الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
21- من كتاب الفوائد. القواعد 957-974
تاريخ النشر: ١٨ / جمادى الأولى / ١٤٣٤
التحميل: 2369
مرات الإستماع: 1872

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"احترز من عدوين هلك بهما أكثر الخلق: صاد عن سبيل الله بشبهاته، ومفتون بدنياه ورئاسته، من خلق فيه قوة واستعداد لشيء كانت لذته في استعمال تلك القوة فيه.

قلت: وكذلك كان نجاحه فيه أعظم من غيره".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه فوائد منثورة، والكتاب مليء بهذه الفوائد المنثورة، يذكرها في مواضع متتابعة: احترز من عدوين بهما أكثر الخلق: صاد عن سبيل الله بشبهاته، ومفتون بدنياه ورئاسته، فالأول هذه الشبه تورثه انحرافًا وضلالاً؛ لأنه أعمى البصيرة، لا يرى الحق ولا يعرفه، والثاني: زُين له سوء عمله بسبب غفلته لإغراقه في شهواته ولذاته، فهو في سَكرة، وهذه السكرة هي سكرة الغفلة التي تكون لمثل هؤلاء من أهل الدنيا، من أهل التعلق بحطامها، والاشتغال بلذاتها وأعظم هذه اللذات طلب الرئاسة، فهذا كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: بأن الرجل يكون له الصاحب فيحصل له رئاسة فيتغير عليه فيستنكر ويعجب يقول: والواقع أنه لو رآه يشرب الخمر لتغير عقله وسكر لم يعجب من تغيره عليه، فسكر الرئاسة أعظم وأشد من سكر الخمر"[1]، فهذا المفتون برئاسته هذا يعيش في سكرة ولا يكون وزنه للأمور وتقديره للأشياء على الوجه الصحيح، هذا قلبه معلق بلذات الدنيا، وهذا التعلق هو الذي يورث الغفلة، فصار عندنا أبواب الانحراف: الشبهات والشهوات.

يقول قلت: من خلق فيه -هذه فائدة مستقلة أخرى لا علاقة لها بالتي قبلها- من خلق فيه قوة واستعداد كانت لذته في استعمال تلك القوة فيه، يقول: وكذلك كان نجاحه فيه أعظم من غيره؛ هذا ما يتعلق بالميول الذي يكون عند الإنسان، يسأل بعض الناس عن التخصص من الخطأ أن الإنسان يدخل في مجال أو في تخصص؛ لأن هذا هو المتاح، تريد أن تدخل في جامعة، أو في دراسات عليا، بعض الناس يجد أنه مُلجأ إلى بعض التخصصات يقول: لأن هذا هو المتاح، فهل لك ميول إلى هذا الجانب إلى هذا العلم هذا الفن هذا التخصص؟!

يقول: لا، ولكن هذا المجال الذي فتح الشعبة التي فتحت في الدراسات العليا، هنا وجدت فرصة للإعادة مثلا أو قُبلت في هذا القسم فقط، هذا لا يحصل له نجاح في الغالب؛ لأن ذلك موقوف على الميول والاستعداد الذي يكون عند الإنسان فهذا الذي يشتغل بما لا رغبة له فيه، ولا يجد نفسه فيه كما يقول بعض أهل العلم: كالذي يزرع النخيل في الأندلس، أو يزرع جوز الهند في الأندلس، مثل: هذا لا يثمر حتى لو بقيت هذه الشجرة حية لكن لا ثمرة لها، فلا بد من مراعاة مثل هذه الأمور.

من أراد أن يتميز في فن في تخصص في مجال من المجالات لا بد أن يكون ذلك موافقًا لميوله ورغبته وقدراته، والله فاوت بين الخلق كما سبق، فتكون لذته في استعمال تلك القوة فهنا يكون الإبداع ويكون النجاح، ويكون الاندفاع، والعمل، والانطلاق، فإذا بدأ يبحث يعني يكتب بحثًا، رسالة ماجستير، أو غير ذلك هذا يحركه من فراشه لا يستطيع أن ينام يقوم ويكتب، أما هذا الذي يتكلف فغالبًا ما تجده يقول: أريد موضوعًا أكتب فيه، ما عنده موضوع يعني هو يعلن الإفلاس الكامل ما عندي موضوع أعطوني، طيب ما تقرأ؟ ما تبحث! ما تتطلع! ما تمر عليك موضوعات تحتاج إلى معالجة؟! كيف تقول للآخرين: أعطوني موضوعًا؟!

فيجهض هذا الموضوع، ولا يكون فيه إبداع، ويشعر أنه شيء ثقيل، وأصعب الأوقات التي يجلس فيها يكتب في هذا البحث، وقل مثل ذلك في المزاولات العملية، يعني حينما يمارس هذا عمليًّا في تدريس، أو في صنعة إن كان له ميول يُبدع، ومن خلق فيه قوة واستعداد لشيء كانت لذته في استعمال تلك القوة.

وهذا الأمر قد يؤثر في النيات والمقاصد، ولهذا أهل العلم يتكلمون في باب المقاصد أحيانًا أو النيات، يتكلمون عن قضايا دقيقة في الإخلاص، يقول: هذا الإنسان الذي لربما يكون فيه شجاعة مفرطة، ويكون فيه ميل إلى ما يحقق تلك الرغبة عنده فيميل إلى المزاولات التي تكون محققة لغرضه كالجهاد، فهذا قد يبدع فيه، ولكنه قد يكون قصده فيه مختلاً باعتبار أنه يمارس شيئًا تدفعه إليه طبيعته، ولا يكون له فيه نية، النبي ﷺ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[2].

فأحيانًا يكون يفعل هذا إما من باب الحمية، والنبي ﷺ سئل عن هذا الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، أي ذلك في سبيل الله؟! قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.

فإذا كان يفعل ذلك تلبية لمطالب النفس وأغراضها فهنا قد لا يكون قتاله في سبيل الله، وإنما في سبيل تحقيق أغراض النفس ومطلوباتها؛ لأنه يبحث عن لذته، وما تميل إليه نفسه، لكن عليه أن يستحضر النية؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وهكذا في العلم، فبعض الناس قد تجدهم من أوعية العلم، يعرفون المخطوطات، والمطبوعات، وأنواع الطبعات، ويعرفون ذلك جميعًا ويتتبعونه، ولهم بصر عجيب في هذه القضايا، وذكر فلان، وذكر المؤلف الفلاني ويستحضرون أحيانًا بالصفحات، لكن لا تجد أثرًا للعلم على هؤلاء إطلاقًا، لا في سمت، ولا في هدي، ولا في عمل، وآخر ما يفكرون فيه الإصلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الدعوة إلى الله، بذل العلم للناس آخر شيء يفكرون فيه، لا أثر للعلم عليهم لا في سمت، ولا في هدي، ولا في عمل، من أضعف الناس عبادة.

وبعضهم قد يدخن، وبعضهم لا يصلي مع الجماعة، أتحدث عن أشياء موجودة، ما سبب هذا؟!

السبب باختصار هؤلاء هواة، يعني أن لهم ميول طبيعية إلى هذا النوع من المزاولات، فهو يشتغل بالقراءة وله نهم في الكتب وجمعها، والمخطوطات وما إلى ذلك، فالقضية بالنسبة إليه لا تعدو أن تكون هواية، ولربما تتحول إلى مهنة يكتسب منها ويرتزق، لكن العمل الهدي السمت نفع الناس هذا أمر آخر، وهؤلاء قد تجد لهم منتديات يجتمعون بها، ويجتمع أضرابهم، وتجد الواحد منهم في غاية الذكاء، ولكن أعوذ بالله من علم لا ينفع، حالهم في العمل كحال العوام أو أقل، ولذلك تجدهم لربما في بيوتهم تجد حالهم وحال من يعولون لا يدل على حال ناس ينتسبون لعلم إطلاقًا، وهؤلاء قد يحصل لهم من التصرفات والسلوك في الحضر والسفر ما ينبئ عن قلة دين، وقلة ورع، وقلة مراقبة لله، وقلة خوف منه، والسبب أن العلم هذا لم يكن أخذه بطريق صحيح، وبقصد صحيح فأورث هذه الحال الشاحبة، بينما العلم الصحيح، العلم الذي كان له نية يورث نضارة في الوجه، يظهر أثر العلم على صاحبه في سمته وهديه ودله، له سمت حسن، بينما غيره تجد -نسأل الله العافية- أحيانًا الظلمة في الوجه، وهو في غاية الحذق والذكاء، والله المستعان.

فيقول هنا: وكذلك نجاحه فيه يكون أعظم.

"حرم صيد الجاهل والممسك على نفسه فما ظن الجاهل الذي أعماله لهوى نفسه".

