الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
19- منهاج السنة. القواعد 239- 248
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الأوّل / ١٤٣٣
التحميل: 3881
مرات الإستماع: 2692

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

"فمن تكلم في هذا الباب -أي مدح الصحابة أو القدح فيهم- بجهل أو بخلاف ما يعلم؛ كان مستوجبًا للوعيد ولو تكلم بحق لقصد الهوى لا لوجه الله أو ليعارض به حقًا آخر؛ لكان أيضًا مستوجبًا للذم والعقاب، ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم ورضا الله عنهم واستحقاقهم الجنة وأنهم خير هذه الأمة التي أخرجت للناس؛ لم يعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة، منها ما لا يعلم صحته، ومنها ما يتبين كذبه، ومنها ما لا يعلم كيف وقع، ومنها ما يعلم عذر القوم فيه، ومنها ما يعلم توبتهم منه، ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره، فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال، وإلا حصل في جهل ونقض وتناقض كحال هؤلاء الرافضة الضلال".

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا رد على هذا الرافضي في قدحه في عائشة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، فشيخ الإسلام يرد على هذا وأمثاله بهذا الرد الذي يمثل غاية الاعتدال، فالكلام في الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- إذا كان بجهلٍ، أو كان بعلم ولكن الهوى خالطه فإن هذا الكلام يكون مذمومًا، وإنما الواجب أن يتكلم الإنسان بمحاسنهم، وأن يعرض عن مساوئهم، وأن يثني عليهم كما دل على ذلك الكتاب والسنة، فهذا أمر معلوم متيقن لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ [الفتح:18].

وهكذا أيضًا في مثل قوله -تبارك وتعالى-: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].

وكذلك لما ذكر المهاجرين والأنصار في سورة الحشر: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:8].

ولما ذكر الأنصار قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[الحشر:9] فهذه تزكية من الله -تبارك وتعالى- فهذا أمر معلوم، فمثل هذا الأصل يتمسك به، ويعول عليه، فإذا ورد ما قد يشكل على ذلك، مما قد يكون عيبا أو قدحا في بعضهم فإنه ينبغي ألا يوقف عنده وإنما يرجع إلى هذا الأصل الكبير، فإن عُلم الجواب عن ذلك الوارد من الإشكال؛ فإنه يذكر في موضعه، وإن لم يعلم تمسك المؤمن بهذا الأصل الكبير؛ ومن ثم فإنه يسلم قلبه ولسانه من مغبة الوقيعة بأصحاب رسول الله ﷺ.

فهؤلاء خيار الأمة، فلا يعارض هذا المتيقن بالمشتبه، وهذا أصل نافع في سائر الأبواب، فنحن نعلم مثلاً أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإذا ورد على المؤمن شبهة أو إشكال فيما يتصل بهذا الباب ولم يعرف الجواب عنها فإنه يرجع إلى هذا الأصل الكبير، أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه.

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فهذا أصل كبير أعظم من الجبل، فيتمسك به فلا يغرق في هذه الشبهة، هذا ينبغي أن يراعى دائمًا فيما يرد على المؤمن وقل مثل ذلك في سائر الأبواب.

فهنا هذه الأمور المشتبهة يرجع معها إلى الأصل المتيقن، وهذه القضايا التي تذكر، هذه الأمور المشتبهة ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أنها على أنواع، وهذه الأنواع يمكن أن تدرس وأن تفصل، بل أن يجعل منها كتابًا حافلاً وفي مجلدات.

وهذه تصلح في عنوانين البحوث العلمية والدراسات والرسائل الجامعية وما أشبه ذلك، فهذه أعذار، كما أنه ذكر هناك في الكلام في أسباب الاختلاف بين العلماء، أعذار العلماء، وكذا أشار -وسيأتي الكلام على مكفرات الذنوب مثلاً- ذكر عشرة من المكفرات في عدد من كتبه، وهنا يذكر أعذار الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- فيما قد ينسب إلى بعضهم، يقول: منها ما لا يعلم صحته، ومنها ما يتبين كذبه -يعني: نعلم أنه كذب-، ومنها ما لا يعلم كيف وقع -يعني القضية لها أصل، لكن لا يعلم الملابسات التي وقعت معها واحتفّت بها-، ومنها ما يعلم عذر القوم فيه -لهم عذر-، ومنها ما يعلم توبتهم منه، ومنها ما يعلم أنه لهم من الحسنات ما يغمره.

