللحية تخف شيئًا فشيئًا، حتى تضمحل وتتلاشى، ثم بعد ذلك المظاهر كلها تبدأ تتلاشى، والتهاون في الصلاة، وفي العبادات وذكر الله لسانه جاف، لا يذكر ربه، ونحن لا نعرف إلا أن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، فهذا الذي جف لسانه من ذكر الله أبعد ما يكون عن تحقيق العبودية، ويريد أن يصل في القضايا الكبار إلى الحق والصواب، ولم يسلك الطريق الموصل إليها من جهتيه، كيف يصل هذا؟ فتجد هذا يسقط من هنا، وهذا يسقط من هنا، وهذا يأتيك بأمور فجة، ما سُبق إليها، وحماقات وأشياء لو صورت بصورٍ على حقائقها، ولو صورت المقالات بصور تستحقها، وتجسدت بصور تستحقها، لهالت قائلها، ومن سمع بها.
فعلى كل حال الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي يقول: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم[27]، فالعبد مفتقر إلى هداية الله ، فلا بد من هذين الأمرين، حتى يصل الإنسان إلى الحق، لا بالنظر الكلامي، ولا بما يقوله أهل الكلام: أن هذا يحصل بمجرد النظر، أو يتولد أو يفيض.
لا بد أن يكون عند الناظر من العلم المذكور -الآن ينظر هو في الدليل الهادي- فلا بد أن يكون عند الناظر من العلم المذكور الثابت في قلبه ما لا يحتاج حصوله إلى نظر، فيكون ذلك المعلوم أصلاً وسببًا للتفكر الذي يَطلب به معلومًا آخر، يعني: مثلاً الآن الفطرة موجودة، وهي مقرة مثلاً بوجود الله ، ووحدانيته، أليس كذلك؟ فمثل هذا يستدل به على أمور أخرى، فخديجة لما جاء النبي ﷺ ترعد فرائصه، أول ما نزل عليه الوحي، ماذا قالت؟ قالت: كلا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل[28]، إلى آخر ما قالت، بماذا استدلت؟ هذه طريقة عالية في الاستدلال، لا تحصل لأكثر الخلق، أن يستدل بما عرف عن الله من أسمائه وصفاته على مجريات الأمور، وما سيقع وما سيحدث، تقول: لا يمكن أن يحصل كذا، ومن أين عرفت أنه لا يمكن؟ مما عرف من أسماء الله وصفاته، فخديجة -رضي الله عنها- استدلت بهذا النوع من الاستدلال، وهذا النوع من الاستدلال يكون لمن كان راسخًا في الإيمان.
وهناك طريقة هي لعامة الخلق وعامة الناس، وهي أن يستدلوا بما يرونه من الجبال والسماوات والأرض، وهذا الذي تجده يرشد إليه القرآن كثيرًا، فيقول: انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس:101] أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20] فيرشدهم إلى هذه الأمور التي هي آيات ودلائل على قدرته ، وأنه الخالق والقادر والذي يستحق العبادة وحده، دون ما سواه، فيستدلون بهذه الأشياء المشاهَدة على أمر آخر، والمتكلمون وهم على طريقة الفلاسفة المعاصرين من الغربيين الذي يسمونه التجرد المطلق عند النظر والاستدلال، يعني: ألغي ما عندك، كما قلنا في كلام الرازي من قبل: بأنه يتخلص من فطرته، يقول: لأن الفطرة تُؤثر عليك، كيف يتخلص الإنسان من الفطرة؟ فهناك أشياء مستقرة أودعها الله في قلوب العباد، فهذه الأمور الفطرية يستدل بها على أمور أخرى غائبة، أهل الكلام يريدون أن يكون ذلك جميعًا من لا شيء، ومن ثم فإنهم يشتغلون بتقرير الواضحات والاستدلال لها، وإثباتها، فيطول الكلام.