يعني هذا من باب أشبه بضرب المثل؛ يقول: حرم صيد الجاهل والممسك لنفسه، يعني: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4]، فالكلب المعلم يحل صيده، فإذا أرسلت الكلب وأمسك الصيد ولم يأكل منه فهذا هو الكلب المعلم الذي يحل ما صاد، والكلب الآخر الذي يصيد الصيد ثم يأكل منه فهذا معناه أنه لم يعلم هذا لا يحل صيده، يعني إذا جئت ووجدته يأكل من الصيد، والصيد قد مات؛ لا يحل لك أن تأكل من هذا الصيد، لماذا حل صيد هذا، ولم يحل صيد هذا؟

يقول هنا: من باب المثل صيد الجاهل حرام هذا الممسك لنفسه يقول: "فما ظن الجاهل الذي أعماله لهوى نفسه" إذا كان هذا الكلب إذا صاد لنفسه حرمت الفريسة، فإذا صاد لغيره صاد لصاحبه حلت، فهذا الإنسان الذي يعمل الأعمال من صلاة وصيام وأعمال صالحة يعمل لحظ لنفسه هو يصوم ليصح فقط، أو ليحصل مدحًا وثناء رياء وسمعة بهذه الصلاة أو هذه العبادة، طلب العلم ليقال: عالم، قرأ القرآن ليقال: قارئ، هذا صاد لنفسه، وإلا لا، يعني ما عمل لله فيقول: إذا كان هذا الحيوان البهيم يحل أو يحرم صيده بحسب حاله من كونه صاد لنفسه أو صاد لصاحبه فما بال هذا الذي يعمل الأعمال وهو في الواقع إنما يصيد لنفسه، يعني وضع العمل الصالح من أجل تحصيل حظوظ النفس، قارئ للقرآن يقيم الحروف بطريقة عجيبة، لولا أنك تسمع ما تصدق هذه الدقة في مخارج الحروف، وفي التجويد في الإتقان، ولكن أحيانًا إذا نظرت تجد السلوك بمنأى تماما يكتسب بهذه القراءة، ويقرأ في الجنائز وفي مناسبات التي للبدع، ولا ترى أثرًا للقرآن عليه.

وإذا نظرت إلى من حوله من يتمايلون ويتحركون وفي الصورة يعني أحيانا تجد هؤلاء أشبه بالشبيحة أو اللصوص أو قطاع الطرق، إذا نظرت إلى الأشكال لا ترى أشكال ناس أهل قرآن، وأهل سمت حسن، فاتخذ القرآن صنعة، اتخذ القرآن مهنة، كان بعض الناس يجلسون في صحن المسجد الحرام عند مداخله هذا رأيته قبل نحو ثلاثين سنة، أربعة خمسة، ساعات متأخرة من الليل الناس يأتون للعمرة كذا حينما كان لا يأتي في الصيف أحد.

وأحيانًا في رمضان تجدهم أربعة خمسة يجلسون عند مداخل الصحن ويقرؤون قراءة، تقول: شيء عجيب في الإتقان، وهم قد مدوا أيديهم، يتمايلون ويقرأون من أجل السؤال، المسألة، هذا صاد لنفسه؛ بل رأيت من يلقي الخطبة البليغة والموعظة على الناس بعد الصلاة.

ثم بعد ذلك يذهب ويجلس عند الباب ويسأل، أو يختمها بذكر جائحة أصابته، رأيت من هؤلاء من هم كبار في السن، ورأيت أطفالاً يخطب خطبة في غاية التأثير والبلاغة، ثم هو يتبين أنه لا يفعل ذلك لله، وإنما يصيد لنفسه، وقل مثل ذلك فيمن يلقي برامج في قنوات فضائية أو غيرها من أجل الفلوس، تاجر صار صاحب ملايين، صارت تجارة وقل مثل ذلك إذا كان يفعل ذلك من أجل تكثير الجمهور من المعجبين وغير ذلك، هذا صاد لنفسه، ولذلك لا تجد له تأثيرًا بمجرد ما تراه أحيانًا تغير القناة مباشرة، لا تحتمل تسمع كلمتين على بعض لماذا؟!

لا أعرف، السبب الحقيقي أن هذا العمل أحيانًا يكون تجارة، أو لتكثير جماهير، أو لتحصيل عرض من أعراض الدنيا، نسأل الله العافية.

"مصدر ما في العبد من الخير والشر والصفات الممدوحة والمذمومة من صفة المعطي المانع فهو يصرف عباده في ذلك، فحظ العبد الصادق من عبوديته بهما الشكر عند العطاء، والافتقار عند المنع، فهو سبحانه يعطيه ليشكره، ويمنعه ليفتقر إليه فلا يزال شكورًا مفتقرًا".

هنا يعني التعبد لله بهذه الأسماء المعطي المانع، فالعبد يتقلب بين هذا وهذا، تحصل له بعض مطلوباته فيشكر ربه -تبارك وتعالى-، يمتنع عليه بعضها فيكون بذلك أيضًا صابرًا حامدًا فيكون دائرًا بين هذا وهذا، وتبقى رغبته متعلقة بربه -تبارك وتعالى- يرجّي عطاءه وفضله وإحسانه إليه ويؤمل عطاءه، فيتقلب العبد بين هاتين الحالتين، ويرى ذلك أيضًا في أحوال الناس، الله أعطى هذا من المال ولكن لم يعطه الولد، وأعطى هذا العلم ولكنه لم يعطه المال، وأعطى هذا من الجمال الظاهر الفائق ولكنه سلبه عافية، ومن أعظم السلب أن يسلب الإنسان الإيمان، -نسأل الله العافية- والهداية، فالله امتن على المؤمن بالهدى ووفقه، وارتكس آخرون فالله -تبارك وتعالى- هانوا عليه فلم يوفقوا للهدى، وبقوا في ضلالهم وكفرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فكل ذلك مصدره من هذه الأسماء: المعطي المانع، والمؤمن يكون متعبدًا لله بهذه الأسماء دائرًا بين الشكر والحمد والصبر والافتقار؛ فيكون إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، ولا يكون كحال أولئك المنافقين فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ۝ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:58-59] فتبقى الرغبة إلى ما عند الله، والتطلع إلى رزقه وعطائه وجوده هذا حال المؤمن.

"أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة: تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوى الغضبية، والقوى الشهوانية، وهي الشرك والظلم والفواحش فغاية التعلق بغير الله شرك، وغاية القوة والغضبية: القتل، وغاية القوة الشهوانية الزنا، ولهذا جمع الله الثلاثة في قوله: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ [الفرقان:68]".

أصول المعاصي وأصول الشر هذه ثلاث: تعلق القلب بغير الله إذا تعلق القلب بغير الله أشرك وتوكل على غير الله صار قلبه مفتقرًا إلى المخلوقين، صار قلبه كريشة في مهب الريح، تنتابه المخاوف، فهو دائمًا يترقب ويتوقع الأمور التي يتخوفها أن تنزل به وأن تحل بساحته، -نسأل الله العافية- فهو سيئ الظن بالله ويعيش في حال من الضيق والوحشة، هذا تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية والقوة الشهوانية، يعني العقل الذي هو محله القلب يحصل له سكر يحصل له تغطية هذا السكر وهذه التغطية، تكون تارة إما لغلبة الشهوة، فإذا غلبت الشهوة غطت وسترت العقل ولذلك لربما يجد أنه يدفع للمعصية ثم بعد ذلك إذا قضى نهمته منها حصل له بعد ذلك إفاقة فندم إن كان من أهل الإيمان، ولا يزال قلبه حيًّا فما الذي حصل له حتى أوقعه في هذا هو هذا الستار هذا الغشاء الذي غطى على العقل فوقع في المعصية، ولهذا كان فعله هذا من قبيل الجهالة: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [الأنعام:54]، فالشهوة تحجب العقل، فعند الشهوة يمكن أن يفعل أشياء يمكن أن يتصرف تصرفات يمكن أن يعصي الله، أن يجترئ عليه، أن ينسى المفاهيم والمبادئ التي عنده.

وكذلك في لحظات الغضب الشديد يستر العقل، ولهذا قال: الإغلاق، يعني الإنسان قد تصل الشهوة إلى حد يشبه السكر، وقد يصل الغضب إلى حالة تشبه السكر، فإذا سكر لربما لا يدري ما قال، فيطلق، ويقتل فيقال: له: أنت قلت كذا، أنت فعلت كذا، فيقول: لم أشعر، ولهذا كان طلاق الغضبان الذي وصل إلى حال الإغلاق لا يقع بالإجماع، ويبقى الخلاف بين أهل العلم والتردد في الغضب الشديد الذي يعقل معه ما يقول: هل يقع طلاقه أو لا؟

لماذا يقولون مثل هذا الكلام؟ لماذا قال النبي ﷺ: لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان[3]؟