فالله -تبارك وتعالى- رضي عن المؤمنين الذين بايعوا النبي ﷺ تحت الشجرة، فهذه من الحسنات العظيمة الماحية، وكذلك قال النبي ﷺ في حق أهل بدر إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم[1]، وهكذا أيضًا قال في حق عثمان -رضي الله تعالى عنه-: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم[2]، فهؤلاء الذين نالوا من عثمان -رضي الله تعالى عنه- وتمالؤوا عليه، ثم آل الأمر إلى قتله -رضي الله عنه وأرضاه- هؤلاء لم يفقهوا هذه الحقيقة، ولم يعوها، إما لجهل من بعضهم، وإما لغلبة الهوى، يقول: فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله، وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال، وإلا حصل في جهل ونقض وتناقض كحال هؤلاء الرافضة، فهذا رد على هذا الرافضي في وقيعته بأصحاب رسول الله ﷺ لاسيما أم المؤمنين عائشة، والكلام الذي بعده هو في الواقع تابع له، وإن كان بين الكلامين بعض الاستطراد، لكنه تبع لهذا الأصل.

"والرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها، أو تمحوها حسناته، أو تكفر عنه بالمصائب، أو غير ذلك، فإن العبد إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب".

هذه المكفرات العشرة ذكرها في التحفة العراقية في الأعمال القلبية، وذكرها في مواضع من هذا الكتاب، وذكرها أيضا في غيره، تارة يذكر بعضها وتارة يذكرها جميعًا، وكذلك أيضًا ذكرها جمع من أهل العلم كالحافظ ابن حجر -رحمه الله-، صنف فيها رسالة مستقلة في الخصال الموجبة لتكفير الذنوب والسيئات، وهي رسالة مطبوعة، وقد طبعت أيضًا في المجلد الأول ضمن مجموعة الرسائل المنيرية.

وهكذا يوجد عدد من الكتب المستقلة في هذا الباب في مكفرات الذنوب، وتجدون بعض هذه الكتب في الموسوعة الشاملة الحديثة، لو نظرتم في أسماء الكتب ووضعتم مكفرات الذنوب، تكفير الذنوب، وما أشبه ذلك من العبارات، في البحث عن الكتب، أسماء الكتب الموجودة في الشاملة، ستجدون عددا من الرسائل حول هذا الموضوع وهو موضوع جليل القدر جدير بالعناية، فالإنسان لا يخلو من ذنوب، لا يخلو من أخطاء، لا يخلو من تقصير، لا يخلو من سيئات، لكن العبرة بما غلب، أما ترى أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.

فالذي يقع في أهل الإيمان بسبب ذنوب وقعوا فيها من غير نظر واعتبار إلى ما لهم من الحسنات العظيمة الماحية؛ فإن مثل هذا يكون إما لجهله وإما لغلبة الهوى، فلا يخلوا أحد من ذنب وهذه الذنوب قد تكون مغفورة مغمورة في بحر حسناتهم، وقد يكون وقع لهم من المصائب العظيمة المكفرة؛ فالإنسان تكفر عنه ذنوبه بالمصائب التي تقع، ويكفر عنه بسكرات الموت، ويكفر عنه أيضًا بما يحصل له من عذاب في القبر، ويكفر عنه بما يجري من أهوال في القيامة، وقد يكفر عنه أيضًا بأمور أخرى، قد يتوب هذا الإنسان وما شابه ذلك، فلا ينبغي أن تلاحقه هذه المعصية وتسير معه حيث سار، ويلمز بها، وينتقص، ويحط من قدره، فهذا لا يجوز، وهذا نحتاج إليه أيها الأحبة في الكلام في الناس سواء كان هؤلاء من أهل الصلاح والعبادة والخير، أو كان هؤلاء من أهل العلم والفضل، فإطلاق الألسن لمجرد زلة زلها، أو خطأ أخطأه، فهذا لا يجوز.

"فإن العبد إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب، ثلاثة منه، وثلاثة من الناس، وباقيها من الله، التوبة والاستغفار والحسنات الماحية ودعاء المؤمنين".