لأنه سبحانه هو الحق، الله -تبارك وتعالى- يقول: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] فالذكر متعلق به، ولكن التفكر يكون بماذا؟ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً [آل عمران:191] فهنا يستدلون بهذا الشيء المشاهد على أمر غائب، فالتفكر يكون بمخلوقات الله ، ولا يكون بالله؛ لأنهم لا يدركون كنه الصفات ولا الذات، ومن ثم فلا مجال للتفكر بالله -تبارك وتعالى-، وإنما يتعلق به الذِكْر، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [آل عمران:191] فلم يقل: ويتفكرون به، وإنما قال: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران:191] فالتفكر يكون بهذه الأشياء المشاهدة؛ ليتوصل بها إلى أمور غائبة.
التفكير والتقدير يكون في الأمثال المضروبة، والأشياء التي يعرفها الناس، ويشاهدونها، فيلحق المجهول بالمعلوم؛ ليتوصل إلى حكمه، ويتعرف عليه، أما الله -تبارك وتعالى- فلا يجري عليه ذلك؛ لأنه لا يجري عليه لا قياس شمول، ولا قياس تمثيل، إذا قلتَ: كل كذا فهو كذا، هذا ما يجري على الله ؛ لأنه لا يقاس بالمخلوقين، وكذلك قياس التمثيل الذي هو إلحاق فرع بأصل، فالنبيذ مسكر نلحقه بالخمر بعلة الإسكار، والخمر معلوم الحكم، فنلحق فرع بأصل في حكمه؛ لعلة جامعة بينهما، فنعرف حكم النبيذ الذي هو مجهول عندنا، ولم يرد نص عن الشارع فيه، فنلحقه بأمر معلوم عن الشارع، الذي هو الخمر، فهنا يجري فيه.
وكذلك ما يحصل من الاعتبار في غير الأحكام الشرعية، في ما ذكر الله في الأمثال المضروبة، والقصص التي أخبر الله فيها عن أقوام أهلكهم، أو عذبهم، أو أن الله -تبارك وتعالى- قصّ علينا أخبار من أنجاهم، فمثل هذه الأمور إنما تُذكر للاعتبار، فينتقل المكلف من النظر فيها إلى حاله وحال أهل زمانه؛ لئلا يقع بهم ما وقع بأولئك الذين عاقبهم الله، وعذبهم، فهذا الذي يحصل به الاعتبار، ويكون ذلك بنوع قياس؛ ولهذا قيل: العاقل من وُعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، هذا الذي يسمونه الاعتبار؛ ولهذا قال الله : فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2] ولذلك تجدون في كتب أصول الفقه عند الكلام على الاستدلال على القياس يذكرون هذه الآية من القرآن، في بيان أن أصل القياس دل عليه القرآن.
هذا مما كتبه في نقض المنطق، الجزء الآخر يقول: "لا تجد من يلزم نفسه أن ينظر في علوم المنطق، ويناظر به، إلا فاسد النظر والمناظرة، كثير العجز عن تحقيق علمه وبيانه" لماذا؟ لأن مَن هذه حاله فإنما أوتي من نفسه بترك ما أمر الله به من الحق، حتى احتاج إلى الباطل، هذا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-؛ لأن مثل هذه القوانين، والقوالب، والمقدمات، هي مقدمات لا تخلو من إشكالات، ومن ثم فإن من سلكها وتقيّد بها، فلا يمكن أن توصله إلى الهدى المطلوب، ولو كانت توصل إلى الهدى المطلوب لكان أهدى الناس بذلك أهل المنطق والفلسفة، ومعلوم أنهم أضل الناس، وما أوصلهم ذلك إلا إلى الحيرة، وذكرنا طرفًا من كلامهم الذي يقول: أضع الملحفة على وجهي، وأصابح الصبح، وأقلب بين أقوال هؤلاء وهؤلاء، ولا أخرج بنتيجة، والذي يقول:
نِهايةُ إقدامِ العُقولِ عِقالُ | وغاية سَعي العالمين ضلالُ |
وأرواحنا في وحْشةٍ من جسومنا | وغاية دنيانا أذىً ووبالُ |
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا | سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا[29] |
وهكذا الذي يقول: أموتُ على عقيدة عجائز نيسابور[30]، ورجوع هؤلاء الكبار أمثال: الغزالي، والجويني، والرازي في وصيته يدل على ذلك، وهي وصية واضحة وصريحة -إن ثبت ذلك- فهي تدل على رجوعه، وغير هؤلاء رجعوا عنه، وتركوا هذه الأمور التي لا توصلهم إلى مطلوب، والغزالي مات والصحيح البخاري على صدره[31].