لأن الفكر -العقل- مشوش، ولهذا أمره النبي ﷺ أن يستعيذ بالله من الشيطان، وإن كان قائمًا أن يجلس، وإن كان جالسا أن يضطجع، وأن يتوضأ، كل هذا من أجل إطفاء جمرة الغضب، فإذا كان قائما يمكن أن ينطلق وهو لا يشعر فيقتل ويبطش، فإذا كان قائما يجلس من أجل أن تنحبس هذه الجوارح عن الانطلاق، فلا يفعل فعلا يندم عليه، ولذلك انظر إلى الذين يقعون في جرائم قتل في لحظات غضب مثل هؤلاء يندمون غاية الندم، ويتلاشى عنهم ذلك بعد لحظات، ثم بعد ذلك يندمون ولا ينفع الندم، ولذلك كان الإنسان العاقل ينبغي له في لحظات الغضب ألا يتصرف، ولا يتكلم، ويستعيذ بالله من الشيطان، ويفعل ما أمر به؛ لأن الغضب يغطي العقل، هذه حالات، وابن القيم -رحمه الله- ذكر في بعض المواضع حالات أخرى مثل: الفرح الشديد، والورع يقتضي ألا يقبل الإنسان الهبات والعطايا ممن كان في مثل حالة فرح شديد ويصيبه شيء من الذهول، فلربما أخرج ما بجيبه وأعطاه ذلك الإنسان وأخذ مفتاح سيارته وقال: هذه لك، ثم بعد ذلك حينما ينحسر هذا الشعور يبدأ يراجع نفسه، ويشعر أنه تصرف تصرفات لم تكن منضبطة، ولا يرضاها، فيقول ابن القيم: "إن الورع لا يؤخذ منه في مثل هذه الحال"، دعه إلى أن يرجع إلى وضعه الطبيعي ثم بعد ذلك تقول له هاه الآن يقول: أعفني من هذا أنا سأعطيك شيئًا آخر غير السيارة سأعطيك طِيب عطر، وما أشبه ذلك، هذا حال الذهول بل يحدثني من رأى يعني مشهدًا في عد أسماء الناجحين في الاختبارات قديما كان الناس أحوالهم بسيطة، يقول: كان المدير يقف على سطح المدرسة وليس له حائط، ومدرسة متواضعة وبسيطة، يقول: المدير واقف فوق والطلاب في الأسفل في الساحة، ويعد أسماء الناجحين طبعًا في السابق كان الذي عندهم مواد محمولة كثير لكن الجيد الذي يكون عنده دور ثاني يعني في ناس ما عندهم دور ثاني أصلاً، فيعدد الناجحين ثم عدد التي عندهم مادة واحدة ثم ثانية ثم ثالثة ثم وصل إلى الحد الذي يعني عندهم دور ثاني فعد شخصًا -هذا يحدثني زميل له- يقول: كان معنا شخص في المدرسة يقول: فصرخ صرخة ثم رفعه ثوبه وانطلق أمام الجميع، رفع ثوبه إلى أعلى وليس عليه سراويلات، وينطلق وهو لا يشعر من شدة الفرح الشديد، يعني العقل لا يكون ولذلك النبي ﷺ نهى القاضي أن يحكم بين اثنين وهو غضبان، وابن القيم ذكر هذه الحالة شدة الفرح.

فالمقصود أن غلبة الشهوة تستر العقل، ولذلك هي لا تحتاج إلى إيقاد شهوات الغرائز كامنة فإذا وضع تحتها نار فهذه تكون شديدة الانفجار، بالغة الأثر، لا يستطيع أن يسيطر عليها حتى يستفرغها، يوقد تحتها نارا أيش معنى يوقد تحتها نارا يذهب ويلهبها بمشاهد يشاهدها، وهي لا تحتاج إلى مثل هذا، هي كامنة قوية، فإذا أوقد تحتها اشتعلت، ثم بعد ذلك لا يستطيع أن يسيطر عليها، فتصير إلى حال مثل السكر لا يعي لا يعرف يقرأ، لا يعرف يصلي، لا يعرف -نسأل الله العافية-، وهكذا شدة الغضب تجده يكون كما ذكر النبي ﷺ تحمر الأعين، وتنتفخ الأوداج يقول: إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد[4]، يعني الغضب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلما قالوا له هذا كان يقول: مجنون مجنون.

"هجر القرآن أنواع: هجر سماعه والإيمان به، وهجر العمل به، وهجر تحكيمه، وهجر تدبره، وهجر الاستشفاء به في أمراض القلوب والأبدان، وكل هذا داخل في قوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]".

يعني ليست القضية إذن هي أن يقرأ الإنسان القرآن ويكون له ورد من القرآن فحسب فهذا مطلوب، بل لا بد من أمور أخرى وراء ذلك من التدبر فهو المطلوب المقصود من أجل العمل، والله أنزل القرآن من أجل أن يُعمل به ويمتثل ويكون واقعا في الحياة، ثم أيضًا التحاكم إليه والاستشفاء به، فهذه مراتب، والناس في هذا بين مقل ومكثر يعني منهم من يهجر القرآن بالكلية لا يقرأ ولا يتدبر ولا يعمل ولا يستشفي به ولا يتحاكم إليه، جعل القرآن خلف ظهره، ومنهم من يقرأ لكن يقرأ لتحصيل الأجور والحسنات فقط من غير تدبر ولا عمل، ومنهم من يقرأ ويتدبر لكن لا يعمل، ومنهم من يقرأ ويتدبر ويعمل ولكنه لا يستشفي به أو لربما لا يتحاكم إليه، فالهجر على أنواع وصور، قد توجد جميع هذه الصور في إنسان، وقد يوجد بعضها.

"كمال النفس المطلوب أن تتصف بصفات الكمال، وأن تكون هيئة راسخة".

الكمال يحصل للنفس إذا وجد فيها الأوصاف الكاملة بحيث تكون صفة راسخة لها فهنا يحصل الكمال.

"وذلك ليس إلا معرفة باريها وإرادة وجهه، فهذا الكمال الإنساني الحقيقي، وما سواه من مطالب النفوس كمالات تشارك الإنسان فيها البهائم".

صحيح يعني السلف أحيانا تجد بعض العبارات لهم يتكلمون مثلاً عن قضية كثرة الأكل، وأن هذا كمال، وبعض الناس هكذا يذكر، وبعض الناس تجدهم يقولون: حسدوه على كثرة تردده للخلاء؛ لأنه إذا كان يأكل كثيرًا فمعنى ذلك أنه يحتاج أن يتردد كثيرًا على الخلاء، فقضية كثرة الأكل يشترك فيها مع البهائم الأكل والشرب لا يمدح الإنسان فيه وإذا نظرت إلى أحوال السلف كيف كان أكلهم بل النبي ﷺ الهلال والهلال والهلال يعني ولا يوقد في بيته نار[5]، فما ضرهم ذلك وما أزرى بهم.

فهناك كمالات يشترك فيها الإنسان مع البهيمة بالمعاشرة بالجماع، فهذه ليست هي الكمالات الحقيقية، ما هو الكمال الحقيقي؟

هي الأمور التي يحصل بها الرفعة، التي يحصل بها الكمال الإنساني الذي يتميز فيه الإنسان عن الحيوان البهيم، فالله ميزه بالعقل، وجعل له هذه القدرة على الاكتساب، فهذه الأوصاف الكمالات تارة تكون وهبية من الله -تبارك وتعالى- وهذه نعمة عظيمة إذا حبى الله بها عبدًا وتارة تكون بكثرة المزاولات فإنها تورث الملكات كما قال النبي ﷺ: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[6]، فهذا الذي يتعلم لم يصِر العلم هيئة راسخة له، وإنما يحتاج إلى مدة طويلة، فكثير من النفوس لا تصبر عليه؛ لأنه فيه مشقة من عدة جهات: لتحصيله يحتاج صبر، ويحتاج قضاء أوقات، ويحتاج جلوس، ويحتاج تواضع، بعض الناس لا يريد أن يُرى في مجلس العلم يستحي، وبعض الناس يقول: نريد دروسًا خاصة حتى لا نجلس مع الناس الآخرين فنستوي معهم مثلاً، قد يأنف.

وبعض الناس يريد أماكن خاصة لها خصوصية مثل: صالات الفنادق مثلاً، فتجد هذا الإنسان يتجمل ويلبس أحسن اللباس، ويذهب إلى هذه الصالات لكن في المسجد لا يأتي، وهذا معروف.

وأحيانًا مثل الصفات إنما الحلم بالتحلم، هذا الإنسان الذي يحاول أن يحمل نفسه على الحلم إلى الآن ما صار الحلم صفة راسخة له فلا يقال: فلان حليم، حلم الأحنف بن قيس مثلا، وإنما يقال هو جالس يجاهد نفسه ويصارعها ويعاركها من أجل أن ترتاض على هذا، ولذلك ذكر الشاطبي -رحمه الله- في "الموافقات"[7] أن الناس في العلم على مراتب، الذين يشتغلون بالعلم، المرتبة الأولى: هم الذين يبتدئون في طلبه؛ فهؤلاء يحتاجون للروادع والزواجر والحدود التي تقيمهم على أمر الله .

الطبقة الثانية: هم الذين حصلوا لكن لم يعد العلم صفة راسخة لهم فيحتاجون إلى شيء من المجاهدة من أجل العمل بمقتضى العلم، لطاعة الله ترك المعاصي يحتاجون مجاهدة.

الطبقة الثالثة: الذين صار العلم هيئة راسخة لهم، هؤلاء صاروا من الراسخين في العلم، نقول: هؤلاء لا يحتاجون إلى كثرة مجاهدة لماذا؟

الشهوات التي يعافسها الناس ويتعبون في مجاهدة النفوس لكن عندهم شهوات من نوع آخر قد يصعب عليهم التخلص منها الرئاسة وما إلى ذلك من هذا النوع الذي يتسرب إلى النفوس بعد فطمها من الفجور والشهوات التي يعافسها غيرهم، ويتهافتون عليها، هذا لا يقربها ولا يفكر فيها، أبعد الناس عن الزنا، وعن السرقة، وعن الأمور هذه لكن عنده شيء ثان يمكن أن يعارك عليه، وهي قضية الرئاسة مثلاً.

