الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
20- من كتاب الفوائد. القواعد 949-956
تاريخ النشر: ١٨ / جمادى الأولى / ١٤٣٤
التحميل: 1586
مرات الإستماع: 2119

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"ومن كتابه: الفوائد".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الكتاب يُعد نموذجًا لتقييد الفرائد والفوائد التي ينتظم من مجموعها مثل هذا الكتاب الذي يمثل درة نفيسة حيث اجتمع فيه من الفرائد والفوائد الأدبية، والعلمية ما يتصل بالعقائد، والسلوك، واللطائف التفسيرية، إلى غير ذلك، أورد فيه الحافظ ابن القيم -رحمه الله- من هذا شيئًا كثيرًا شعرًا ونثرًا، فيجد فيه القارئ من المتعة والفائدة كأنه في حديقة كثيرة الأزهار، متنوعة الأشجار والثمار، وقد أحسن ابن القيم -رحمه الله- في التعبير عنها وصياغتها، فتجد فيه من الفوائد العميقة التي يرفع الناس إليها أبصارهم، وتجد فيه من رقائق الشعر وبليغ القول والعبارة الشيء الكثير، كأن ابن القيم -رحمه الله- كان يقيد ما يطرأ على خاطره وخلده في حينه، فإذا سنحت له مثل هذه الشوارد والفوائد قيدها، وهذه طريقة حسنة، فإن هذه الشوارد والفوائد ترد على الخاطر ثم بعد ذلك يسوف الإنسان في تقييدها فتذهب أدراج الرياح، ويحاول الإنسان كثيرًا أن يتذكرها وأن يستحضرها عند الحاجة إليها، أو عند وجود الفرصة السانحة لتقييدها، ثم بعد ذلك لا يسعفه الذهن فمن وفق لمثل هذا فذلك خير كثير.

الكتاب مليء بهذه الفوائد والنفائس واللطائف، والناظر فيه يعجز عن الاختيار لبعض هذه الفوائد دون بعض، بعض هذه الفوائد من إنشائه، وبعض هذه الفوائد في الواقع منقولة، وربما من غير إشارة إلى مصدرها على طريقة كثير من المؤلفين من المتقدمين، ولربما تصرف فيها بعض التصرف، وغير عبارة تجد جملة من هذه الفوائد في كتاب: "المدهش" مثلاً لابن الجوزي، وما نقله الحافظ ابن القيم -رحمه الله- من الفوائد من هذا الكتاب أو ما نقله الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- من الفوائد هو شيء قليل جدًا مما يمثله هذا الكتاب من الدرر والنفائس.

 انظر مثلاً: "إذا سكِر الغُراب بشراب الحرص تنقل في الجيف"[1]، يعني شبه الحرص بالغراب، "إذا سكر الغراب بشراب الحرص تنقل في الجيف"، يعني يهبط.

يقول: "ليس للعابدين مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحبين قرار إلا يوم المزيد، فمثل لقلبك الاستراحة تحت شجرة طوبى يهون عليك النصب، واستحضر يوم المزيد يهون عليك ما تتحمل من أجله"[2].

يقول: "إذا كنت كلما لاحت لك شهوة طُفيل العرائس، -هذه لو تراجع ما هو طفيل العرائس تعرف النكتة تحت هذه العبارة القصيرة-، يقول: "إذا كنت كلمات لاحت لك شهوة طفيل العرائس فانتظر قتلة وضاح اليمن"[3]، هذا له قصة أيضًا.

يقول: "قد علمت أين المنزل فاحدُ لها تسر"[4]، يعني للمضي، المنزل: الجنة فعليك بأن تحث السير لتبلغ.

يقول: عبارات كثيرة.

يقول: "اغسل وجه الجد من غبار الكسل، وأنفق كيس الصبر في طريق الفضائل"[5].

يقول: "يا هذا حب الدنيا أقتل من السم، وشرورها أكثر من النمل، وعين حرصك عليها أبصر من الهدهد، وبطن أملك أعطش من الرمل"[6].

هذه عبارات لابن الجوزي -رحمه الله- في بعض كتبه كـ"اللطف في الوعظ" كما ذكرت لكم أيضًا في "المدهش".

"أيها الحريص على الدنيا إلى كم تهيم في بيداء التحير كالذي استهوته الشياطين؟!"[7].

فالكتاب يحسن قراءته، وهو يصلح دائمًا أن يكون مع الإنسان في السفر والحضر أن يكون قريبًا منه يقرأ فيه إذا شعر بشيء من الملل أو الفتور.

الأشياء المذكورة هنا المنقولة في مجملها سهلة وواضحة لا تحتاج إلى بيان سياقات ولا إلى شرح لمجملات أو عبارات لربما تحتاج إلى تفكيك أو تفسير.

والأشياء التي لا تحتاج إلى توضيح لوضوحها وسهولتها نحاول أن نسرع السير فيها، وهناك أشياء تحتاج إلى وقوف وتحتاج إلى بيان فهذه تأخذ منا بعض الوقت.

"قاعدة جليلة: إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من يتكلم به منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه؛ تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ، وأبينه وأدله على المراد".

يقول: إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك هذا طريق الانتفاع بالقرآن، كيف تنتفع بالقرآن؟!

اجمع قلبك عند تلاوته وسماعه هذا الأمر الأول الذي هو حضور القلب، وجمع القلب بكليته عند سماعه، بمعنى ألا يكون القلب مفرقًا مشتتًا فلا يقرأ الإنسان في أوقات قلبه مشغول فيها، قلبه مشتت، قلبه مفرّق، هذا غير صحيح؛ لأنه لا بد كما ذكرت في بعض المناسبات من أجل أن يحصل المقصود والتدبر عند قراءة القرآن من أمور:

أولها: وجود القلب الحي، ثم هو بعد ذلك بحاجة إلى أمرين:

الأمر الأول: حضور القلب عند القراءة أو السماع أحضر قلبك.

والأمر الثاني: أن ينصت، ولهذا قال الله : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف:204]، والاستماع أن يقصد ذلك، يعني أن يقبل على المتلو فيستمع إليه قصدًا فَاسْتَمِعُوا لَهُ، والإنصات ألا يشتغل عنه بغيره، يعني لا يشتغل بالاستماع ويده مشغولة مثلاً بشيء آخر بالجوال، أو بغير الجوال، لا ينشغل بشيء آخر، وإنما يبقى كما قال النبي ﷺ في الجمعة: ثم أنصت إذا تكلم الإمام[8]، وقال: من مس الحصى فقد لغا[9]؛ لأن هذا خلاف الإنصات، فالإنصات غير الاستماع، الاستماع أن يلقي سمعه لما يقوله الخطيب مثلاً، والإنصات ألا ينشغل عنه بغيره إلى حد أن من مس الحصى مجرد المس فقد لغا.