والسيوطي -رحمه الله- في كتاب الحاوي له في الفتاوي، نقل أقوال العلماء في تعلم المنطق، وهو يرى تحريم تعلم المنطق، وأنه من العلوم الرديئة الفاسدة، فعزا ذلك للشافعي؛ لأن الشافعي يقول: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يطاف بهم بالعشائر والأسواق، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، واشتغل بالكلام المذموم"[32]، فما الذي أوقعهم في هذه العلوم الكلامية إلا دراسة المنطق؛ لأنه لما تُرجمت كتب الفلسفة، ومنطق اليونان، تهافتت عليها الطوائف -الفرق- من أجل أن يُثبّتوا مذاهبهم في الاحتجاج، وكذلك في الجدال والرد على الطوائف المخالفة لهم، فاشتغلوا بالقيل والقال والجدال، فأورثهم ذلك اضطرابًا وحيرةً، أو كما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها | حقًا، وكل كاسر مكسورُ[33] |
نسأل الله العافية، ليس عندهم شيء يحصل به اليقين والإيمان الثابت الراسخ، وأنا أخشى اليوم أن هذه المماحكات والجدالات الموجودة اليوم في هذه الوسائل الحديثة -تويتر وغيره- مع قلة العلم والبصر، وجدل صاخب، وكل أحد يتكلم كما يريد، وكما يحلو له: أن تُورث هؤلاء ألوان الضلالات أعظم مما وقع للمتقدمين؛ لأن المتقدمين -على الأقل- كان عندهم من المعارف والعلوم المنطقية والجدلية، وما إلى ذلك، ما يستطيعون به -على الأقل- أن يجادلوا، وأن يبقى عندهم بعض الحق، كما قال شيخ الإسلام: لما جهلوا الحق الذي جاء به الرسول احتاجوا إلى الباطل، فاستفادوا في رد باطل أعظم منه أحيانًا، لكنهم لم يهتدوا إلى الحق والصواب، لكن لا هذا ولا هذا، وهو مجادلات ومماحكات، فماذا يُتوقَع؟ يخشى أن يصل هؤلاء الناس إلى أمور عظيمة -نسأل الله العافية-، ونحن في أوائل ذلك، والله أعلم عما ستبينه الأيام والسنون، أو السُنيات القادمة، نتيجة لهذا الجدال الذي لا يُبنى على أساس أصلاً.
على كل حال فالسيوطي نَقَلَ أقوال هؤلاء من الشافعية: الشافعي، وإمام الحرمين، والغزالي في آخر عمره، وابن الصباغ، وابن القشيري، فهؤلاء كلهم يقولون: بتحريم علم المنطق، ونصر المقدسي، والعماد بن يونس وحفيده، وابن بُندار، والسلفي، وابن عساكر، وابن الأثير، وابن دقيق العيد، وابن الصلاح، والجعبري، وأبو حيان، والدمياطي، والذهبي، والطِّيبي، والملوي، والإسنوي، والولي العراقي، والمناوي[34]، وغيرهم.
ومن المالكية: نَقَلَ ذلك عن ابن أبي زيد صاحب الرسالة، وابن العربي، والطرطوشي، والباجي[35]، مع أن الباجي في بدايةً هو أول من نقل العقائد الكلامية إلى بلاد المغرب، وكانوا على عقيدة السلف؛ ولما رأى ذلك ابن العربي وهو صغير، وكان طرحًا جديدًا تاقت نفسه إلى لقيا أولئك الأكابر في نظره آنذاك، من أمثال الغزالي؛ ليأخذ ذلك من مصادره الأصلية، يعني: لا يريد يأخذ عن الباجي الذي نقل العلوم الكلامية من المشرق، وإنما أراد أن يصل إلى هؤلاء بنفسه، وأن يأخذ، فجاء إلى الحج وهو صغير مع أبيه، ثم ذهب إلى العراق، والتقى بالغزالي، وأخذ عنه، فانتقلت العلوم الكلامية إلى بلاد المغرب، وكانوا على عقيدة السلف، فانتشرت الأشعرية هناك في أتباع مذهب الإمام مالك -رحمه الله-.