فالمقصود أن هذا كلام الشاطبي في طبقات الناس في العلم فهكذا سائر الصفات، فالمقصود أنه بقدر ما عندنا من هذه الأوصاف الكاملة التي تكون هيئة راسخة بكثرة المزاولات حتى تصير بمنزلة الملكات لنا، هنا يكون الكمال، تقول: فلان كريم، وفلان حليم، وفلان صبور وما أشبه ذلك هذه كمالات تجد الناس يمدحون بها فلان متواضع، لكن الذي يتكلف التواضع الذي يتكلف الحلم، الذي يتكلف العلم، الذي يتكلف الكرم يبدو في فلتات لسانه وتصرفاته ما يخرجه عن هذه الأمور.

ليست الأحلام في حال الرضا إنما الأحلام في حال الغضب[8]

لا تظهر هذه الأوصاف حتى يكون المحك، قد يتكلف بعضهم ويدعو بعض الناس، ولربما يصر فإذا أجابوه لربما تسمع من فلتات الناس ما يدل على أنه مستثقل لهذا -نسأل الله العافية- ما علم أنه قربة وعبادة يتعبد بها الله ويؤجره عليها، يشعر أنها مغرم، يعني أنا سمعت مرة رجلا يتكلم يدعو أناسا ويصر عليهم فلما أجابوه كان يتكلم فيما بعد ويقول يعني أنا البقية يعني ما أحد دعاهم ممن كان حاضرًا وكذا وكذا وجاءت على رأسي، لازلت هذه الكلمة سمعتها من نحو اثنا عشر سنة، ولا يكاد يوم يمر علي إلا وهي تضرب في أذني جاءت على رأسي، إلى هذه الدرجة مغرم؟! فهذا شيء تؤجر عليه هذه عبادة لله، فمثل هذا الذي يصر من أجل أنهم يأتون عنده، هذا ليس بكريم، وإنما هو متكلف لم يعد ذلك صفة راسخة له إطلاقا، وهكذا في أمور كثيرة، بمعنى أننا بحاجة لنكمل النفوس أننا نربيها على الصفات الكاملة حتى تكون راسخة فيها.

"قاعدة: الإيمان له ظاهر وباطن؛ فظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، ولا يجزي باطن لا ظاهر له، إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه أو خوف هلاك، فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته، فالإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول".

حينما ندرك أن الإيمان قول وعمل، فإن الإيمان يزيد وينقص، بهذا الاعتبار صلاتنا إيمان، ذكرنا إيمان، قراءتنا للقرآن إيمان، مجالس العلم إيمان، يعني إماطة الأذى عن الطريق إيمان، فهذه كلها من الإيمان، التصديق الانقيادي إيمان، وكذلك التوكل والخوف والرجاء المحبة وما إلى ذلك من الأعمال القلبية هذه إيمان، فأعمال القلب وأعمل الجوارح واللسان كل هذا إيمان، فهذا الذي يقول: أنا الإيمان في قلبي ثم بعد ذلك لا يظهر على جوارحه ولسانه من كثرة ذكره لربه -تبارك وتعالى- وعمل الجوارح واشتغالها بطاعته من غير مانع، ثم يقول: أنا إيماني هنا، هذا الانحسار في الجوارح واللسان يدل على انحسار الإيمان في القلب، انحسر الإيمان من لسانه وجوارحه لوجود الجفاف في القلب، فالإيمان شجرة أصلها في القلب قلب المؤمن، أصلها ثابت، وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فيظهر هذا على لسانه، ويظهر هذا على جوارحه، فإذا ما ظهر شيء من هذا من غير إكراه فهذا يدل على أن شجرة الإيمان خاوية في القلب ميتة.

هذه قضية بينة واضحة، وهي في غاية الأهمية؛ لأن الكثيرين يدعون أن الإيمان في قلوبهم، ثم بعد ذلك لا يظهر أثره على جوارحهم، يقول: فالإيمان قلب الإسلام ولبه، يعني الإسلام يعني إسلام الظاهر والإيمان للباطن، يقول: واليقين قلب الإيمان ولبه، يعني نحن نؤمن بأن الموت حق، كما جاء عن علي : "ما رأيت يقينا أشبه بشك من الموت"[9]، كلنا يعلم أنه سيموت ومع ذلك الحال تدل على أن اليقين ضعيف، نعلم أن الآخرة حق وأن الإنسان سيجازى على عمله، وأن الله لا يضيع عنده عمل، وأن الله يرانا ويراقبنا، ومع ذلك نفعل ما لا يليق، ولو أن شخصًا هم بمعصية ثم نظر إلى صبي في طاقة ينظر إليه، فإنه لا يتحرك منه عضو للمعصية من أجل صبي لا يملك نفعًا، فكيف هان عليه نظر الله -تبارك وتعالى-؟!

هذا نعلمه أن الله يرانا، ولكن اليقين ضعيف فيجترئ الإنسان على المعصية، الله قال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261] الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فهذا الإنسان تقول له: تفضل هذا مجال للصدقة الآن نبخل، ونحسب حسابات، لكن لو قيل في مساهمة نسبة الأرباح تصل إلى:50% ما هو إلى الضعف، ولا إلى عشرة أضعاف، ولا إلى سبعمائة ضعف، لو قيل: سبعمائة ضعف كان هذا خطر على الناس وأصيب الناس يعني لا تتسع المستشفيات لو قيل سبعمائة ضعف مساهمة سبعمائة ضعف، لو قيل: عشرة أضعاف، لو قيل: الضعف أحسن المساهمات العقارية التي يفتخر أصحابها بالنجاح العظيم الذي حققته لربما تصل إلى ثلاثين أو أربعين بالمائة أليس كذلك؟! الله يعد بعشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، ومضمون، فلماذا لا تتسارع النفوس إلى البذل؟

السبب باختصار ضعف اليقين الذي هو لب الإيمان، الإيمان موجود لكن اللب الذي هو اليقين ضعيف، فتجد الواحد يحسب ألف حساب إذا أراد أن يتصدق، والله المستعان.

"قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ [الأنفال:24]، لما ذكر أقوال المفسرين فيها قال: والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة، والرسول داع إلى الإيمان والجنة، فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة".

ابن القيم -رحمه الله- هنا في كلامه على هذه الآية: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] ما المقصود به؟! دعاكم إلى ماذا؟! السلف اختلفت عباراتهم في تفسيرها إذا دعاكم إلى ماذا؟

بعضهم يقول: دعاكم إلى الإسلام، وبعضهم يقول: دعاكم إلى القرآن، هنا يقول: الإسلام، والقرآن، والجهاد، ذكر ثلاثة أشياء هي في الواقع ثلاثة أقوال للمفسرين، أما الأول والثاني فهو من خلاف التنوع، يعني أن الإسلام والقرآن شيء واحد، لكن عبارات السلف فيها بعضهم قال: إذا دعاكم لما يحييكم يعني الإسلام، وبعضهم قال: يعني القرآن، وبعضهم قال: الجهاد في سبيل الله، وبعضهم يقول: غير هذا.

فهنا: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] كل ما يدعونا إليه ففيه الحياة الكاملة، الحياة الطيبة، هذه الحياة في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، فالحياة الحقيقية ليست أن يشارك الإنسان البهائم في الأكل والشرب والنكاح، هذه ليست بحياة، ولهذا قال الله عن اليهود: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، جاء بأسلوب النكرة، أي حياة حتى لو كانت حياة في غاية الانحطاط والسفول، المهم أنه يعيش، ولو حياة بهيمية، لكن الحياة الحقيقية كما قال الله : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]، هنا التنكير للتعظيم، حياة كاملة، حياة كريمة لا يهددها الناس صباح مساء بالقتل، أو ما دونه، وإنما يأمن الناس فيها على مصالحهم، وعلى نفوسهم ودمائهم وأبشارهم وأعضائهم، ثم بعد ذلك تقوم مصالحهم في الحياة حينما يعم الأمن فيتقلبون فيها بألوان التجارات والمكاسب وما إلى ذلك.

حياة كاملة، يعني هذه تترتب على هذه، وهذه تترتب على هذه، إذا وجد الأمن استطاعوا أنهم يتاجرون الاقتصاد يتحرك، ينمو، الأموال لا تهاجر، تجد هؤلاء الناس يستطيعون أنهم يعبدون الله يذهبون إلى المساجد، يستطيعون أن يتعلمون، يطلبون العلم، يمارسون الدعوة، فإذا انتفى ذلك عنهم لا يستطيعون من ذلك شيئًا، لا يستطيعون أن يذهبوا إلى مدارس، ولا يستطيعون أن يتعلموا، ولا يستطيعون أن يتاجروا، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا من هذه الأمور: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]، اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] هذا في باب القصاص مثلاً.