قال: وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من يتكلم به منه إليه، هذا أمر آخر مع الإنصات والاستماع لا بد من أن يستشعر أن هذا الخطاب موجه إليه؛ لأنه قد يستمع ويحضر القلب لكنه يتصور أن هذه الآيات وهذا القرآن وهذا الخطاب إنما هو لقوم مضوا ولم يعقبوا وارثًا، فإذا جاء وعيد على أعمال معينة ظن أن هذا يراد به أقوام قد مضوا وقضوا، ولكنه حينما يستحضر أن هذا خطاب من الله، ويستحضر عظمة المخاطب به وهو الله جل جلاله، فإنه يكون بذلك أدعى لتدبره، وتفكره، والانتفاع به.

قال: وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتض، المؤثر الآن هو القرآن هو أبلغ تأثيرًا يعني قد تلقي موعظة ولا يتأثر الناس لماذا لا يتأثرون؟!

قد يكون السبب في الموعظة، يعني أنها ضعيفة، وأنها ليست بليغة؛ أنها لا تحمل معاني ودلالات، وهدايات تستوجب التأثر، لكن القرآن هو أبلغ الكلام، وأبين الكلام، وهو موعظة عظيمة لو نزل على جبل لتفطر، إذن هذا الجانب الأول في التأثير متحقق تمامًا هذا المقتضي المؤثر.

لكن يبقى الإشكال في المحل القابل الذي هو القلب، فإذا كان القلب مشوشًا أو كان القلب مشغولاً باللهو والباطل فإنه لا ينتفع بالقرآن ولا يتأثر به، فلا بد من تصفية المحل وتنقية القلب، ولهذا كما نقل شيخ الإسلام -رحمه الله- بأن عند قوله ﷺ: إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة[10]، قال: "وكذلك القلوب إذا كانت تحمل أخلاق الكلاب فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة"[11].

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] في الكتاب الذي في السماء، فشيخ الإسلام وابن القيم يقولان: "إذا كان الذي في السماء لا يمسه إلا الأرواح الطاهرة، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فكذلك لا تصل معانيه ولا تنال إلا القلوب الطاهرة"[12]، يعني هذا من باب أن الشيء بالشيء يذكر والواقع أنه من قبيل ما يسمى بالتفسير الإشاري، وهو من الأمثلة القليلة التي يكون ذلك منها من قبيل المقبول الحسن.

فهذا المحل القابل، قال: وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، يعني لا بد من شرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه، بمعنى أن الإنسان قد يكون عنده قلب صحيح، المحل القابل موجود، والقرآن مؤثر، لكن لا بد من وجود الشرط أيضًا وانتفاء المانع، يعني لا يقرأ مثلاً في مكان فيه أشياء تشغل، لا يقرأ في مكان فيه أصوات مزعجة، لا يقرأ في أوقات يكون الذهن مكدودًا يأتي ويقرأ في وقت يكون قلبه مشوشًا.

فهناك أمور إذا اجتمعت وتوافرت كان ذلك التأثير قويًا، ولهذا هناك أشياء تطلب قبل القراءة، وهناك أشياء تطلب أثناء القراءة، أو الاستماع، وهناك أشياء تطلب بعده.

فالإنسان حينما يختار الوقت، ويختار المكان، وكذلك أيضًا يتوضأ ويستعيذ كل هذا قبل القراءة، فإنه بذل يكون مهيئًا، ثم بعد ذلك إذا قرأ أو استمع أحضر قلبه عند هذا الاستماع، ثم استشعر أن هذا الخطاب موجه إليه، ثم استشعر عظمة المخاطِب وأنه الله، يعني لو جاءته رسالة من ملك من عظيم من أهل الأرض لربما هذه الرسالة في الجوال جاءت إليه يقرأ السطور وما وراء السطور وما بين السطور وما دونها وما قبلها وما بعدها؛ أليس كذلك؟! يقرأها بعناية؛ لأنه جاءه ممن يعظمه، فكيف بالله -تبارك وتعالى-!

فمثل هذه الآيات تقرأ، وكما يقال يقرأ أيضًا ما بين السطور فيتدبر، ويستشعر هذا المعنى أن الله يخاطبه بذلك، وعند ذلك يحصل الانتفاع، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ يعني قلب حي وقاد، بعض العلماء يقولون: التنكير في الآية للتعظيم يعني له قلب كامل الحياة.

وبعضهم يقول بعكس ذلك، يعني لمن كان قلبه يعني أدنى ما يصدق عليه أنه قلب باعتبار أنه نكرة، والمطلق يصدق على الحد الأدنى الذي يتحقق فيه ذلك، يقول: لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أدنى قلب بحيث لا يكون عادمًا للقلب بالكلية، أو لهذا الوصف بالكلية، لمن كان له قلب، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ بعض العلماء يقولون: إن أو هنا بمعنى الواو، يعني كان له قلب وألقى السمع، والتعبير بإلقاء السمع هنا باعتبار شدة الإنصات، أَلْقَى السَّمْعَ، وأيضًا وَهُوَ شَهِيدٌ، أي: حاضر القلب: لأن صاحب القلب الحي قد يكون قلبه كما سبق مشغولاً في مكان آخر وقلبه حي لكنه يقرأ في وقت غير متهيئ فيه، كأن يوجد أمامه ما يشوش عليه ما يشغله فيتفرق القلب.

وبعض أهل العلم يقول: إن أو هذه ليست بمعنى واو، بمعنى أن هذه الذكرى تحصل لمن كان له قلب كما يقول ابن القيم[13] -رحمه الله-، تكلم على هذا في عدد من كتبه، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية[14] -رحمه الله- تكلم على هذه الآيات في عدد من كتبه، والمفسرون اختلفوا في تفسيرها، فبعضهم يقول: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ فإن صاحب القلب الحي يحصل له التذكر بأدنى ما يعرض له، لا يحتاج إلى إنصات لشيء يسمعه، أو إلى موعظة يفصل له فيها ما ينفعه وما يضره فالذكرى لما تحصل لصاحب القلب الوقاد الحي بأدنى ما يعرض له، بأدنى تنبيه يعني، لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، الآخر خامل القلب الذي لا يكون قلبه بتلك المثابة، هذا إذا ألقى السمع وأحضر قلبه، يعني لم يكن له قلبك بتلك الحياة، ولكن لو أنه أحضر قلبه عند الاستماع، وكذلك أنصت فإنه ينتفع، ويحصل له التذكر فهما حالتان على هذا الاعتبار على القول الثاني، وكأن ابن القيم[15] -رحمه الله- يميل إلى هذا في بعض كتبه.

وبعض أهل العلم يقول: إن هذا لحالتين أيضًا لكن غير ما ذكر، يقول: الأشياء إما مشاهدة من المخلوقات التي يراها والعبر التي يشاهدها وخلق الله في السماوات والأرض، وما إلى ذلك ما نشاهده، فهذا يحصل له الاتعاظ والاعتبار والانتفاع بقلبه حينما يشاهده.

وهناك نوع آخر من هذه العبر والعظات وهو ما كان فيما سلف فبلغه وقص عليه خبره، فإذا ألقى السمع وهو حاضر القلب حصل له التذكر، فالأشياء على نوعين: إما أشياء يشاهدها بنفسه فإن كان قلب انتفع، وإما أشياء ليست كذلك، فهذه إذا قص عليه خبرها وما جرى فيها حصل له الانتفاع.