والمقصود: أن ممن يرى التحريم من المالكية: ابن العربي، والطرطوشي، والباجي، وأبو طالب المكي، وابن الحصار، وأبو عامر بن الربيع، وأبو الحسن بن حبيب، والمالقي، وابن المنير، وابن رُشد، مع أنه فيلسوف، وذكر أن هذا عامة أهل المغرب[36].
ومن الأحناف: نقل عن السرافي، والقزويني، والقزويني له كتاب اسمه (نصيحة المسلم المشفق لمن ابتلي بالمنطق)[37].
ومن الحنابلة: نقل عن ابن الجوزي، وجماعة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[38]، فكل هؤلاء يقولون: بتحريم دراسة المنطق.
والذين يقولون: إنه لا بأس أن يدرس علم المنطق من أجل فهم أصول الفقه، أنا أقول: لا حاجة لهذا، والصحيح أن المعلم الذي يكون موفقًا في التعليم يشرح لهم الكتاب، ويبين لهم المراد بأقرب طريق، وكثير من هذه العبارات والمصطلحات التي يظن أن تحتها شيء، ينكشف الحال على أنها لا تنطوي على كثير علم، وأن الجهل بها لا يضر، فلا يحتاجون إلى دراسة خاصة للمنطق.
والحنابلة لما وضع ابن قدامه -رحمه الله- في أول كتابه (روضة الناظر) المقدمة المنطقية، عابوا ذلك، ولاموه؛ ولهذا لا يوجد في بعض النسخ الخطية للمقدمة، فلعله حذفها بعد ذلك.
شيخ الإسلام يقول: أن العلوم الدقيقة تحتاج إلى ذكاء وفطنة، سواءً كانت حقًّا أو باطلاً، الحق مثل ماذا؟ الاستنباطات الدقيقة يستخرجها العلماء، بقدر ما أعطهم الله وحباهم من الفطنة، والذكاء، والنباهة، ولطافة الذهن، وما يوفقهم إليه، ويفتح عليهم من العلوم، هذا الحق.
والعلوم الدقيقة الباطلة مثل علم المنطق، فهو علم دقيق؛ ولذلك فإنه صعب، وكثير من الناس يطلب التميز، فهؤلاء الذين يتعلمون هذه العلوم، أو يكونون من الحذاق في علم المنطق، ينظرون إلى غيرهم على أنهم جهلة، ومن العوام، وما يفهمون؛ ولهذا فالذين ابتلوا من الطوائف بدراسة العلوم المنطقية والفلسفية والكلامية، ينظرون لأهل السنة وأهل الحديث أنهم حشوية، وأنهم عامة، وأن ما عندهم إلا علم الجمهور، الذي ليس من هذا القبيل، وهكذا من يخوض اليوم بهذه الفلسفات الحديثة هو يريد أن يتميز بها، وقد يُقبل عليها بعض الأذكياء طلبًا لهذا المعنى، فالآن هم يُجهّلون من لا يعرف هذه الأشياء، يقولون: العلم التقليدي، وشيخ تقليدي، ما يفهم هذه الأشياء، وإذا كانوا يترفعون بهذه العلوم المنطقية، وأن من لا يعرفها فهو جاهل، ورد على هذا إشكال، تفطن له بعضهم، وهو أن الأنبياء ما يعرفونها، والنبي ﷺ ما كان يعرفها، طبعًا لما تقول لهم: الصحابة! يقولون لك: نعم ما كانوا يعرفونها؛ لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد، وقالوا عن الصحابة كلامًا قبيحًا، فالوقيعة في الصحابة ليست جديدة، فهنا لما ورد على أذهانهم: إن هذا الكلام يرد على الأنبياء؛ لأنهم لا يعرفون المنطق، وأشرفهم محمد ﷺ، فوقعوا في أشكال، وهو الذي يتحدث عنه شيخ الإسلام هنا، بعد فاصل من الكلام السابق، في حذف.