الحسنات الماحية باعتبار أن الحسنات وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] وإنما اختلفوا في الكبائر، هل تذهبها الحسنات أو لا؟ لكن الكبيرة قد تنغمر حتى الشرك الأصغر لما تكلم أهل العلم على قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] إذا كان لا يغفر ليس معناه أنه يخلد في النار، ولكن لا بد أن يعاقب على ذلك، قالوا: وقد لا يعاقب! من أي جهة؟ الذين قالوا: لا يغفر، قالوا: قد ينغمر في بحر حسنات عظيمة، فالعبرة بمن ثقلت موازينه بجانب الحسنات، فهو من الناجين ومن خفت موازينه، فهو من الهالكين، هذه الحسنات الماحية، قال: ودعاء المؤمنين، فإن ذلك يكون سببًا لتكفير، لما يقول: اللهم اغفر له، استغفر للمؤمنين والمؤمنات، فقد يقبل لبعض هؤلاء.

"وإهدائهم لهم العمل الصالح وشفاعة نبينا ﷺ".

فيما يتعلق بإهداء الأعمال الصالحة في كلام معروف لأهل العلم في هذا وليس هذا محله، لكن فقط لبيان موقف شيخ الإسلام من هذه المسألة، الأعمال الصالحة ثلاثة أنواع: أعمال مالية؛ فهذه تصل بلا إشكال، وأعمال بدنية كالطواف والصوم وقراءة القرآن؛ فهذا فيه خلاف كثير بين أهل العلم، فمن قائل: بأنه يصل باعتبار أن الإنسان أهدى ثواب العمل، ولا إشكال في هذا، وأن المرأة التي سألت النبي ﷺ عن الحج عن أبيها[3] وما أشبه ذلك، قالوا: هذا عمل بدني، فأقرها النبي ﷺ على ذلك وقالوا: هذا لا يدل على التخصيص، ومن مانع من ذلك ومنهم الحافظ ابن القيم، والذين قالوا: يصل منهم شيخ الإسلام ابن تيمية[4] فافترق قولهما في هذه المسألة، وابن القيم أطال في الرد على القائلين بأن ذلك يصل، وهؤلاء الذين يقولون: بأنه لا يصل كابن القيم وكثير من أهل العلم يحتجون بالنصوص وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى[النجم:39][5] وأولئك يقولون: نعم ليس له أن يستحوذ على سعي غيره، لكن إن وهبه له، كما أنه لا يستحوذ على مال غيره، فإن وهبه؛ كان له، فيقولون: بهذا الاعتبار، ويحتجون أيضا بنصوص أخرى إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث[6] فذكر الثلاث، قالوا: وليس عمل الآخرين منها، فهؤلاء يقولون: نعم هذا من عمله، الولد الصالح الذي يدعو له والصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به، هذا عمله هو، لكن الكلام في عمل غيره إذا وهبه له، فيجيبون بهذا الجواب.

وهكذا أيضًا سائر الأدلة التي يحتج بها المانعون، بعض أهل العلم يقصر ذلك على ما وردت فيه الأدلة فقط أفأتصدق عنها، قال: نعم[7] فقالوا: المال والصدقة حديث سعد بن عبادة وكذلك أيضًا الحج والعمرة، قالوا هذا ورد، والثلاث التي وردت في الحديث، وبعضهم يحصره في الثلاث، وبعضهم يقول: بأن ذلك يصل في الدعاء والعبادات المالية وما تركب منهما -ما تركب منهما الحج والعمرة- أهل العلم تكلموا فيه، هل هي عبادة بدنية، أو مركبة من البدنية والمالية، فعلى هذا الاعتبار تكون هي القسم الثالث، قالوا: إن ذلك يصل، وأما العبادات البدنية المحضة قالوا: لا تصل، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وطائفة يطلقون القول بأن ذلك يصل[8]، وهي مسألة معروفة، ليس هذا محلها، لكن فقط؛ لأن شيخ الإسلام ذكرها في جملة المكفرات، فأردت أن أنبه على قوله فيها.