فالمعنى عام استجيبوا لكل ما دعاكم إليه فيحصل به الحياة الحقيقية في الدنيا تحيون حياة كريمة، ولهذا فإن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جميعًا جاءوا بالضرورات والحاجيات التي هي مكملة للضروريات وللتحسينات التي هي مكملة للحاجيات، وهي مكملة للضروريات بواسطة الحاجيات، فهذه الأمور تحصل بها ضرورات الناس فتتحقق، وتنتفع الناس بما أوتوا من النفوس، وكذلك تقوم أديانهم، وكذلك أيضًا تحفظ نفوسهم ودماؤهم، وكذلك أيضًا عقولهم وأعراضهم، كل هذه الأشياء تكون متحققة، وهكذا أيضًا ما يكملها من الحاجيات كبيعهم وشرائهم وتجاراتهم ومضارباتهم هذه الحاجيات، والتحسينيات الأمور التي تحصل بها كمال المروءات، تحفظ لهم الكرامة، فتجد حياتهم على حال مرضية تليق بهذا المخلوق الذي خلقه الله في أحسن تقويم.

فهذه التحسينيات الرجل له لحية، وهيبة، ورجولة، وما شاء الله بهاء، والمرأة تلبس الحجاب، فيكون ذلك صونًا لها ويكون حفظًا لجمالها وسترًا، وصيانة، وقل مثل ذلك في سائر التحسينيات كالتخلي عن النجاسات، والقاذورات، والمحافظة على الطهارات بجميع أنواعها، كل ذلك يتحقق لهم، هذا كله داخل في قوله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.

فهذه هي الحياة الحقيقية، في الدنيا يحصل لهم هذا؛ لأن الذين قالوا مثلاً: إنه الجهاد هذا جزء من المعنى، لماذا قال بأنه الجهاد؟

قالوا: إنهم إذا تركوا الجهاد غلب عليهم عدوهم فقتل النفوس، وانتهك الأعراض، وأخذ الأموال، واستباح الضرورات الخمس، وأتى على الحاجيات، والتحسينات، فتكون الحياة ليس لها معنى، إذا ذهبت الضرورات كما يقول الشاطبي -رحمه الله-: بقي الناس في تهارج، وإذا ذهبت الحاجيات لحقهم الحرج، وإذا ذهبت التحسينيات ذهبت كرامتهم الإنسانية"[10]، فيأتي العدو إذا تركوا الجهاد، ويتسلط عليهم فيذهب ذلك جميعًا، -نسأل الله العافية- هذا وجه من قال بهذا القول، والمعنى أعم من ذلك، والله أعلم.

"لا يجعل العبد المعيار على ما ينفعه ويضره حبه وبغضه، بل المعيار ما اختاره الله له بأمره ونهيه، قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]".

هو هذا، لا يجعل المعيار هو ميل النفس، وتحصيل المطلوبات، فيقول: أنا مرتاح، أنا سعيد، أنا حققت النجاح، لا ليس هذا أنت لا تعرف ما وراء هذا الجدار، فقد يكون هذا العطاء استدراجًا، وقد تكون هذه البهيمة تسمن للذبح، فالإنسان لا يعرف ما وراء الجدار، لا يعلم الغيب، لا يعلم الغيب إلا الله، ولهذا شرعت الاستخارة أن يسأل العبد ربه أن يدبره وأن يصرفه لما فيه الخير له، ثم بعد ذلك عليه أن يرضى ويطمئن بما قسمه الله وقدره له، قد تكون هذه المنح في أثواب المحن، والأمور المكروهة: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لماذا؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فحينما لا يحصل للإنسان مطلوب من المطالب يريد أن يتزوج فلانة وما حصلت فيحزن ويكتئب، يريد أن يعمل في مجال أن يدرس في جامعة من الجامعات ما حصل له هذا يكتئب، هذا خطأ، فهو إذا علم أن ما يختاره الله له وما يدبره أن هذا هو الخير إذا استخار الإنسان فعليه أن يطمئن ويكون كامل الاطمئنان؛ لأنه لا يدري بعد ذلك أين وكم من إنسان كان في غاية الحرص والتهافت على أمر وكان فيه حتفه، كمن إنسان حرص على سيارة وإلى آخره، وبذل واجتهد وجد ولربما أزعج والده حتى اشتراها له -نسأل الله العافية- ثم كانت قبرًا له، وكم من إنسان حرص على سفر وكان هذا السفر فيه حتفه؟!

فالإنسان يستخير، فإذا فاتت الطيارة قال: الحمد لله، وما يدريه، لم يحصل له هذا المجال، لم يحصل له هذا التخصص، لم تحصل له هذه الجامعة، لم تحصل له هذه الوظيفة، لم تحصل له هذه الفرصة، لم تحصل له هذه الصفقة، ولا يدري أين الخير؟ فكم من إنسان ذهبت سعادته بسبب صفقة حصلت!، وكم من إنسان ذهبت سعادته وسعادة أهل بيته كاملة بسبب دار اشتروها أو عمروها، وهذا موجود، ونعرف أمثلة من هذا كثير.

فالعبد دائمًا يفوض أمره إلى الله، ويستخير، وإذا رأى شيئًا من الأمور التي يحبها لم يتحقق فإنه يرضى؛ لأن الله عليم حكيم، وقد ذكرت في الكلام على الأسماء الحسنى لربما في الكلام على اسم الله الحكيم، وكذلك العليم، أولئك الذين أحيانًا يشتكون ولربما يكون الرجل أو المرأة في حال من البكاء والحزن والكآبة، وهذه تقول: أنا ما أخرج من غرفتي منذ خمسة أيام، لماذا حصلت خطوبة؟ ثم بعد ذلك حصل تراجع من قبل الرجل، اشترت أغراض وأعطاهم المهر، ثم تراجع فهي باكية حزينة، لماذا تبكين؟ أما تعلمون أن الله عليم حكيم؟!

يقولون: بلى، فإذا كنتم تعلمون هذا، فهنا السؤال الثاني: تدبير الله خير أم تدبيركم؟

يقولون: تدبير الله أفضل من تدبيرنا!

السؤال الثالث: لو خيرتم بين أن تدبروا لأنفسكم أو أن يدبر الله لكم؟!

يقولون: لا، نريد أن الله يدبر لنا، فالله عليم وحكيم، واختار لكم هذا ودبر لكم هذا التدبير، فلماذا الجزع؟!

الله هو الذي اختار لك هذا الأمر، الله صرف عنك شرًا كثيرًا، التزوج بهذا الرجل قد يكون منتهى التعاسة، هذا المال الذي كنت تحرص عليه وكذا، وكذا، قد يكون هو سببًا لـ...، وهذا الولد الذي تحرص عليه وحرمت عليه قد يكون حتفك على يد هذا الولد، قد يكون شقاؤك في الدنيا عليه، كم من أناس عندهم أولاد وكانوا سببًا لألوان العلل والأوصاب التي نزلت بهم، بسبب أن هؤلاء الأولاد ما كانوا على حال مرضية إطلاقًا، كانوا سببًا لتعاسة آبائهم، كم من ولد قتل أباه؟! فتجده يحرص وحزين وكئيب، والمرأة كئيبة ويحزن وتفكر دائمًا وقلقة أنها لم ترزق بأولاد وما يدريك؟ وهكذا قد تحمل بولد وعندها أولاد فتجزع وتبكي وتحزن أنها حملت، وما يدريك أن هذا الولد يكون خيرًا لك في الدنيا والآخرة، وهكذا: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].

أحد العلماء لما كان حملاً في بطن أمه كان إخوانه الكبار من الزوجة الأولى كانت إذا مرت هذه المرأة وضعوا أرجلهم لعلها تسقط فيسقط الحمل الذي في بطنها، كانوا يفعلون هذا لعلها تتعثر فيسقط هذا الحمل الذي يشعرون أنه عبء ثقيل عليهم، هذا المولود صار شامة تتشرف به هذه الأسرة بأكملها من أولها إلى آخرها، صار فخرًا، وكانوا من قبل يستثقلون هذا الحمل، ويتمنون لو يسقط، ويمد الواحد رجله أنا سمعت هذا منهم يمد الواحد رجله لعل المرأة تتعثر فيسقط الحمل، وطلع عالم من أجل علماء المسلمين، ومن أكثرهم نفعًا، ومحبة في قلوب الخلق، وكتبه سارت مسير الشمس: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يعني لا تقل أريد هذا الشيء الفلاني وما تحقق، أنا أحزن لا، هذا يقوله من لم يعرف هذه الحقيقة الكبرى.

"أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عليها، وتتضرع إليه ألا يقطعها عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها".

بمعنى إذا استقر هذا في قلب الإنسان ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يحصل عند الإنسان العجب والغرور، يقول: أنا ما شاء الله موفق، أنا الحمد لله ما يؤذن إلا وأنا أتجه إلى المسجد، ومحافظ على صلاتي، وأصوم تطوعًا، وأنا ما شاء الله أختم كل خمسة أيام، وأربي أولادي على طاعة الله، وأولادي صاروا من الصالحين وبناتي، وما شاء الله نحن أسرة كريمة وطيبة وعلى طاعة وبر، يُقال له: لا، الحسنات من الله، والنفع كله منه، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فينبغي أن يحملك ذلك على مزيد من الشكر؛ لأن هذه النعم الله   أعطاك إياها، فلا تلتفت إلى نفسك، ولا تنظر في عطفيك، فهذا ليس منك، وليس من جهدك، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، هذا ولد نوح الأنبياء هم أفصح الناس لسانًا، وأكملهم بيانًا، وأعظمهم نصحًا، هذه الأمور الثلاثة هي أسباب وأسس الهداية البشرية، يعني: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، الهداية المنسوبة إلى البشر أسسها هذه الثلاث التي هي متحققة على الوجه الأكمل في الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أفصح الناس لسانًا، وأعظمهم بيانًا، وأكثرهم صدقًا وحرصًا وإخلاصًا في نصح الناس، ومحبة الخير لهم.