النفوس القدسية كنفوس الأنبياء والأولياء، كما في كلام شيخ الإسلام في الأصل، يقول: كنفوس الأنبياء والأولياء تفيض عليها المعارف بدون الطريقة القياسية[39].
يعني: هم يتهمون من لا يعرف هذه العلوم بأنه جاهل، طيب والأنبياء؟ قالوا: لا، نستثني إذًا، فنقول: إن هذه النفوس القدسية تفيض عليها معارف، فيكون ذلك من قبيل الفيوض، يعني: لا يصلون إليها بهذه الطرق القياسية في الاستدلال والنظر، طيب إذًا أقررتم واعترفتم أن من العلوم والمعارف ما لا يوزن بموازينكم، ولا يقاس بمقاييسكم، فهذا يطيل في الاحتجاج عليهم في ذلك.
هو يحتج عليهم بكل اتجاه، يقولون: الذي لا يعرف المنطق جاهل، طيب والأنبياء؟ قالوا: الأنبياء نستثنيهم، نقول: النفوس القدسية هذه يمكن تحصل العلم بغير هذه الطريق، فقال لهم: إذًا في طريق آخر، يوصل إليه من غير قياسكم هذا المنطقي، طيب هؤلاء الأنبياء تقولون: أنهم على حق، أو لا ندري أنهم على حق أو على باطل؟ إن قلتم: إنهم على حق، فإن موازينكم هذه لا يمكن أن تقيس علومهم، إذًا من الحق ما لا يوزن بميزان المنطق الذي جعلتموه كل شيء، فإذا قالوا: التي جاء بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا ندري أحق هي أم باطل؟ إذًا هذه المعايير والمقاييس في المنطق ما أوصلتكم إلى نتيجة، فتوقفتم في علوم الأنبياء، هل هي حق أو باطل؟ إذًا ما فائدة هذا المنطق الذي ما يوصل إلى نتيجة، هو في الكتاب بهذه الطريقة، تنبهر وأنت تقرأ، يرد عليهم بكل الاتجاهات، وهكذا فعل مع الرافضي، وقبله الرازي، يرد عليهم بطرق تقول: إن هذا الرجل أعطاه الله من الفتوح شيء هائل، وأنا أقرأ وأقول في نفسي: إن لم يكن هذا من أعظم وأكبر المجددين في ذلك الوقت، فلا أدري من يكون!
هو يقول: إذًا موازينكم هذه ما أوصلت إلى نتيجة في علوم الأنبياء، إما أنها حق، فموازينكم لا تعمل فيها، وإما أنكم تتوقفون فلا تدرون هي حق وإلا باطل؟ إذًا موازينكم ما أوصلتكم إلى مطلوب، فيقول: الموازين التي وضعت للذهب ما يوزن فيها الحطب، وإنما يوزن فيها الذهب، فكل شيء له ميزان، فميزانكم هذا لم يعد صالحًا لوزن علوم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
ويقول: فإذا لم يكن في منطقكم ميزان له، كان الميزان عائلاً جائرًا، وهو أيضًا عاجز، وأنتم جعلتم هذا الميزان أصل للهدايات، والوصول إلى المطلوب ولا يمكن أن يعمل في هذا النوع، الذي هو أصل الهداية، إذًا ماذا يقال عن ميزانكم هذا؟ إنه ميزان عائل جائر، يعني يقولون: ميزاننا لا يعمل في هذا القسم، الذي هو علوم الأنبياء، إما أنها حق، وهو لا يعمل بها، وإما أن ما جاء به الأنبياء لا تدرون أنه حق أو باطل؟ فميزانكم لم يكشف عنه، فيقول: ميزانكم هذا معطل إذًا، في هذا النوع، ولم تستطيعوا أن تصلوا معه إلى مطلوب، فهو ميزان عائل جائر، لا يصلح.