والذي أظنه أقرب -والله أعلم- أن الأعمال الصالحة تصل مطلقًا إذا أهدى الثواب، ولكن لا يعني ذلك المشروعية، فالمشروعية قدر زائد على الجواز، فحينما نقول: إنها تصل، وإن هذا يجوز، لكن نرشد الآخرين إلى الدعاء، ونقول لهم: إن النبي ﷺ ما فعل ولا أرشد أصحابه إلى أن يتصدقوا بطوافهم، أو بقراءتهم للقرآن أن يهدوا ذلك إلى غيرهم؛ لأن الإنسان بحاجة إلى العمل الصالح، وفرصته في الحياة محدودة، فكيف يزهد في ذلك ويعطيه لغيره، وأولئك قد أخذوا ما أخذوا من الحياة وعملوا ما عملوا وقدموا والإنسان بحاجة إلى مزيد من العمل والتقرب إلى الله -تبارك وتعالى-، ولهذا نقول: بأن المشروع أن يعمل الإنسان لنفسه وأن يدعوا لغيره ولنفسه، لكن لو أن أحدًا قال: طفت عن غيري، أو أهدي ثواب ختمة لغيري، هل يصل الثواب، أو لا يصل؟

الذي أظنه أقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك يصل، لكنه لا يشرع -والله تعالى أعلم-والمسألة فيها خلاف على كل حال معروف.

"وشفاعة نبينا ﷺ والمصائب المكفرة في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة، ومغفرة الله له بفضل رحمته".

فالمقصود بأن هذه الذي وقعت منه الإساءة والخطأ وما أشبه ذلك لا يعني أنه قد هلك، فقد يكون حط رحله في الجنة، وغفر الله له، وهؤلاء لا يزالون يعيبونه ويذمونه، ولهذا مضى الكلام في التعليق على رياض الصالحين في الليلة الماضية، في قول النبي ﷺ في نهيه عن سب الأموات، وأن من أهل العلم من قال: إن ذلك مطلقًا؛ لأنهم قد أفضوا إلى أعمالهم، فقد يكون الواحد منهم حصل له من أسباب المغفرة وتكفير السيئات وقد اطلع الله عليه وقال: قد غفرت لك ولا أبالي، ثم هؤلاء يقعون فيه، هذا على قول بعض أهل العلم ممن أطلق المنع، وبعضهم فصل في هذا -كما سبق- في سب الأموات.

على كل حال هذه المكفرات العشرة أيها الأحبة جيد العناية بها ومراجعة كلام أهل العلم فيها وجمع ذلك، كلام الحافظ ابن حجر وغيره، ابن الديبع الشيباني له كتاب رسالة مستقلة في هذا الموضوع، وكذلك لآخرين.

"ومما ينبغي أن يعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل في دمائها وأموالها وأعراضها، كالقتال واللعن والتكفير وجماهير العلماء يقولون: إن أهل العدل والبغاة إذا اقتتلوا بالتأويل لم يضمن هؤلاء ما أتلفوا لهؤلاء ولا هؤلاء ما أتلفوا لهؤلاء، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب محمد ﷺ متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية في الدماء والأموال، فكيف بالأعراض كاللعن والتكفير والتفسيق[9]".