قد ينصح الإنسان من طرف لسانه، يقوم الخطيب ويشعر أن الخطبة عبء ثقيل ينتظر متى يخطب ويستريح من هذا الحمل ويلقيه عن كاهله، ولا يتأثر الناس ولا ينتفعون.

وقد يكون حريصًا ولكنه ضعيف البيان فلا يحصل المقصود، لكن إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة فهذا كمال الهداية البشرية، يعني التي يقدمها البشر، وبقي أمر رابع وهو التوفيق من الله، فهؤلاء الرسل النبي ﷺ لم يستجب له عمه أبو طالب، وقال الله: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، فإذا حصل لك مثل هذه الأمور لا تقل: أنا، وأنا، وأنا الحمد لله، لا.

لو شاء ربك كنت أيضًا مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن[11]

 كان الإنسان مثل هؤلاء الذين لا يعرفون الله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]، وهكذا السيئات هي من خذلان الله وعقوبته فإذا وقع للإنسان شيء من هذا يستعيذ بالله، ويستدرك ويبادر إلى التوبة؛ لئلا يكون الخذلان ملازمًا له.

"للقلب ستة مواطن يجول فيها ثلاثة سافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له، وثلاثة عالية: علم يبين له، وعقل يرشده، ورب يعبده، والقلوب جوالة في هذه المواطن".

القلوب تتأثر بحسب هذه المنازل: الدنيا، النفس الأمارة، العدو الذي هو شياطين الإنس والجن، هذه سافلة تجذبه إلى الأرض وشهواتها.

وثلاثة عالية: العلم الذي يعرف به مراد الله -تبارك وتعالى- والعقل الذي يرجح به النافع على الضار، والمعبود الذي يتوجه إليه، فمن كان قلبه مرتبطًا بالله متعلقًا بالله -تبارك وتعالى- فإنه لا يلتفت إلى شيء من هذه الأمور، وذلك الناس الذين يعانون يقول: أنا أعاني مثلاً من التعلق بالمخلوقين، أعاني من كذا، أعاني من كذا، هذا أنواع المعاناة، هذه هي بسبب فراغ القلب من معرفة الرب، ومن ثم يُودي ذلك بضعف التوجه والتعلق به، فلو عرفه معرفة حقيقية لم يلتفت إلى شيء سواه، لا تنتظر من المخلوقين هم الذين يعطونك، وهم الذين يحققون لك المطالب، أو أن يتعلق القلب محبة بمخلوق فيتعاظم في قلبه فيبدأ يعذب هذا القلب بسبب هذا العشق، ومحبة المخلوقين محبة لا تصلح لهم.

"إنما يجد المشقة في ترك المألوفات من تركها لغير الله، فأما من تركها صادقًا مخلصًا من قلبه لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة؛ ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؟! فإن صبر على ترك المشقة استحالت لذة".

لو أردنا أن نتحدث عن التوبة ذكرت في الأعمال القلبية في الكلام على التوبة كلامًا جيدًا لابن القيم حول هذا المعنى، ذكر وهو يتحدث عن قضية يجدها الإنسان في نفسه حينما يقبل على الله ويتوب، فالعقبة التي يواجهها عند التوبة هي الامتحان، وهذا الامتحان تارة يكون بامرأة يحبها محبة محرمة، إذن هو سيخسر، وظيفة محرمة، مكاسب محرمة، رئاسة محرمة كما يقول المعلمي -رحمه الله- في سبب غلبة الهوى على النفوس، وترك الحق: "ومنهم من يكون له في الباطل شهرة أو معيشة"[12]، فتجد مثل هذا شيخ طريقة تجد هذا معمم من هؤلاء المعميين أهل البدع والضلال، له أتباع، له من الخمس، له سخرة ناس يعملون عنده في إقطاعاته، وما إلى ذلك من هؤلاء الصوفية مثلاً بلا أجر، الناس يعظمونه، فإذا تاب فمعنى ذلك أنه يرجع إلى موضعه وحجمه الطبيعي، وقد يكون ليس له أي مؤهلات، لأن يكون ممن يقتدى به، فيكون في آخر الركب، قد يكون هذا مغني، قد يكون مهرج، ممثل، لعاب، إلى آخره، فإذا ترك ذلك ذهبت الأضواء، والشهرة والأموال، والأوهام معها.

مرة قرأت مقابلة مع واحد يتفلسف من هؤلاء "أهل الفن" كما يقال، فكان يتكلم أن الوصول إلى القمة هذا أمر ممكن مقدور، لكن المحافظة على موقعه في القمة هذا أصعب الأشياء، بمعنى أن أي تصريح، أي كلمة، أي تصرف ممكن أنه يسقط، فتعجبت من هذه العقول، وكيف يزين للإنسان سوء عمله، وكيف تذهب به الأوهام أي قمة التي وصل إليها؟!

هو في الواقع وصل إلى الحضيض حينما يصل إلى القعر، كيف يحافظ على بقائه في القعر؟! أنا أقول: يطمئن؛ لأن الذي في القعر لا يطيح، فهو يتوهم وهو في القعر أنه جالس في قمة شاهقة، المهم أن مثل هذا عندما يرجع عن باطله فمعنى ذلك أنه سيأخذ حجمه الطبيعي في الرف، فقد يمنعه ذلك.

وهنا إن كان لغير الله فهذا يشق عليه يحسب ألف حساب؛ لأن المسألة أرباح وخسائر، كيف أتخلى عن هذه الأموال؟! كيف أتخلى عن هؤلاء الصحبة؟! كيف أتخلى عن هذه المرأة؟! كيف أتخلى عن هذه الرئاسة؟!

أما إن كان لله فالثمن هو الجنة، رضا الله -تبارك وتعالى- كل هذا تتلاشى دونه هذه المطالب الدنية التي يتهافت عليها كثير من هؤلاء الذين لم يعرفوا الله -تبارك وتعالى- ولا ما أعده لعباده، فابن القيم يقول: "هذه المشقة فقط هي في البداية"[13]، البداية هي التي ذكر أنها هي العقبة عقبة التوبة، أو التي تكون بعد التوبة، فإذا جاوزها يكون جاوز القنطرة، جاوز الامتحان تصير الأمور طبيعية بالنسبة إليه، يصلي ويصوم ويزكي ماله، ويتصدق، ويبتعد عن المحرمات، والآخر المنغمس في اللذات، يقول: عجيب كيف هذه المرأة كيف لابسة حجاب ومغطية وجهها، كيف تستطيعين هذا؟!، أنا ألبسه خمس دقائق وأشعر بكتمة لا يمكن أن أحتمل، كذا بعض النساء تقول، التي لا تعرف الحجاب، لكن هذه فعلت ذلك لله، أو تابت لله فتحجبت وهي تشعر بلذة، وراحة في البداية في عقبة فتواجهين المجتمع في البلاد التي ينتشر فيها السفور والعري، ستواجهين الأهل، القرابات، معارضات، وما أشبه ذلك، فإذا ثبت بعد ذلك فإنه يتحول ذلك إلى لذة وراحة وطمأنينة.

"من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه[14]، والعوض أنواع مختلفة، وأجل ما يعوض به الأُنس بالله محبته، وطمأنينة القلب به، وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه".

العوض أنواع قد يترك صفقة محرمة ويأتيه ما يعادلها أو يزيد عليها من المال الحلال، وهذا له أمثلة نماذج كثيرة، فقد يكون هذا التعويض عوضه الله خيرًا منه، يعوضه من نوع آخر يكون أنفع له، وقد يكون هذا التعويض في كل الحالات موجود ما يجده من الراحة واللذة والطمأنينة، ابن القيم -رحمه الله- يذكر مثل هذا، وكذلك شيخ الإٍسلام عند الكلام على غض البصر مثلاً، يقول: هذا الذي يغض بصره عن الحرام مباشرة ينعكس ذلك على انفتاح البصيرة، وعلى اللذة والراحة التي يجدها في قلبه[15]، يعوضه الله من الراحة واللذة والسرور ما هو أعظم من تلك اللذة؛ لأن تلك اللذة التي يراها حين النظر إلى الحرام هي تنعكس بالإحراق على قلبه، تحرقه هذه النظرات المحرمة، وتصيبه بجروح قد تكون غائرة أو قاتلة؛ لأن النظر سهم مسموم من سهام إبليس.

فإذا كان الإنسان غض بصره عن الحرام كما يقول شيخ الإسلام[16] لما تكلم على قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، يقول: "إن الله ذكر هذا، وآية النور في سورة النور، يقول: ذكر آية النور بعده مما يدل على أن هناك نوع من الارتباط بحيث أن غض البصر عن الحرام يورث انفتاح بصيرة القلب، تنفتح بصيرته.