يقول: فإذا لم يكن في منطقكم ميزان له كان الميزان عائل جائرًا، وهو أيضًا عاجز.
هو يرى أن المنطق -باختصار- كلحم جمل غث، على جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل[40]، فهو مقدمات طويلة، وكلام كثير، وصعب ومعقد، والنتيجة: ما تسوى العنوة، كما يقال، لحم جمل غث هزيل، على جبل وعر، لا هو سهل فتصل إليه، وتأخذ هذا اللحم، وليس هو أيضًا سمين وجيد وقوي، فينتقل إلى مكان آخر، الوصول إليه صعب، وانتقاله صعب، على قلة شأنه، وعدم جدواه.
هو بها هو، يعني: بهذه الحقيقة التي يتميز بها في الخارج، وتلك ليست كلية، يعني: هي قضية جزئية، الآن ما هي القضية الكلية؟ القضية الكلية مثلاً حينما يقال: كل موجود فهو حي، هذا ما يصلح، كل متحرك فهو حي، هذا ما يصلح، لاحظوا المقدمات الفاسدة التي أشرتُ إليها، فأحيانًا يعتقدها، فيبني عليها، ويصل إلى حكم فاسد، لو قال: كل كائن فهو حي، هذه مقدمة غير صحيحة، كل متحرك فهو حي، أو كل مريد فهو حي، طيب جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف:77] إذا قلنا: بأن الجدار له إرادة، فتكون المقدمة عند هذا القائل غير صحيحة، ولو قيل: كل مخلوق له خالق، هذه صحيحة، كل مخلوق فهو حادث، كائن بعد إن لم يكن، هذه مقدمة كلية، هذا الحكم الكلي هو في الذهن، كل مخلوق فهو محدث، أو بحاجة إلى خالق، هذه قضية ذهنية، فلا بد من أمر آخر، فنقول مثلاً: فارس مخلوق، إذًا هو محدث، يعني: القضية الذهنية هذه الكلية تحتاج أن تنزلها على الخارج، فإذا انتقلت من حكم الذهن الكلي هذا إلى الخارج، فهنا صار لكل فرد من الأفراد ما يخصه.
لذلك قلنا لكم من قبل: بأن الوجود إما ذهني، وإما ذكري باللسان، وإما رسمي بالكتابة، وإما خارجي، فإذا قلتَ مثلاً: بأن كل متحرك فهو حي، هذه صحيحة وإلا غير صحيحة؟ غير صحيحة، في شيء يتحرك وهو ليس حيًا؟
السيارة، طيب كل متحرك مريد مثلاً، أو كل صاحب إرادة فهو حي، نأتي للجدار، كل نامنٍ فهو حي، يأتينا النبات، لاحظ المقدمات في المنطق بهذه الطريقة، يقول أهل المنطق: كل متبعض فهو مخلوق، كل متبغض هذا حكم كلي ذهني، لكنها قضية فاسدة، هم ماذا يقصدون بها؟ نفي الصفات الذاتية غير المعنوية عن الله ، مثل الوجه واليد، وما أشبه ذلك، هذه مقدمة فاسدة، جاءوا بها من أين؟ من قياس الخالق على المخلوق، فيقيسون أشياء بهذه الأقيسة، وأقبح من هذا أقيسة أحيانًا متهافتة، ما لها قيمة، مثل: الشهاب المصلوب -هذا صاحب علم السيمياء-، يقيس السماء على سقف البيت، حتى يكتشف أن السماء حادثة، مخلوقة بطريقة غثة، فهو يثبت أن السماء مخلوقة، فيقيسها على سقف الدار، هذه علومهم.
فالشاهد هنا أن القضية الكلية هي قضية ذهنية، فلما نقول: كل ناطق فهو حي مثلاً، ويمكن أن تعارضوا أنتم في كل هذه المقدمات، ضع مقدمةً -كما تريد- من هذه المقدمات الكلية، فيكون هذا حكمًا ذهنيًا، فإذا نزلته على أحد في الخارج، فهذا يسمونه الحكم الخارجي المعين، فهنا حينما يكون معينًا لا بد أن يقوم به من الأوصاف ما يليق به.