فهذه الخلاصة، والكلام في هذه يطول جدا فقط كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم لو جمع لربما يبلغ ما يقرب من خمس عشرة صفحة بأقل تقدير إلى ثمان وعشرين صفحة حسب الطباعة يعني حسب حجم الخط والتنسيق، لو جمعت كل كلام شيخ الإسلام وابن القيم في هذه الآية لكان شيئا كثيرًا يحتاج إلى مجلسين إذا أردنا أن نفصل، ثم جمعت كلام أهل العلم عليها من المفسرين لكان أيضًا كذلك بهذا المقدار تقريبًا، لكن هذه جملة يسيرة يعني هي من أوجه أو أوضح أو أبين أو أقرب ما قيل يوضح لك أو هذه، لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، ولذلك ممكن أن تتحدث عن قضية التدبر من أولها إلى آخرها انطلاقًا من هذه الآية، كل ما يذكر في التدبر يفرع من هذه الآية من الشروط.

"الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب وكمال أسمائه وعلمه وحكمته وقدرته وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزه عما يقوله منكروه كما يستنزه كماله عن سائر العيوب والنقائص".

يعني الأمور الغيبية تتلقى في الأصل من السمع، وهناك ما يدركه العقل مع السمع، بل قد يدرك أيضًا بالفطرة، وهناك ما لا يدرك إلا بالسمع فقط، يعني مثلاً استواء الله على العرش، هذه قضية غيبية، أو ليست غيبية؟!

هذه دل عليها السمع، السمع يعني الآيات والأحاديث، النصوص يقال لها: السمع، يعني ليس العقل، إنما يتلقى ذلك، فهل استواء الله على العرش يدل عليه العقل؟! هل يدركه العقل؟!

لا، هل تدركه الفطرة؟! لا؛ لأن العقل لا تعلق له بذلك، لكن علو الله على الخلق، صفة العلو وليس الاستواء دل عليها النقل، يعني السمع، ويدركها العقل، وكذا الفطرة.

هنا المعاد؛ وهو من الأمور الغيبية دل عليه النقل بنصوص كثيرة، العقل يدركه أولا يدركه؟!

يدركه من وجوه، فإن ذلك من مقتضى كمال عدل الله ، وهو موجب بعض أسمائه وصفاته الكاملة، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يخلق الخلق عبثًا، ولن يتركهم هملاً كما أن الله -تبارك وتعالى- لكمال عدله فإنه لا يقر الظلم، فلا بد من إقامة العدل بين الخليقة، فيقتص المظلوم من ظالمه، وهذا قد لا يتحقق في الدنيا يموت المظلوم، وما حصل له قصاص، فما الذي يحصل؟

لا بد من يوم آخر ينتصف فيه المظلوم من ظالمه، حتى تقتص الشاة الجلحاء -التي ليس لها قرون- من الشاة القرناء التي كانت تنطحها في الدنيا، فهذا يدل عليه العقل من جهة إقامة العدل، وأن كمال الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يقر هذا الظلم الذي يقع بين العباد.

وهكذا أيضًا ما هم عليه من التفاوت في أحوالهم وأعمالهم، وما إلى ذلك فيجازي هذا بالإحسان، ويعاقب المسيء.

إذن المعاد معلوم بالعقل مع أنه دل عليه السمع.

"الرب يدعو عباده إلى معرفته من طريق تدبر آياته المتلوة، فإن القرآن قد حوى من تفاصيل معرفة الله بأسمائه وصفاته شيئًا عظيمًا، ويدعوهم إلى النظر في مفعولاته، فإنها دالة على أفعاله والأفعال دالة على الصفات، فإن المفعول يدل على فاعلٍ فعلَه".

قوله: الرب يدعو عباده إلى معرفته من طريق تدبر آياته المتلوة، فإن القرآن قد حوى من تفاصيل معرفة الله بأسمائه وصفاته... إلى آخره، يعني من أراد أن يعرف المعبود فعليه أولاً: أن يتدبر القرآن، وفيه من أسماء الله وصفاته ودلائل قدرته وعظمته الشيء الكثير، كما هو معلوم، سواء كان ذلك بذكر الأسماء والصفات مباشرة، أو بذكر القصص والأخبار، أو كان ذلك بذكر تشريعاته التي تدل على كمالاته إلى غير هذا مما يدل على عظمة المعبود وعلى كماله .

يقول: ويدعوهم إلى النظر في مفعولاته فإنها دالة على أفعاله، يعني ما فيه من دلائل عظمته هو يدعوهم إلى النظر في مفعولاته: السماوات والأرض، وما فيها من الأفلاك، والنجوم، والجبال، والشجر، والأناسي، وما إلى ذلك؛ كل هذا يدل على عظمته وقدرته، حيث صرف الخلق هذا التصريف، وهذه المخلوقات والأجرام العظيمة تدل على خالق عظيم قوي قادر، وهذه الدقة فيها وفي انتظامها وسيرها تدل على علم دقيق، إلى غير ذلك، فالنظر في هذه المفعولات يدل على فاعل فعله، وذلك يستلزم وجوده وقدرته.

"وذلك يستلزم وجوده، وقدرته، ومشيئته، وعلمه؛ لاستحالة صدور الفعل الاختياري من معدوم، أو موجود لا قدرة له، ولا حياة، ولا علم، ولا إرادة، ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوعة".

هذه الآن طريقة يعني الآن عندنا القرآن فيه من ذكر صفة المعبود الشيء الكثير بأسمائه وصفاته وأفعاله.

وعندنا أيضًا ما أرشد إليه القرآن من النظر في العالم العلوي والسفلي فإن ذلك يدل على أن هذا الخالق متصف بصفات الكمال.

ثم عندنا أيضًا قال: لاستحالة صدور الفعل الاختياري من معدوم أو موجود لا قدرة ولا حياة ولا علم ولا إرادة ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوعة دال على إرادة فاعل، وأن فعله ليس بالطبع بحيث يكون واحدا غير متكرر.

قوله: التخصيصات يعني هذه النطفة، هذا الحيوان المنوي لما تتحول إلى خلية، ثم بعد ذلك تبدأ بطور العلقة، ثم المضغة هذا يكون كبدًا، وهذا يكون قلبًا، وهذا يكون عينًا، وقد يكون قرنية، وهذا يكون لسانًا، وهذا يكون عظامًا كل هذه الأشياء بهذه التخصيصات تدل على ماذا؟ وبهذه الطريقة، وبهذا التصوير الدقيق، يعني لماذا لا يكون قلب الإنسان مثلاً في رأسه؟!

قلوب بعض الناس لماذا لا تكون في رؤوسهم؟!

هذا الإنسان الكُلى تجد أنه له كليتان، وله قلب واحد، لماذا لا يكون له قلبان وكُلية واحدة؟! لماذا لا يكون له عين واحدة؟! أو أربع؟!