هذا الكلام في مسائل التأويل، يعني: هو أنجر بالكلام؛ لأن الصحابة وقع لهم تأويل، ووقع بينهم قتال، ووقعت بينهم أمور معروفة، فهم متأولون مجتهدون، فالإنسان إذا كان متأولاً تأويلاً سائغًا؛ فإن الله يغفر له ذلك ولا يؤاخذه بخطئه إذا كان أهلاً للاجتهاد وكان هذا التأويل كما هو معلوم من قبيل التأويل السائغ، ومسألة المؤاخذة للتأويل عند الله -تبارك وتعالى- ذكر فيها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا المعنى، ويبقى الكلام فيما يتصل بالحقوق الخاصة للخلق، هل تسقط بسبب التأويل، فلا يطالبون بها من الديات والقصاص وما إلى ذلك من ضمان ما أتلفوا من أموال بتأويل، أو أنهم لا يطالبون بها أيضًا، فظاهر كلام الشيخ -رحمه الله- أنهم لا يطالبون بذلك وذكر كلام الزهري هنا: وقعت الفتنة وأصحاب محمد متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر، يعني: لا يطالب به، ولا قصاص ولا دية، وهذا بصرف النظر عمن كان مشركًا، أو كان مرتدًا، ثم رجع إلى الإسلام فإنه لا يطالب حينما كان في حال كفره عما حصل منه من قتل أو إتلاف مال، أو نحو ذلك لبعض المسلمين، فإن الذين أسلموا في عهد النبي ﷺ وكانوا قد قتلوا من قتلوا من أصحابه لم يطالبوا بشيء من ذلك، والإسلام يجب ما قبله، فلا يطالبون بما فعلوا وجنوا في أيام الجاهلية، فهذه المسألة من المسائل المهمة، وهي في المجلد الرابع صفحة (452)، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- له كلام أيضًا في هذا المعنى في مواضع أخرى من هذا الكتاب كما في صفحة (547)، وإن كان الكلام غير متصل بهذا، لكنه كلام متعلق بهذا الموضوع وهو في صلبه، ومما قاله هناك يقول: "والفتنة هي من جنس الجاهلية" لاحظ، وكثير من الفوائد التي ستأتي هي في الفتن، حديث عن الفتن ونحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إلى مثل هذه القضايا، وشيخ الإسلام أصل في هذه القضايا تأصيلا قد لا تجده لغيره، يقول: "والفتنة من جنس الجاهلية" جنس الجاهلية يحصل فيها من عدم إبصار الحق من جهة، وكذلك أيضًا من الإهدار لتبعات ما وقع من التأويل في الفتن، والقتال الذي يقع بين المسلمين، وما أشبه ذلك، كما كان في الجاهلية، حيث لم يطالبوا بما كان منهم من جنايات في قتالهم للمسلمين مثلاً، يقول: "والفتنة من جنس الجاهلية، كما قال الزهري -وذكر الأثر- فأجمعوا أن كل دم، أو مال -يعني: الصحابة رضي الله عنهم- أو فرج أصيب بتأويل القرآن؛ فإنه هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية" يقول: "وذلك أن الله تعالى بعث محمد ﷺ بالهدى ودين الحق، فبالهدى يعرف الحق وبدين الحق يقصد الخير ويعمل به، فلا بد من علم بالحق وقصد له وقدرة عليه -انتبهوا الكلام في غاية الدقة- يقول: والفتنة تضاد ذلك، يقول: فإنها تمنع معرفة الحق، يبقى مشتبها ملتبسا على الناس، إلا من رحم الله -تبارك وتعالى- تمنع معرفة الحق، أو قصده، أو القدرة عليه، يعني: قد لا يقدر عليه في وقت الفتنة، فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل حتى لا يتميز لكثير من الناس، أو أكثرهم ويكون فيها من الأهواء والشبهات ما يمنع قصد الحق وإرادته ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير" وهذا كلام دقيق يحتاج الإنسان أن يقرأه بنفسه، ويتأمل فيه، وينظر إلى ما وراء الحروف كما يقال.

يقول: "ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة -نسأل الله العافية- كما قال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة، فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده، ولهذا يقال: فتنة عمياء صماء، ويقال: فتن كقطع الليل المظلم، يعني: ما قال: كقطع الليل، الليل قد يكون مقمرًا، قال: كقطع الليل المظلم، فالمظلم لا يبصر فيه شيء، قال: ونحو ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها وخفاء العلم، الألفاظ الواردة في النصوص يعني.

يقول: "فلهذا كان أهلها بمنزلة أهل الجاهلية ولهذا لا تضمن فيها النفوس والأموال؛ لأن الضمان يكون لمن يعرف أنه أتلف نفس غيره، أو ماله بغير حق، فأما من لم يعرف ذلك، كأهل الجاهلية من الكفار والمرتدين والبغاة المتأولين، فلا يعرفون ذلك، فلا ضمان عليهم، كما لا يضمن من علم أنه أتلفه بحق، وإن كان هذا مثابًا مصيبًا، وذلك أن أهل الجاهلية إما أن يتوبوا من تلك الجهالة؛ فيغفر لهم بالتوبة، وإما أن يكونوا ممن يستحق العذاب على الجهالة، كالكفار، فهؤلاء حسابهم، أو حسبهم عذاب الله في الآخرة، وإما أن يكون أحدهم متأولا، مجتهدا، مخطئا، فهؤلاء إذا غفر لهم خطأهم؛ غفر لهم موجبات الخطأ أيضًا" فماذا حصل؟ ماذا لزم من هذه الأخطاء؟ ماذا حصل من هذه التبعات بعد ذلك فتكون مغفورة لهم، وليس معنى ذلك أن كل أحد يمكن أن يقول: أنا أتأول كما أريد، وأتصرف كما أريد بحسب ما يملي علي علمي القاصر، ولكن الكلام هنا في الفتن التي تقع بين المسلمين، والله المستعان.

"ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الفتن تكون مُشتركة، فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده، والإسلام جاء بالعلم النافع والعلم الصالح، بمعرفة الحق وقصده".