فيقول هنا: أهل المنطق متفقون أنه لا يفيد إلا أمورًا كلية مقدرة في الذهن، لا يفيد العلم بشيء موجود محقق في الخارج، إلا بتوصل شيء آخر غيره، يعني: بتنزيل هذا عليه، ثم بعد ذلك ينظر في كل شيء بحسبه.
نضرب مثالاً: في المخلوقات مثلاً: "كل صكاء بيوض، وكل أذناء ولود" ما معنى هذا الكلام؟ صكاء يعني ما لها أذن، أنما ثقب فقط، ويستثنون نوع من الحيتان، وهذا من علوم العرب، طيب الضب بيوض وإلا ولود؟ فنأتي الآن ننزل على الواقع، والمشكلة أن قياساتهم، وأحكامهم الذهنية إذا نزلناها على الله كلها إشكالات، فحينما نعرف هذه المعلومة "كل صكاء بيوض، وكل أذناء ولود" هل تعرفنا على شيء في الخارج بمجرد هذه المقولة؟ لا، نحتاج ننزل هذا على الواقع، فنأتي ننظر في الضب ونحتاج أن نتعرف: هل له إذن ولا ثقب فقط؟ فماذا يكون؟ يبيض؛ لأنه ما له إذن وإنما هو صكاء، طيب السمكة تبيض وإلا تلد؟ تبيض؛ لأن ما لها إذن، طيب الحية؟ تبيض؛ لأنها صكاء، طيب اليربوع؟ يلد؛ لأن له أذن، لاحظ نحتاج نتعرف على اليربوع، هل له إذن وإلا لا؟ فهذا يحتاج إلى أمر خارجي، طيب الورل يبيض وإلا يلد؟ يبيض؛ لأن ما له أذن، وهكذا، فحتى نعرف الأشياء المتشخصة في الخارج وأحكامها، نحتاج أن ننزله عليها، هذا مثال يريحنا، ونحن نتحرج من ذكر هذه المقدمات الكلية فيما يتصل بالله ، فهذا لا يفيد علمًا بمجرده، نحتاج إلى أمر آخر.
فلا يكون في القياس المنطقي علم تحقيق شيء من الأشياء وهو المطلوب؛ لأن هذا شيء مشترك "كل صكاء بيوض" فنظل بحاجة إلى معرفة هذا يلد وإلا ما يلد في الخارج؟ فهذا هو الوجود الخارجي، قلنا: أنواع الوجود ذهني، وخارجي، وذكري، وهو الذي نذكره باللسان، نقول: الضب والأرنب، والرسمي: حينما نكتبه، فكلام كثير تسمعونه، مثل أصحاب دورات البرمجة العصبية يعطيك عبارات كبيرة، وإذا نظرت تجدها مضامينها تعرفها العجائز، فلا يهولنكم مثل هذه المصطلحات، فما تحتها شيء.
لماذا يطعنون في قياس التمثيل؟ قياس التمثيل عرفنا أنه قياس الفقهاء: وهو إلحاق فرع بأصل في حكم، لعلة جامعة بينهما، نحن نريد نعرف النبيذ، نلحقه بالمعلوم، الذي هو الخمر، في الحكم الذي هو التحريم، والعلة المشتركة هي الإسكار، فقياس التمثيل يقوم على أربعة أركان:
الفرع: النبيذ.
الأصل: الخمر.
العلة الجامعة: الإسكار.
الحكم: التحريم.
فأصحاب المنطق يطعنون في قياس التمثيل؛ لماذا؟ باعتبار أنه لا يفيد إلا الظن، يقولون: الحكم مظنون.
لاحظ الآن هو يتحدث عن الأمور الحسية، فالبصر في العلم الحسي أهم أو السمع؟ البصر، الأمور المحسوسة الله -تبارك وتعالى- ماذا قال في آخر السجدة؟ يقول: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة:26] هنا قال: يسمعون؛ لماذا؟ لأنهم ما أدركوا تلك الأمم، فسمعوا قصصهم وأخبارهم، ثم قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [السجدة:27] هذا شيء يشاهدونه، مطر ينزل، ويخرج النبات.