وكذا العين في هذا التجويف من العظام بحيث يوجد عليها حماية، وتكون في الأعلى في القمة؛ لأن الرأس بمنزلة الرادار أعلى شيء تكون فيه الحواس الخمس، أو الأربع، لكن الخمس في الواقع موجودة أيضًا فيه فلماذا لا يكون الذوق في العين؟! لأن الطعام هنا، لماذا لا تخرج الأسنان مثلاً في الأيدي؟! لأنه يحتاجها في الأسنان، طيب هذا الطفل الصغير الذي في بطن أمه ما حاجته إلى الفم؟! لأنه سيخرج، ما حاجته إلى الأرجل وهو ما يمشي؟ لأنه سيخرج ويمشي، لماذا كانت هذه الحيوانات التي هي من قبيل السباع تأكل الفرائس؟ لماذا لها أنياب ولها مخالب؟! ولماذا كان غيرها مما يأكل الأعشاب ونحو ذلك لها قواطع ولها أظلاف إن كانت مما يعيش في الجبال أو نحو ذلك ومهيأ لهذا؟!

وإن كانت مما يعيش في الرمال كانت لها خفاف لماذا هذه التخصيصات لماذا هذه الأشياء التي تعيش في شدة الحر من الحشرات ونحوها والزواحف يكون عندها قدرة عالية على تحمل الحرارة الشديدة، وفي الشتاء عندها قدرة عالية على الصبر لمدة أشهر وهي فيما يسمى بالبيات الشتوي، لا تخرج ولا تتنقل في معايشها، وإنما كامنة حتى ينتهي هذا الشتاء، هذه التخصيصات عجيبة.

وإذا نظرت إلى الحيوانات التي تعيش في الأماكن الباردة شديدة البرد القطب الشمالي تجد أنه يكسوها أصواف أو وبر كثيف لماذا لا يكون هذا المناطق الصحراوية الحارة؟! لأنها تحتاج هناك إلى هذا.

وقل مثل ذلك الأسماك لماذا لا يكون الجهاز التنفسي عندها مثل الذي عند الحيوانات التي تعيش في الصحراء؟

لأنها تحت الماء تحتاج إلى نوع آخر وطريقة أخرى تمتص فيها الأكسجين وهي داخل الماء، فإذا خرجت لا تستطيع التنفس وتموت؛ لأنها ما هيئت لتعيش في الهواء الطلق، وإنما في الماء هذه التخصيصات تدل على علم دقيق، فتجد كل هذه الحيوانات التي تعيش في الماء لها نمط معين في تركيبها، وأجهزتها، وطبيعة خلقها من أجل الحركة، وسرعتها، وسهولتها بينما تجد التي تعيش في البر لها عالم آخر هي تحسنه، لكن لا يحسنه النوع الآخر الذي يعيش في بيئة أخرى، ولو أتيت بحيوان من هذه الحيوانات البرية وألقه في لجة البحر انظر ماذا يفعل؟ لكن انظر إلى هذه الحيوانات البحرية وألقه في البر وانظر ماذا كيف يكون حاله ومآله؟!

فهذه التخصيصات أيضًا تدل على إرادته سبحانه، وأن فعله ليس بالطبع كما يقول الطبائعيون، يعني الذين يقولون: أنتجت الطبيعة، الطبيعة أوجدت كذا، ما هذه الطبيعة التي تفهم هذا الفهم الدقيق؟! وهذا التصريف العجيب؟! انظر إلى أمعاء الإنسان انظر إلى تكرير الدم انظر إلى الكريات الحمراء والبيضاء، وكيف يحصل لها من التجدد في الثانية الواحدة! توضع لها مقبرة في الطحال، وبنشاط دقيق بحيث لو زاد نشاط الطحال يمكن أن يموت الإنسان في مدة وجيزة لا تتجاوز ثلاث ساعات ربما، فيقتل الكريات الحمراء والبيضاء أيضا الميتة يقطعها ويجزئها ويفتتها والحية يفعل بها كذلك أيضًا، بينما السليمة تجد العملية تتكرر ومصنع يذهب إلى النخاع ويتجدد ويتحول إلى أشياء تنفع جسم الإنسان، فهذا تصريف الله -تبارك وتعالى-.

هذا الدماغ الذي عجز العلماء والأطباء عن إدراك كنهه، وشدة تعقيده، مواضع تتعلق بالإحساس، ومواضع تتعلق بالسمع، ومواضع تتعلق بالبصر، ومواضع لو اختلت حصل للإنسان الشلل، ومواضع تتعلق بالمشي لا يستطيع أنه يمشي، التوازن؛ كل هذا فهذه الأشياء تدل على خالق عليم قادر مريد هذا مراده بالتخصيصات.

فهو وفق نظام دقيق يعني انظر مثلا كما يقول ابن القيم في بعض كتبه: المعز تنتج اثنتين يعني تلد اثنتين في الغالب الضأن تلد واحدة، ومع ذلك أكثر ما يذبح ويستهلك الناس الضأن، فالضأن أكثر في الواقع مع أنه ما يلد إلا واحدة وهو الأكثر في استعمال واستهلاك وأكل الناس ومع ذلك هو الأكثر، هذا التوازن الموجود في الخلق، وهناك أشياء فبعض الأسود أو النمور التي كانت توجد في بعض الغابات في القارة الأمريكية، ويوجد نوع من الغزلان وهذه الأسود تتغذى على هذه الغزلان فقُتل كثير من هذه الأسود فحصل خلل هذه الغزلان تكاثرت جدًا وكانت تعيش على نوع من النباتات والزهور فلم تف هذه الزهور والنباتات بحاجتها، فصارت تموت بالمجموعات؛ لأنها لا تجد ما تأكله، يعني هذه الأنواع وهذه الغزلان هي لا تأكل كل شيء أخضر أمامها، ورأيت هذا في بلاد كلها خضراء لا بد يأتون لها بنباتات معينة تسألهم تقول لهم: الآن هذا المكان الذي فيه هذه الظباء كثير لماذا لا تتزايد، العام الماضي، وقبل العام وقبل العام وهو نفس العدد تقريبًا عندكم مثلا خمس وأربعين منها فقط في مكان واسع يقولون: النباتات التي تتغذى عليها محدودة معدودة فلا بد من توفيرها وإلا تموت، فما عندنا الكميات الكافية لو تكاثرت، فيقولون: نحن نبيع منها مباشرة أو نذبحها وإلا ستموت، فهذا التوازن، هذه الأسود وهذه الأنواع من الغزلان هذه تتغذى على هذه التوازن موجود، تدخل الإنسان وجد الخلل ماتت هذه بسبب الجوع فهذا تدبير العزيز الحكيم .

والمناعة الطبيعية عند الإنسان إذا حصل تسمم في المعدة مباشرة تبدأ المناعة الطبيعية، يبدأ -أعزكم الله- الاستفراغ والإسهال هذه مناعة طبيعية حذاق الأطباء ماذا يقولون؟

يقولون: لا يحتاج إلى تدخل الإنسان لكن يحتاج إلى سوائل حتى لا يحصل جفاف ولربما يعطونه أشياء طبيعية فقط لكن شيء يوقف الاستفراغ والإسهال يساوي اجتماع السموم فتفتك به ويموت؛ لأن بعض الناس يسارع إلى المستشفى من أجل إيقاف هذا، لا، خل الجوف ينظف، هذه مناعة طبيعية لا تقلق، لكن عليك بالسوائل من أجل ألا يحصل الجفاف.