"مبنى الدين على قاعدتين: الذكر، والشكر، وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به، وبصفات كماله، ونعوت جلاله، والثناء عليه بأنواع المدح، وذلك لا يتم إلا بتوحيده فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه.

وأما الشكر فهو القيام بطاعته، فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته، وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس".

ولذلك نحن في الدعاء الذي علمنا النبي ﷺ: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك[17]، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "تأملت الأدعية فوجدت هذا أجمعها وأنفعها"[18]، وكذلك ابن القيم[19] تكلم على هذا المعنى، ونقل بعضًا من كلام شيخ الإسلام في بعض كتبه، فإذا أُعين الإنسان على الذكر فمعنى ذلك أن الذكر ذكر القلب واللسان والجوارح، فهذا تحقيق العبودية، وإذا حصل له ذلك فهذه نعم امتن الله عليه بها فهو بحاجة إلى شكر.

فالعبد يقبل على الله ويعمل بطاعته فهذا من ذكره، ثم هذه النعمة تستوجب الشكر، فالعبد دائر بين هذا وهذا، فهو بحاجة إلى الذكر وبحاجة إلى الشكر، وليست العبرة بالكثرة، وإنما قال الله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2].

وحسن عبادتك فالله -تبارك وتعالى- لم يقل ليبلوكم أيكم أكثر عملاً، وإنما العبرة بإحسان العمل، فهذه المرتبة العُليا، فإذا اجتمع للعبد هذه الأمور الثلاثة حصل له الكمال.

"قال أبو الدرداء : "يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترين"[20]، وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة، وتقدمهم على من بعدَهم في كل خير ".

بصرف النظر عن صحة هذا الأثر عن أبي الدرداء لكن من حيث المعنى على فرض صحته: "يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم"، يعني يغبنون بماذا يغبنون بنومهم قيام الحمقى وصومهم، يعني هؤلاء الأكياس من أهل التقوى الذين عرفوا الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، يقول: إن حالهم أفضل من حال أولئك الذين يغترون بعملهم وعبادتهم، فهؤلاء الأكياس الذين يستشعرون منة الله عليهم بالهداية والتوفيق للعمل الصالح، يقول: هم في نومهم أحسن حالاً من هؤلاء الذين يحييون ليلهم بالقيام، ونهارهم بالصيام؛ لأن أولئك من المغترين كأنهم يمتنون على الله بهذا العمل، كأنهم يقدمون له شيئًا يحسنون به إليه، كأنه بحاجة إلى عبادتهم فتجده يقوم الليل وهو مغتر، أنا أقوم الليل!، يصوم النهار وهو مغتر ينظر للآخرين على أنهم هلكة، وأنهم مساكين، وأنهم مفاليس، فهذا غرور.

فيقول: هذا العارف بالله حينما يكون نائمًا في الليل ومفطرًا في النهار فطرهم يعني هو ما صام هذا المقصود، يقول: هو أحسن من حال ذلك الذي يعبد الله وهو مغتر فلا تزيده هذه العبادة إلا عجبًا وهذا العجب قد يكون من أسباب حبوط العمل فلا يزيده من الله إلا بعدًا هذا العمل، هذا هو المقصود.

يقول: "فهم بذلك يغبِنون به"، الغبن أصله في التجارة، يغبنون كأنهم يعني يتفوقون يغلبون يرتقون.

"لا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس، ولا شيء أصلح لها من شهود العبد منة الله وتوفيقه، والاستعانة به، والافتقار إليه، وإخلاص العمل به".

هذا يفسر لك الجملة التي قبلها لماذا هؤلاء الأكياس كانوا في حال أفضل مع نومهم وفطرهم أفضل من أولئك الذين في سهر وقيام، وفي صوم في النهار؟

يقول: هؤلاء أصحاب عجب، ورؤية للنفس بخلاف أولئك أصحاب شهود لمنة الله وتوفيقه، وهم مفتقرون إليه، وأصحاب إخلاص، لا شك أن الإنسان إذا كانت أعماله الصالحة التي يعملها يشعر أو يستشعر أنه مدل بذلك على الله ويرى نفسه بسبب هذه الأعمال الصالحة، ويحتقر الناس لربما، ويرى أنه قدم وبذل وفعل وإلى آخره، فمثل هذا عمله قد لا يزيده إلا بعدًا من الله لو أنه أفطر، وكان على حال مع الله ومعرفته والتواضع له لكان أفضل من هذا الذي يصوم ولا يزيده الصوم إلا غرورًا، وعُجبًا، وقل مثل هذا في أشياء ثانية العلم قد يكون هذا الإنسان يطلب العلم ويحصل علما كثيرًا، ويكون حاذقًا، ولكنه -نسأل الله العافية- يرى الناس مثل: الفراش،  ولا يرى الناس شيئًا، فمثل هذا العامي أفضل منه بكثير، فماذا نفعه هذا العلم إلا التعالي والغرور والصلف والتعاظم، هذه أمور خطيرة قد يقع فيها بعض الناس.

وهذه مشكلة احتقار الآخرين يعني هذا يأتي إليه شخص ويكون له ملحوظة تنبيه على شيء، على خطأ، على زلة في كلامه، أو نحو ذلك، ثم يسخر منه، ويقول: مضغة لا أدري مخلقة أو غير مخلقة، يعني الذي أمامه الذي يذكر له هذا الملحظ أو الاستدراك، يعني أنه لا زال مضغة ما صار إنسان، يقول: لا أدري مخلقة أو غير مخلقة، أنت من؟! يحتقره إلى هذه الدرجة مضغة! يقول: ما أدري مخلقة أو غير مخلقة!، يعني من أنت حتى تجترئ عليّ؟! والثاني الذي -نسأل الله العافية- لما تلطف به بعضهم، وذكر له هذا في كتب التراجم، بعضها هذه في تراجم أهل العلم، ذكر له ملحظ وهو إمام في النحو، وفي بعض العلوم كالقراءات، وغيرها، إمام في اللغة كبير، ولما ذكر له ملحظ أو استدرك عليه في الإعراب قام وأخرج منديل وبصق، وقال: "ما عند النحويين لا يبلغ بصقتي هذه"[21]، يعني بالنسبة لعلمي الكثير هو لا يبلغ بصقتي، -نسأل الله العافية- إلى هذا الحد يصل العجب والغرور في الإنسان.

فهذا ليته ثم ليته ما عرف، ولا علم، يكون جاهلاً ومتواضعًا لربه -تبارك وتعالى- أفضل من هذا المتعالم، هذا المتعاظم الذي لا يستطيع أحد أن يقترب منه، بل لا يستطيع أحد أن يتكلم معه، ولا يستطيع أحد أن يذكر استدراكًا ولا خطأ فلا يرى الناس شيئًا صلف، نسأل الله العافية.

"العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا فإنهم لا يقدرون على تركها، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم، وكيف يؤمر بفضيلة من ترك الفريضة؟!

فإن صعب عليهم ترك الذنوب فاجتهد أن تحبب الله إليهم بذكر آلائه وصفات كماله، فإن القلوب مفطورة على محبته؛ فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإقلال منها".

هذا مفيد في دعوة الناس إلى الله -تبارك وتعالى- لا تطالب الناس لاسيما الذين قد تعلقت نفوسهم بالدنيا وحطامها بالزهد في الدنيا، وفي حطامها وهم تاركون للفرائض بسبب هذه الدنيا، منتهكون للمحرمات والموبقات، وإنما يطالبون بترك الحرام، وفعل ما أمرهم الله به مع البقاء على دنياهم، ولكن يأخذه بحله، ويصرفه في مصارفه، ومما يجذبهم إلى ذلك ويتحقق معه هذا المطلوب أن يُعلم الناس معاني الأسماء الحسنى هذا من أنفع الأمور للجميع، الكل يحتاج إليه فإن من عرف الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته انجذب قلبه إليه، وعظمه، وخافه، وراقبه، وهانت عنده هذه اللذات بأنواعها وصنوفها، فلم يتعاظم شيء منها ويتضخم ويأخذ أكثر من حجمه، كذلك المخاوف لا يتعاظم شيء منها، ويأخذ أكثر من حجمه الطبيعي؛ لأنه عرف الله، تجد الرجل ينام في البرية، ويقال له: كيف تنام بهذا المكان الموحش؟! فيقول: من عرف الله لم يستوحش.

"قاعدة جليلة: مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها".