وهذا الكلام مضى قبل قليل في ثنايا الكلام الذي قبله؛ لأن هذه القضايا جميعًا هي فيما يتصل بهذا الموضوع نفسه، فهذه القضية ذكرها بعد ما ذكر الكلام السابق، وتجدون مثل هذا في المجلد الرابع صفحة (538)، ولو نظرت إلى الكلام الذي قبله في صفحة (527) هو يتصل بهذا الموضوع وهو أيضًا مفيد ومهم في مثل هذه القضايا والفتن التي يقول: بأنها تكون مشتركة، فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده، فهو يتكلم في ثنايا هذا الكلام ويبين أحوال الفتن وما آلت إليه وما انجرّ منها.

يقول: وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان، إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث -يعني: الذين خرجوا على ابن الحجاج بالعراق-، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخرسان، خرج على ابنه، هنا يقول: خرجوا على عبد الملك الذين هم مع ابن الأشعث، يعني: خرجوا على الحجاج وكان الخليفة عبد الملك.

يقول: وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخرسان، يعني: ابن عبد الملك ابن مروان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخرسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة، حركة النفس الزكية - والبصرة وأمثال هؤلاء.

وإذا قرأت في التاريخ وجدت أشياء متتابعة، يعني: بعضهم حتى إنه ندم على عدم نصرة الحسين، بعض الصحابة، بعضهم قد جاوز التسعين، ثم خرج لقتال أهل الشام مع مجموعة قليلة من الناس لغلبة الندم عليه، مع أن ذلك لا يجدي شيئًا.

فعلى كل حال، يقول: عن هؤلاء الذين خرجوا، يقول: وغاية هؤلاء -انتبهوا- إما أن يَغْلِبوا، وإما أن يُغْلَبوا، ثم يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هم اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا، ولا أبقوا دنيا، وإذا قرأت في أخبارهم وما وقع لبعضهم وفي كلام بعضهم عند الاحتضار وفي كلام بعضهم مما نجا من القتل، حينما سئل؛ تجد أنهم قد ندموا على ذلك.

يقول: والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين؛ لأنه متأول مجتهد، يقول: ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم ومع هذا لم يحمد ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدرًا عند الله، وأحسن نية من غيرهم.

يقول: وكذلك أهل الحرة، كان فيهم من أهل العلم والدين خلق، إذا قرأت في تراجم أهل العلم من التابعين؛ يمر بك خلق كثير جدًا قتل يوم الحرة، كثير من أبناء الأنصار -رضي الله تعالى عنهم- ومن غيرهم، قتلوا في يوم الحرة، بعضهم من سادات الأمة وعلماء وفضلاء وأخيار وعباد، بعضهم يمر عليه بعض جيش يزيد ويجدونه قد رفع -كابن الغسيل- قد رفع أصبعه يتشهد، فقال: طالما رفعتها حيا وميتا هذا يقوله الذين قتلوه، لطالما رفعتها حيا وميتا، يعني: هذه المسبحة بالتشهد، لكنها الفتن، نسأل الله العافية.

يقول: كذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث، كان فيهم خلق من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم جميعًا، الذين خرجوا مع ابن الأشعث هم الفقهاء والعلماء، من سادات الأمة وسعيد بن جبير وخلق كثير لا يحصيهم إلا الله، الحسن البصري، الشعبي، وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر، قال: كنت حيث يقول الشاعر:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير[10]

يعني في الفتنة يصير الإنسان إلى حال يستوحش فيها من الناس -نسأل الله العافية- تتغير القلوب، بعد ما كان الإنسان يفرح إذا لقي أحد من إخوانه ونحو ذلك، يصير بحال إذا رأى إنسانًا؛ استوحش وإذا رأى الحيوانات ولو وحوش؛ يأنس بها عن الناس.