فهذا تقدير الله وعلمه المحيط، إذا دخلت جرثومة أو جرح الإنسان بدأ يحمر المكان وهنا تبدأ تشتغل كريات الدم البيضاء تقاوم الجراثيم، حصل تجاوز صارت الجراثيم قوية بدأت العقد اللمفاوية تتضخم محابس حتى لا يصل إلى الجوف، فهذا كله تحصينات.

"ما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دالة على حكمته، وما فيها من النفع والإحسان والخير دال على رحمته".

قوله: ما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته فهذه الأشياء التي شرعها الله -تبارك وتعالى- أو أوجدها وخلقها فيها هذه المنافع للناس فيدل على الحِكم، وكل شرع الله -تبارك وتعالى- إنما هو مبناه على الحكمة، وسأتكلم إن شاء الله عند الكلام على اسم الله الجبار بأحد معانيه بأشياء هي من هذا القبيل، كل الشريعة من أولها إلى آخرها مبناها على الحكمة.

وما فيها من النفع والإحسان والخير دال على رحمته وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28] فهذا من مظاهر رحمته -تبارك وتعالى- هذا العطف والرحمة الموجودة في قلوب الخلق حتى البهائم فيحسن إلى صغاره، يحسن إلى الآخرين يعطف قلبه عليهم على المحتاجين، فهذا كله من رحمة الله بهذه المخلوقات وإلا كانت الأم تلد الولد وتذهب وتتركه، وهكذا لا يعطف أحد على أحد فيبقى كل إنسان يواجه مصاعب الحياة وحده، ويواجه المصائب وحده، ولكن الله عطف قلوب الخلق.

وهكذا أيضًا حيث فاوت بينهم في الهمم والإرادات، والميول، والقدر، والإمكانات؛ حتى تقوم مصالح الدنيا، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى [النجم:48] أعطى كل واحد ما أعطاه وأرضاه بما أعطاه كما قال ابن عباس[16] -رضي الله عنهما-.

فهذا يشتغل خبازًا وهذا بناء، وهذا نجارًا، وهذا ساقيًا، أو زارعًا، أو غير ذلك فتحصل مصالح الناس لو كان كل الناس يريدون أن يجلسوا على مكتب وتركت المهن والصنائع والحرف من يبني للناس الدور؟ كيف يأكلون الخبز؟! من الذي يزرع؟! ومن الذي يطحن؟! ومن الذي يخبز؟! ففاوت الله بينهم: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32] لماذا؟ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32] يعني ليسخر بعضهم لبعض، فالله جعل بينهم هذا التفاوت، ومن مصادمة الفطرة أن الإنسان يلزم أحيانًا بأشياء لا ناقة له فيها ولا جمل ولا يصلح لها إطلاقًا، يقال له: ادخل في التخصص الفلاني وهو لا يحسن هذا، وهكذا.

"وما فيها من البطش والعقوبة والانتقام دال على غضبه، وما فيها من الإكرام والتقريب والعناية دال على محبته، وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان دال على بغضه ومقته، وما فيها من ابتداء الشيء في غاية النقص والضعف ثم سوقه إلى نهايته، وتمامه دال على وقوع المعاد، وما فيها من أحوال النبات والحيوان وتصرف المياه دليل على إمكان المعاد".

كل هذا أحوال النبات كيف الإنسان يبدأ نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم بعد ذلك يتحول إلى عظام، ثم يكسا العظام لحما، ثم يتحول إلى مخلوق آخر تنفخ فيه الروح يكتمل، ثم لا بد أن يخرج ما يمكن يجلس في بطن أمه لا بد من خروجه، فيخرج إذا اكتمل نموه ويتهيأ لهذا الخروج فينقلب الجنين من أجل أن يتهيأ للخروج فيكون أول ما يخرج رأسه، ثم بعد ذلك تبدأ مرحلة جديدة ذات مراحل ثم بعد ذلك لا بد أن يموت يعني يبدأ مثل الهلال، في بطن أمه حتى يكتمل في الحياة يبدأ الإنسان يولد مثل الهلال، صغيرا ضعيفًا ثم بعد ذلك يبدأ يكتمل شيئا فشيئا حتى يصل إلى الكمال، ثم يبدأ بالضعف حتى يتلاشى، هذه طبيعة الإنسان هذا خلق الله -تبارك وتعالى- وتصريف أمور هذه الخليقة، فالإنسان إذا نظر إلى هذا في نفسه وفيمن حوله وجد أن الحياة جميعًا تدور بهذه الطريقة هذا في التجارات، تجد المشروعات والأعمال الضخمة بدأت ببدايات بسيطة حتى تكتمل ويكون لها وهج، وحق على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه، ثم يبدأ هذا الوهج يضمحل شيئا فشيئا إلى أن يتلاشى، وهكذا قل مثل ذلك في نشأة الدول تبدأ ضعيفة ثم تكتمل حتى تصل إلى قمة قوتها، ثم بعد ذلك تبدأ بالانحسار والضعف، وهكذا.

فهذا كله في شأن هذا العالم، ومثل هذا الهلال الذي نشاهده، فهذا كله يدل على المعاد، وأن هذه الدنيا متقضية وأنها عاجلة، وأن الإنسان لا يغتر بها وما فيها من المباهج والزينة، وما إلى ذلك لا يغتر بشبابه لا يغتر بقوته لا تغتر المرأة بحسنها وجمالها.

"وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة دليل على صحة النبوات، وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها فمفعولاته من أدل شيء على صفاته، وصدق ما أخبرت به رسله عنه".

يقول: وما فيها من ظهور آثار الرحمة والنعمة دليل على صحة النبوات؛ فإن من فضل الله على عباده أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب من أجل أن يبين لهم ما يحتاجون إليه، ويكون به سعادتهم، ويكون به كمالهم، وما إلى ذلك وما فيها من الكمالات التي لو عدمتها كانت ناقصة دليل على أن معطي تلك الكمالات أحق بها، فكل كمال تراه من الجمال من القوة من الغنى وما إلى ذلك فالله هو معطي هذا الكمال، فهو أحق به ولهذا كانت القاعدة: أن كل كمال أعطي للمخلوق فالخالق أولى به، والمقصود بذلك الكمال المطلق من كل وجه، وهذا إنما يقوله أهل السنة في مقام الرد على أهل البدع المعطلة النفاة صفات الكمال، وإن كان أهل السنة لا يثبتون بذلك بهذه القاعدة لا يثبتون بها صفات على سبيل الاستقلال من عند أنفسهم، فإن الصفات إنما تكون متلقاة من السمع، وإن كان العقل يدرك في الجملة بعض صفات الكمال، لكن لا يثبتون بهذه القاعدة أوصافًا على سبيل الاستقلال كل كمال ثبت للمخلوق يعني كل كمال مطلق؛ وإلا فالزوجة كمال بالنسبة للمخلوق الولد كمال بالنسبة للمخلوق، لكنه ليس بكمال مطلق فهو نقص في حق الخالق، ولهذا ينزه عنه.

"قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلأ بالباطل اعتقادا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرّغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها".

قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، يعني القلب كما يذكر الحافظ ابن القيم هنا، وفي غيره من المواضع، وشيخ الإسلام ابن تيمية[17] -رحمه الله-، وما إلى ذلك في الكلام على التدبر، أو الكلام على تزكية النفوس، أو غير ذلك بأن معنى التزكية أنها تنتظم معنيين:

المعنى الأول: التطهير.

والمعنى الثاني: التنمية، يقولون: لا يزكو الزرع، يعني ينمو إلا إذا كان المكان المحل قد نقي من الشوائب، والنباتات الضارة التي تعوق دون نمو هذا النبات، فلا بد من أمرين: التخلية، والتحلية، فيحصل بذلك الزكاء بمجموعهما، ومن ثم فإن تفريغ المحل القلب المشغول باللهو والغفلة والباطل وحب الغناء، وما إلى ذلك، لا يمكن أن يكون هذا القلب محلاً صالحًا لتدبر القرآن، والاتعاظ والتأثر به، فالكأس لا يمكن أن يوضع فيه اللبن ونحو ذلك إذا كان فيه الخل مثلاً، لا بد من الإناء القذر لا يمكن أن يوضع فيه الماء ويشرب بل لا بد من تطهير المحل أولاً حتى ينتفع بالشيء الذي يكون فيه، تفريغ المحل، هذا الكأس فيه ماء إذا كنت تريد تشرب به شيئًا آخر ففرغ هذا المحل، فهكذا القلب فهو وعاء، والسمع والبصر ميزابان يصبان في القلب، فمن الخطأ أن يجعل القلب محلاً لكل قذر، فينظر الإنسان بعينه إلى كل ما يضره من الشبهات والشهوات، فيسرح بصره في الشاشات، والقنوات، و.. و.. إلى آخره.

ومن الخطأ أن يرخي سمعه لكل أحد فيلقى في قلبه من اللغو والباطل والأمور التي تحرك الغرائز أو تثير الشبهات، ويحصل له بسبب ذلك أيضًا ألوان الضرر، فهذا القلب وعاء لا بد من تفريغه، ولا يتحقق له ذلك إلا بحفظ السمع والبصر أولاً، حتى في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، بعض أهل العلم فسروا هذه الآية مع أن هذا خلاف الراجح لكن ذكر بعض الأئمة قالوا: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر بمعنى أنه في اشتغاله بالصلاة يكون ذلك انصرافًا منه عن الاشتغال بالفحشاء والمنكر، فإن النفس إن لم تشغل بالطاعة شغلت صاحبها بالمعصية، ولذلك الناس الذين يعانون أحيانًا من ذنوب، أو وساوس أو معاصي في الخلوات، أو غير ذلك، هؤلاء يندب في العلاج إلى شغلهم أن يشتغلوا بشيء، والناس في هذا الاشتغال على مراتب، أدناه أن يشتغل بمباحات، ولو من أمور الدنيا، والتجارة، أو غير ذلك، أو يشتغل بهذه الأشياء من أجل أن لا يشتغل بالمعصية، يقول: لو جلست ما عندي شيء مباشرة جاءت الواردات والخواطر السيئة، والوساوس، نقول: انشغل، ولذلك تجد الإنسان أحيانًا إذا كان لا يشتغل المرأة لا تشتغل في البيت، لا تساعد، البنت لا تساعد أمها، لا تعمل في المطبخ، لا تغسل الأواني، لا تقوم بالطبخ، أو غير ذلك من أعمال المنزل التي هي شرف لها، وتاج على رأسها لدى أصحاب الذوق الصحيح السليم، والفطر الصحيحة، إذا كانت لا تزاول هذه الأشياء ولا تعملها وباقية لا تنتفع بقراءة قرآن، ولا غيره، يعني الله لما قال: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، قال: وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33]، تنشغل بشيء، فإذا بقيت فارغة بدأت الأوهام، ولذلك تجد أكثر من يأتي الرقاة من النساء، فهي تتوهم أشياء لا حقيقة لها، تتوهم أن بها مس وسحر، وتشعر بمشاعر وأمراض، وأوجاع، يعني تارة في رقبتها، وتارة في جوفها، وتارة في رأسها، وتارة في... وتتكرر عليها هذه الأوهام والأوجاع، وتترادف حتى لربما يقعدها ذلك عن الحركة والمشي، وتنصرف الأوقات والجهود في الذهاب إلى هذا الراقي أو ذاك، فهذا يحتاج إلى إشغال.

"قال يحيى بن معاذ: "من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرده"، قلت: إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته وفاقته، وقوي رجاؤه؛ فلا يكاد يرد دعاؤه".

يحيى بن معاذ من الزهاد معاصر للإمام أحمد -رحمه الله-، توفى سنة: 258 للهجرة، يقول: "من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرد"[18]، وابن القيم يقول: "إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته، وفاقته، وقوي رجاؤه؛ فلا يكاد يرد دعاؤه"[19]، ابن القيم يذكر هذا المعنى، وشيخ الإسلام[20]، أيضًا كثيرًا ما يذكرونه في موضعين:

الموضع الأول: عند الكلام على القبوريين، والدعاء عند القبور، وتحري الدعاء عند القبر، فيقولون: إن هؤلاء قد يبتلون فيدعو الواحد منهم عند القبر ويتحرى الدعاء عند القبر فيحصل له مطلوبه ابتلاء وفتنة، ويذكرون عندها جملة وهي أنه قد يوجد في هذه الحال من حضور القلب، والضراعة، والانقطاع من المخلوقين، ما يكون موجبًا لإجابة الدعاء لا لوجوده عند القبر، فيتوهم أن ذلك حصل له بسبب أن هذه البقعة شريفة، وأن الدعاء عندها يستجاب، وابن القيم يذكر هذا أيضًا في مقام آخر، يذكر بعض الأدعية التي يقال: إنه استجيب لصاحبها فلان، يقول: دعوت بكذا وكذا وكذا فحصل لي كذا، فأجيبت دعوتي! ابن القيم يقول: "لا لأجل هذه الكلمات، وإنما من أجل ما قام بقلبه حينما دعا"[21]، وهذه نقطة مهمة جدًا ترسل الآن رسائل بالجوال فلان، يقول: هذا دعاء مجرب، دعاء مجرب؟!

تكفينا الأدعية التي في القرآن، والأدعية التي ثبتت عن رسول الله ﷺ، ولسنا بحاجة إلى أدعية مجربة، وللأسف أنها تنتشر عند الناس انتشارًا واسعًا، ويتلقفونها أعظم ما يتلقفون ما جاء في الكتاب والسنة، فالناس يسرعون إلى هذه الأمور، وهذا خطأ، نحن نشتغل بالأدعية والأذكار الواردة، أما ما يركبه بعض الناس، ويقولون: هذا دعاء مجرب فلا نشتغل به، هذا خطأ انتبهوا له، ويتكرر برسائل الجوال، دعاء مجرب، قال: فلان هذا دعاء جرب في المكان الفلاني، دعاء عند الملتزم، جرب في كذا، هذا خطأ، لكن هذا الدعاء المجرب قد يحصل معه من حضور القلب.. إلخ ما يكون سببًا للإجابة، هذا جانب.