هو هذا، تبدأ القضية خاطرة ثم تتحول إلى شيء آخر، تتحول إلى فكرة راسخة، تبدأ القضية بهم ثم تتحول إلى عزيمة، ومن ثم قيل: إن الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، فيحتاج الإنسان أن يصلح هذه الإرادات، والأفكار، والخواطر؛ لأن هذه هي المبدأ فتقود الناس وتأسرهم أسرًا، وتحركهم وتدفعهم للعمل الصالح، أو العمل السيئ، المعصية تبدأ بخاطرة فإذا دفعها فهي سهلة، لكن حينما تلح عليه حتى تتحول إلى عزيمة فإنه يصعب دفعها، إذا كان الإنسان في البداية شبهة عرضت له ألقاها الشيطان في قلبه، فإذا استرسل معها، وبدأ يقرأ وبدأ يجمع، وبدأ يلم شعث هذه الشبه المجاورة لها وما إلى ذلك تحول إلى ريب وشك، ثم قد يتحول إلى إلحاد، -نسأل الله العافية- كانت البداية فكرة خاطرة فالخواطر يسهل دفعها، وهكذا في الخير تبدأ خاطرة، ثم بعد ذلك تتحول إلى فكرة وتتحول من هم إلى عزيمة، ثم بعد ذلك تتحول إلى عمل واقعي، فيحتاج الإنسان أن يوجه الذهن، ويوجه الأفكار، ويوجه الخواطر، والعلل التي تصيب الناس، والأوصاب التي تقع لهم، والأمراض النفسية، وما إلى ذلك هي تبدأ بخواطر، فإذا استرسل معها واستجاب لداعي الشيطان بهذه الفكرة التي ألقاها في قلبه أنت يمكن هذا الذي فيك أنه شيء كذا، يمكن هذا كذا، يمكن هذه النغزات التي تشعر فيها كذا، إذا بدأ يسترسل ستتحول إلى كارثة، سيشعر أن علل الدنيا نزلت به، وأن عنده المشكلة الفلانية، وعنده المشكلة الفلانية، وعنده كذا وإذا ذهب إلى بعض المعبرين، أو بعض الرقاة فلا تسأل عن حاله بعدها، سيذكرون له من ألوان المخاوف ما يعجز معه أحيانًا عن المشي والحركة، وقبل ذلك لم يكن به بأس، فُتح له نافذة يتصل عليه دجال من الدجاجلة، ويقول له: أنا أكلمك من البلاد الفلانية أنت مسحور، أنت فيك كذا، وفيك كذا، فإن استجاب عند ذلك تبدأ تتابع عليه الأوهام حتى لربما لا يستطيع هذا الإنسان أن يحرك ساكنًا ولا يمشي خطوة واحدة، وهذا له أمثلة كثيرة، ومعاناة لكثيرين، وكانت المبدأ هي هذه، أرخى للشيطان سمعه، فتح نافذة يلقي عليه الشيطان منها حجرًا، فإن وجد صدأ فلا تسأل عنه يلعب به لعب الصبيان بالكرة، واسألوني من كثر ما رأيت في أحوال الناس من هذا القبيل، يلعب به لعب الصبيان بالكرة وليس به بأس، لكن الشيطان لا يتركه، وهو غير كاذب، هو فعلاً لا يستطيع يمشي، هو فعلاً لا يستطيع يبلع، لكن ليس به بأس، الشيطان يفعل أكثر من هذا.

المشاعر ما ترون الإنسان في حال الحزن الشديد ما يستطيع يأكل ويقول: أنا تقف هنا اللقمة لا تنزل، أليس كذلك؟

ويقول: أنا أمضغ الطعام، أعلكه ولا أجد له طعمًا، لا ينزل إلى الحلق والمريء والمعدة في حال الحزن الشديد، ما علاقة، هذه المشاعر بالأمور الحسية الوظائف الطبيعية المضغ والهضم و...و... إلى آخره، حتى الذي في معدته يبدأ بسرعة ينخرط؟!

بسرعة بلحظات بسبب مشاعر سريعة من الخوف، أو الحزن، أو نحو ذلك، فتجد هذا الإنسان في حال الخوف أو في حال الفزع، أو في حال الحزن، أو في حال الرهبة لربما يسرع يذهب إلى الخلاء -أعزكم الله- لماذا؟

لأن هذا البطن بدأ يضطرب الآن، هذه وظائف طبيعية عادية، لاحظ كيف تتأثر بالمشاعر التي عند الإنسان! كيف لو تصور أنه في جني أزرق، ومارد من المردة، أو خمسة من المردة ما هو واحد، كلهم جلسوا وربضوا على صدره.

هذا ينتظر الموت يأتيه من كل مكان، -نسأل الله العافية- يعني بعض الناس يقول: أنا أشعر أني أموت، أنت تشعر بماذا؟

هذه امرأة تقول: أنا أشعر ببرودة في أطراف أقدام قدمي ورجلي أموت خلاص كم مرة حصل هذا؟

قالت: يمكن خمس مرات، فما متِ ولا مرة؟

قالت: ولا مرة، فيقال: وهذه المرة إذن هي من جملة هذه المرات السابقة، إذن هذا ليس هو الموت، ومن قال لك إن الموت تبرد فيه اليدين والرجلين؟!

"العبد يترقى من معرفة أفعال الله إلى الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئًا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال، وستر بنعوت العظمة والجلال، ولهذا كان له الحمد كله من جميع الوجوه".

لأنه لا يحمد إلا من كان كاملاً من كل وجه، ولهذا في قولنا: الحمد لله "ال" للاستغراق، فكل المحامد لله، المحامد لا يمكن أن تجعل جميعًا كل المحامد مستغرقة إلا لمن كان له الكمال المطلق من كل وجه، ومن ثم فإن النظر في أفعاله -تبارك وتعالى- من العطاء والمنع والرفع والخفض، و...و.. إلى آخره، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، فيرى الله يخفض، ويرفع، ويعطي، ويمنع.

فهذا يدل على صفاته صفات الكمال، والنظر في صفات الكمال يدل على جمال الذات، ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- لا يعطي أهل الجنة نعيمًا أو شيئًا من النعيم أعظم ولا أجل من النظر إليه -تبارك وتعالى-: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، النظر إلى وجهه الكريم هذا أعظم اللذات، فمن قام ذلك بقلبه في الدنيا فلا تسأل عن حاله، هذا ينسيه كل شيء، كل شيء يذهب عليه، ويقول: بأن كل شيء دون الله -تبارك وتعالى- فهو زائل، مضمحل، متلاش، فإذا سلم له عبادة ربه ومعرفته وتوحيده والإيمان به فهذا هو المطلب الأعظم.

"أنفع الناس لك من نفعك في دينك، أو دنياك ومكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرًا والعكس بالعكس".

هذا الناس في الصحبة يحتاج إلى مثل هذا، أنفع الناس من نفعك في دين ودنيا، لكن الذي لا تنتفع به لا في دين ولا دنيا، أو يضرك في دينك أو يضرك في دنياك فما حاجتك به؟!

فالإنسان الذي يصاحب الأشرار، يصاحب من لا خير فيه، من يزين له المنكر، يزين له الباطل، يلقي في قلبه الشبهات، اليوم تجد الإنسان قد يقبل على الله ويستقيم ولكنه يأتيه من يلقي في قلبه شبهات توقعه في أمور أعظم من اللذات التي فر منها وتاب.

فالشيطان يجلس للإنسان في كل طريق، هذا تائب ومستقيم وظاهره الصلاح لكن الشيطان لا يتركه، فيأتيه من شياطين الإنس والجن من يزين له أمورًا أخرى فيوقعه إما في شبهات، عقائد فاسدة، في قناعات سيئة وفاسدة، قد تذهب بدنياه وآخرته، إنسان دائم الخوف، نعم قد يسلم هو من الفجور والسرقة والزنا، ولكنه يقع في أمور قد تكون أعظم منها.

"للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، موقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق في الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف".

هذه العبارة واضحة، لكن فيها عبرة، فهذا الذي يتململ حينما يقف في الصلاة، وإذا طال الإمام زاد دقيقتين ضاقت به الدنيا، مثل: هذا كيف يكون حاله بين يدي ربه -تبارك وتعالى-؟!

هذا وقوف بين يديه في الدنيا في الصلاة، وله وقوف آخر فهو يتأثر بهذا الوقوف.

 

  1. انظر: الجواب الكافي = الداء والدواء (ص: 120)، ومدارج السالكين (3/294).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (2810)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، برقم (7158)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، برقم (1717)، ولفظ مسلم: ((لا يحكم أحد...)).
  4. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3282)، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، وبرقم (6115)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، برقم (2610).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، برقم (6459)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم (2972).
  6. أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (2663)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (10254)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2328).
  7. انظر: الموافقات (1/89).
  8. الرسائل الأدبية (ص: 384)، والرسائل للجاحظ (1/362)، وربيع الأبرار ونصوص الأخيار (2/225).
  9. العاقبة في ذكر الموت (ص: 92).
  10. الموافقات (2/21)، و(2/41)، و(3/487).
  11. نونية ابن القيم (الكافية الشافية) (ص: 20).
  12. القائد إلى تصحيح العقائد (ص: 13).
  13. انظر: مدارج السالكين (3/402)، و(3/409).
  14. الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (2/10)، والزهد لأبي داود (ص: 184)، برقم (191)، وترتيب الأمالي الخميسية للشجري (2/286)، برقم (2468).
  15. بدائع الفوائد (2/271)، وانظر: الفوائد لابن القيم (ص: 117).
  16. انظر: مجموع الفتاوى (15/371)، و(15/387).
  17. أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستغفار، برقم (1522)، والنسائي، كتاب السهو، نوع آخر من الدعاء، برقم (1303)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1362).
  18. انظر: مجموع الفتاوى (8/330).
  19. انظر: الفوائد لابن القيم (ص: 128).
  20. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/211).
  21. لم أقف عليها.

مواد ذات صلة