في العلوم التجريبية الحسية البصر أهم وإلا السمع؟ البصر، ولكن السمع أشمل من البصر، فهنا مزية، وهنا مزية، والمزية لا تقتضي الأفضلية، فالسمع أشمل؛ لأنه يتعلق بالأشياء الموجودة الحاضرة، فتسمع الأصوات القريبة منك، وتسمع صوت الطائرة، وأنت ما تراها، وتسمع ما وراءك، وما عن يمينك، وعن يسارك، وفوقك، وتحتك، أما البصر فما يرى إلا من جهة واحدة، والأشياء التي يصل إليها مدى البصر، والسمع يتعلق بالأمور القديمة السابقة، فتسمع أخبار الأولين، والأمور التي وقعت، وكذلك ما لا يصل إليه مدى البصر، فتسمع ما حصل في البلد الفلاني، فالسمع أشمل، ولكن البصر في العلوم الحسية أكمل، فهو يتكلم عن قياس الفقهاء الذي يقولون: أنه ظني، يقول: هو أحسن من قياسهم، وأدق، وأحسن نتائج، وإن كان قياسهم أعم، كل كذا فهو كذا، لكن ما يوصل إلى مطلوب؛ لأنه في أمور مشتركة.
وقد عرفنا قياس الشمول: كل كذا فهو كذا، كـ"كل صكاء فهي بيوض، وكل أذناء فهي ولود" هذا اسمه قياس شمول؛ لأن لفظة (كل) تدل على الشمول لجميع الأفراد.
أما قياس الفقهاء فهو قياس جزئي، يسمونه قياس التمثيل، إلحاق فرع بأصل يعني في حكمه.
لعل هذا يكفي، الحمد لله.
- مجموع الفتاوى (9/5).
- مجموع الفتاوى (9/5).
- مجموع الفتاوى (9/231) والرد على المنطقيين (ص: 337).
- مجموع الفتاوى (9/5).
- شرح الفتوى الحموية (2/7)
فسلكوا طريق الخلف وذموا طريق السلف، وقالوا: إن طريق السلف أسلم؛ لأن حقيقتها الإيمان الخالي عن المعاني، وطريقة الخلف أحكم وأعلم؛ لأنها تؤدي إلى الإيمان المبني على العلم والحكمة، وكذبوا في ذلك وضلوا. - من تحقيق نقض المنطق (ص:8) لعبد الرحمن الوكيل.
- من تحقيق نقض المنطق (ص:8) لعبد الرحمن الوكيل.
- من تحقيق نقض المنطق (ص:9) لعبد الرحمن الوكيل.
- مجموع الفتاوى (4/36).
- مجموع الفتاوى (4/144).
- مجموع الفتاوى (4/38).
- مجموع الفتاوى (4/36).
- مجموع الفتاوى (4/36).
- مجموع الفتاوى (4/36).
- مجموع الفتاوى (4/36).
- مجموع الفتاوى (4/37).
- مجموع الفتاوى (4/37).
- مجموع الفتاوى (4/38).
- مجموع الفتاوى (4/38).
- مجموع الفتاوى (4/38).
- الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/423).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم (770).
- رأس الحسين (ص: 176).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم (770).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/16).
- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (2/447-448).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم (2577).
- أخرجه البخاري في كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة برقم (6982) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برقم (160).
- الأبيات للرازي في درء تعارض العقل والنقل (1/160).
- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي. (ص: 127).
- شرح الطحاوية - ط الأوقاف السعودية (ص: 177).
- سير أعلام النبلاء ط الرسالة (10/29).
- البيت في درء تعارض العقل والنقل (7/314) بلا نسبة لقائل.
- الحاوي للفتاوي (1/300).
- الحاوي للفتاوي (1/300).
- الحاوي للفتاوي (1/301).
- الحاوي للفتاوي (1/301).
- الحاوي للفتاوي (1/301).
- مجموع الفتاوى (9/8).
- الرد على المنطقيين (ص: 297).
- مجموع الفتاوى (9/19).