الجانب الآخر: الذي يذكر فيه مثل هذا وهو دعاء المشركين: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، فيستجاب أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، فدعاء المضطرين يستجاب؛ لأنه انقطع رجاؤهم، وعلائقهم من جميع المخلوقين، وهو مشرك، لكن في هذه اللحظات صار توجهه إلى الله وحده، لا يلتفت إلى شيء سواه، فمثل هذا التجرد العظيم والانقطاع عن كل الأسباب يحصل بسببه إجابة الدعاء، ولو كان مشركًا؛ إذن المقام الثاني هو دعاء المضطر.

المضطر هذا لو كان دعا بدعوة معينة بعبارات معينة، ويقول: أنا دعوت بكذا، فاستجيب لي، نقول: لا، ليست عبارتك هي التي حصل بها هذا، وكانت لها هذه المزية، إنما حال الاضطرار، فلا داعي لتناقل هذه العبارة التي دعا بها في حال الاضطرار، ويقال: دعا بها فلان فاستجيب له، هذا خطأ، ولذلك نحن في دعائنا في كثير من الأحيان نرفع اليدين، وأحيانا نكتشف أننا رفعناها مدة طويلة وننظر إلى المحصلة، نجد أن أشياء كثيرة مما كنا ندعو به، أو تعودنا أن ندعو به، أننا لم نقل من ذلك شيئًا، والسبب أن القلب كان في مكان آخر مشغول، القلب غير حاضر في الدعاء، فتجد الإنسان رافعًا يديه ويفكر في أشياء أخرى، مثل هذا لا يحصل معه إجابة الدعاء مع هذه الغفلة لكن لا بد من حضور قلب وصدق وضراعة، وأن يكون محسن الظن بربه -تبارك وتعالى- يوقن بالإجابة، فهذا يستجاب دعاؤه إذا وجد معه أسباب أخرى مثل تحري وقت الإجابة، أو مكان أو نحو ذلك فهذا أو حال من الأحوال؛ مثل: عند نزول المطر، حال السجود.

"ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا لسوء ظنه بالله أو لعدم صبره".

عقيدة أهل السنة والجماعة أن الرزق لا بد أن يأتي، والإنسان حينما كان في بطن أمه أرسل إليه الملك بأربع كلمات، حينما يبلغ أربعة أشهر، ومنها: يؤمر برزقه[22]، فما كتب له من الرزق، سيأتيه عقيدة أهل السنة وأن ما يصل إليه من حلال أو حرام أنه كله داخل في الرزق، كل ما يصل إليه فهو من جملة هذا الرزق، لكن هذا الرزق منه ما يحل أخذه ومنه ما لا يحل أخذه كالمكاسب المحرمة، وما إلى ذلك، فهذا الإنسان الذي يريد أن يسرق أو يأخذ هذه الصفقة المحرمة، يأخذ هذا الربا، فإذا كان يوقن أن ما كتب له من الرزق سيأتي لا محالة، لا يمكن أن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، وأن الرزق يطارده كما يطارده الأجل، إذا كان يوقن بهذا؛ فإنه لا يمكن أن يعمد إلى الحرام إلا لسوء ظنه بربه، أو لقلة صبره يعني بمعنى أنه لو صبر هذا سيأتيه بالحلال نفس هذه المائة ألف لو صبر ستأتيه بالحلال، فإذا ما صبر أخذها بالحرام، فهذا هو اعتقاد أهل السنة في هذا الباب خلافًا للمعتزلة.

وانظروا كيف تؤثر العقائد الفاسدة في السلوك، والله المستعان.

فهذا الذي يسرق هذا الذي يغش الناس، وهذا الذي يدلس، وهذا الذي يكذب في أوصاف السلع، هذا الذي يطفف في المكاييل رزقه سيأتيه لكن سوء ظنه بربه يحمله على هذه الأمور، يظن أن الآخرين سيأخذون رزقه، وأن الرزق هكذا يكون الرزق خبط عشواء بل نهبة ينتهبه الناس، فإذا سبق إليه ضاع هذا لا وجود له، عليه أن يبذل الأسباب الصحيحة، ولهذا قال النبي ﷺ: لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها فاتقوا الله[23]، يعني خذوا من حله: وأجملوا في الطلب، لا تتهافت على الدنيا أنت مهما كنت تسعى الليل والنهار لن يأتيك أكثر من رزقك، ولذلك تجد بعض الناس يعمل الليل والنهار، ومع ذلك الذي يأتيه قليل.

وبعضهم لا يكاد يعمل بسماعة فقط يرفعها هذه خمسة ملايين سعي في عقار، مكالمة واحدة السعي يصل إلى ثلاثين مليون، وهو في بيته، وهذاك يجمع علب البيبسي الفارغة من المزابل -أعزكم الله-، ويجمع الأسلاك، وقطع المعادن، و..و.. إلى آخره، ويحملها على ظهره من قبل طلوع الشمس قبل الفجر إلى أن يصلي العشاء، أو بعد صلاة العشاء، عينه حولاء -أعزكم الله- على هذه الأماكن والمزابل، ومع ذلك كم يحصل؟!

بضع مئات! وهذا بمكالمة واحدة قد يحصل له ما يقرب من هذا ثلاثين مليون بسعي في عقار واحد.

وبعض من لم يعافس هذه القضايا ويعرفها أصيب بصدمة عصيبة، أو جلطة، أو كذا، ودخل المستشفى وفقد الوعي لما قيل له: أنت لك سعي كم السعي هذا؟

وهو طالب في الجامعة ما شاف عشرة آلاف ريال، فلما ذكرت له الملايين سقط: لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، وذكرت في الأسماء الحسنى بعض النماذج والأمثلة: والرجل الذي سقط في البئر ثم جاءوا، وأخرجوه ولم يحصل له ضرر ظنوا أنه مات فأخذوه في مجلسهم، وسألوه، وسقوه لبنا، كيف سقطت يا فلان؟!

فأخذهم معه ليريهم كيف كان يمشي فجاء يقول: أنا كنت جاي من هنا وحصل كذا، فزلت قدمه فسقط ثانية فأصابته أطراف البئر وجوانبه فما وصل إلى قعرها إلا وهو ميت، كان باقي له من الأجل قليلاً، وباقي له شربة من لبن ما استوفاها فسقط ولم يمت حتى يخرج ويشرب هذه الشربة، هذه واقعة حقيقية: لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، لا تقلق على الرزق حتى ولو كنت قلقًا لن يقدم شيئًا ولن يؤخر، الذين ماتوا أخذوا أرزاقهم كاملة لربما كانوا قلقين بعضهم لا ينام الليل من القلق، كيف سيطعم عياله؟! أو كيف سيحصل الصفقة الفلانية وإلا كيف سيشتري أرضا! وكيف سيعمرها؟!

وماتوا، القلق لم ينفعهم بل ضرهم، لم ينفعهم بل ضرهم، فلا تقلق على الرزق، ولا على الأجل، وهذان أعظم ما يؤثر في الإنسان، علل الناس والكآبة والضيق والأوهام من هذه، الخوف على الأجل والخوف على الرزق.

"التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه، فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها، وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها فلا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد".

يعني بمعنى أن الكفار إذا ركبوا في الفلك، وتلاطمت الأمواج، ووقعوا في المخاطر فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] ، فالتوحيد مفزع لأهل الإيمان ولأهل الإشراك، لكن أهل الإشراك ينجيهم من كرب الدنيا، أما أهل الإيمان فينجيهم من كرب الدنيا والآخرة: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، في القراءة الأخرى: {بِكَافٍ عِبَادَهُ}، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ[آل عمران:111].

"جمع النبي ﷺ بين تقوى الله وحسن الخلق؛ لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته، وجمع ﷺ بين الاستعاذة من المأثم والمغرم؛ لأن المأثم يوجب خسارة الآخرة، والمغرم يوجب خسارة الدنيا، وجمع ﷺ في قوله: فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، بين مصالح الدنيا والآخرة، فإن من اتقى الله أدرك نعيم الآخرة، ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها".

هذا وجه لهذه الأمور المقترنة، يعني هذا نوع من المقترنات، يعني هذا نوع من العلم لطيف وحسن وهو من مُلَح العلم وليس من صلبه، يعني دلالة الاقتران عند الأصوليين فيها تفصيل كثير، وتسمعون في كتب الأصول وتقرؤون أنها دلالة ضعيفة يقوله بعض الأصوليين، والواقع أنها أنواع، وفيها تفصيل، لكن إذا كنا في إطار يعني عندنا صلب العلم، وعندنا مُلَح العلم، وعندنا فضول العلم؛ ثلاثة أشياء فإذا أردنا أن نصنف مثل هذه الأشياء المقترنات لماذا قرن الله بين الصلاة والزكاة مثلاً: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، يقرن بينهما كثيرًا، لماذا هنا الاقتران بين تقوى الله وحسن الخلق في الحديث عن النبي ﷺ هذا من ملح العلم، يعني توجيه قد يكون صحيحًا، وقد يكون غير دقيق، فابن القيم[24] -رحمه الله- يقول: "لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه"، يعني أن تقوى الله يكون العبد فيها في حال من الصلة بالله -تبارك وتعالى- والقرب منه، وحسن الخلق هو يجعل العبد في حال من الصلة بالخلق والقرب منهم؛ فيوجب محبة الخالق، ومحبة المخلوق، يعني يوجب له محبة الخالق بتقوى الله، ومحبة المخلوقين بحسن الخلق الناس لما يرون الإنسان فيه دماثة في أخلاق حسنة تنجذب إليه القلوب، وتحبه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:34-35]، فهذا حسن الخلق، وقد يقال: بأن حسن الخلق هو من جملة تقوى الله، وما ذكره ابن القيم حسن.

ثم يقول المثال الثاني: الجمع بين الاستعاذة من المأثم والمغرم، المأثم ما يوجب الإثم، يعني المعاصي والذنوب والكبائر والصغائر هذا كل ما يوجب الإثم من الكبائر والصغائر هذا المأثم، والمغرم ما يوجب له الغرم، يكون الإنسان عليه غرم، الناس يطلبونه والنبي ﷺ استعاذ من غلبة الدين، وقهر الرجال[25].

فهذا المأثم يضره في الآخرة، ويوجب خسارتها، والمغرم يوجب له خسارة الدنيا فيحصل له الأذى بهذا وهذا، يعني أذى في الدنيا وأذى في الآخرة.

وهكذا: اتقوا الله، وأجملوا في الطلب يقول: من اتقى الله أدرك نعم الآخرة، ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها، وممكن أن يقال كما سبق: اتقوا الله بمعنى أن يأخذه من حله، وأجملوا في الطلب، لا تتهافتوا على الدنيا، وكون الإنسان في غاية الحرص والهم والاشتغال والتكالب لن يأتيه إلا ما كتب له من الرزق، يبذل الأسباب، ولكن من غير هذا التدقيق والتنقير والحرص الزائد، ولذلك تجد الإنسان في كثير من الأحيان إذا كثرت أمواله أو حرصه أصابته الأوجاع والأمراض المستعصية، فتجد عنده ارتفاع في الضغط، وتجد عنده السكر، وتجده عنده مشاكل في القلب، والسبب أن الأتعاب كثير، أتعبه هذا الحطام، لكن لو أنه علم واستراح أنه لن يأتي إلا ما كتب له لاطمأنت نفسه، ولم يأسف على فائت، أنتم تظنون أن أصحاب الأموال في راحة؟ أبدًا هم من أتعب الناس يتعبون في جمعها وهم من أشد الناس قلقًا وتخوفًا عليها، إذا صار اهتزاز في الاقتصاد صارت مخاوف، وحرب تلوح، تحليلات، وهو في غاية القلق؛ يحولها إلى سبائك، يحولها إلى يورو، يحولها إلى ين، أين يجعلها؟! مرة هكذا، ومرة هكذا، يجعلها في عقار، يجعلها في أسهم، ماذا يفعل بها؟! لكن صاحب القليل في راحة، وما عنده شيء أصلاً حتى يحوله إلى سبائك، ولا إلى يورو، ولا غيره، كذلك أيضًا هو دائمًا في قلق يفكر في مشروعات قادمة، والمشروعات السابقة ماذا حصل لها؟

هناك أموال ومشاريع متعثرة، واستثمارات ومخططات كاملة، لربما معلقة، متعثرة، هناك مساهمات متعثرة، هناك ديون ما رجعت، فهو دائمًا يتآكل، والله المستعان.

 

  1. بدائع الفوائد (3/228).
  2. بدائع الفوائد (3/218).
  3. بدائع الفوائد (3/215).
  4. بدائع الفوائد (3/216).
  5. اللطائف (ص: 13)، بترقيم الشاملة آليا.
  6. المدهش (ص: 260).
  7. اللطائف (ص: 20)، بترقيم الشاملة آليا.
  8. أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الدهن للجمعة، برقم (883).
  9. أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، برقم (857).
  10. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء، آمين فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3225)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، برقم (2106).
  11. انظر: مجموع الفتاوى (5/552)، وشرح حديث النزول (ص: 169).
  12. انظر: مجموع الفتاوى (13/242)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/391).
  13. الفوائد لابن القيم (ص: 3)، ومفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/170).
  14. انظر: مجموع الفتاوى (9/293).
  15. مفتاح دار السعادة (1/170).
  16. تفسير الطبري (22/84).
  17. انظر: مجموع الفتاوى (10/96).
  18. الفوائد لابن القيم (ص:47).
  19. الفوائد لابن القيم (ص:47).
  20. انظر: مجموع الفتاوى (11/293).
  21. انظر: الجواب الكافي (الداء والدواء) (ص: 15).
  22. أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب قول الله -عز وجل-: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، برقم (318)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم (2645).
  23. أخرجه ابن ماجه، أبواب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، برقم (2144)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2742).
  24. الفوائد لابن القيم (ص: 54).
  25. أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم (1555)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (2169).

مواد ذات صلة