يقول: الشعبي أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، انهزموا، قتل ابن الأشعث وقتل خلق كثير وجيء بالعلماء، جيء بسعيد بن جبير من مكة وقتل بين يدي الحجاج، وصارت أمور عظيمة جدًا، فجيء بالشعبي وكان قد ذهب واستخفى مدة وعرف من خطاب كتبه لبعض قادة الجيوش، فلعلمه -رحمه الله- ونبوغه وتبحره وكذا، لما رأى الحجاج الخطاب؛ قال: هذا لا يصلح أن يكون إلا الشعبي، فأمر به، فجيء به ولقيه بعضهم قبل الدخول على الحجاج، وقال: اتقِ الله، فإنما أنت للمسلمين -يعني: هذا العلم-يعني: قل كلاما فيه مخرجًا، سعيد بن جبير واجه الحجاج وقال له: ما حملك وقد أحسنت إليك وكذا، قال: بيعه كانت في عنقي لابن الأشعث، فغضب الحجاج وأمر بضرب عنقه[11] ولما صاح ولده، قال: يا بني قد بلغ أبوك - وذكر أظن كان عمره 58، أو قريب من هذا، ماذا بعد هذا، يعني: - لا تبكِ، فالشاهد: أن الشعبي كان يقول: أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء[12] الشعبي من بحور العلم، وذكرت في بعض المناسبات أنه كان يقول: أقل ما أحفظه الشعر ولو شئتم لحدثتكم شهرًا، لا أعيد بيتًا، هذا الشعبي، ويقول: أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء -نسأل الله العافية-، وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن الله يقول: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76][13].

وكان طلق بن حبيب يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى، فقيل له: أجمل لنا التقوى، فقال: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجوا رحمة الله وأن تترك معصية الله، على نور تخاف عذاب الله[14].

يقول شيخ الإسلام: وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، هؤلاء الذين اعتزلوا الفتنة، وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين زين العابدين، وغير هؤلاء ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، لاحظ! استقر الأمر، يعني: هذه الأشياء التي وقعت في البداية أخذ أهل السنة منها أصلا وهو أن الخروج على الولاة من الظالمين أن ذلك يؤدي إلى مفاسد أكبر.

يقول: وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، استقر، يعني: قبل ذلك ما كانت القضية مستقرة وهذا من عبارات شيخ الإسلام الدقيقة، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين.

يقول: ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ في هذا الباب واعتبر أيضًا اعتبار أولي الأبصار؛ علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور، ولهذا لما أراد الحسين أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم من الصحابة كابن عمر وابن عباس وكذلك أيضا غير هؤلاء كأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ألا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يقتل، حتى إن بعضهم قال: استودعك الله من قتيل، وقال بعضهم: لولا الشفاعة؛ لأمسكتك ومنعتك من الخروج، يقول: وهم في ذلك قاصدون نصيحته، طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين، والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة ويخطأ أخرى.

يقول: فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك، يعني: على خلاف ما فعل الحسين -رضي الله تعالى عنه- يقول: ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله ﷺ حتى قتلوه مظلومًا شهيدا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإنما ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك وصار ذلك سببا لشر عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن، كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، إلى أن يقول: وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي ﷺ من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئًا؛ لم يحصل بفعله صلاح، بل فساد، ثم ذكر كلامًا طويلا في هذا الموضوع يحسن مراجعته، فهو في غاية النفاسة، وأجاب على بعض الأمور التي قد تورد على ذلك، وكلامه في هذا كثير.

بعد الفائدة التي ذكرها هنا مما قرأه الشيخ آنفا، يقول: كلاما نافعا بعده مباشرة، يقول: فيتفق أن بعض الولاة يظلم باستئثار -يعني: بالأموال- فلا تصبر النفوس على ظلمه، ولا يمكنها دفع ظلمه إلا بما هو أعظم فسادا منه، ولكن لأجل محبة الإنسان، لأخذ حقه ودفع الظلم عنه لا ينظر في الفساد العام، الذي يتولد عن فعله، يعني: النفوس تحتمي لما ترى الأثرة، فلا ينظر إلى المفاسد الأخرى المترتبة على ذلك؛ ولهذا قال النبي ﷺ: إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض[15] وذكر الحديث أيضًا الآخر، ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض إلى غير ذلك، يقول: فأمر النبي ﷺ المسلمين بأن يصبروا على الاستئثار عليهم، وأن يطيعوا ولاة أمورهم وإن استأثروا عليهم، وألا ينازعونهم الأمر، وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم، إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه ولم يصبروا على الاستئثار، ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى، فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم، أو يُعظّم تلك السيئات ويبقى المقاتل له ظان أنه يقاتله؛ لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، يقول: ومن أعظم ما حركه عليه طلب غرضه إما ولاية وإما مال، يعني: المشاركة في الحكم أو المال، يريد مالاً، كما قال الله تعالى: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58] إلى غير ذلك، وأورد أدلة على هذا، يحسن مراجعتها.

يقول: فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة، ومن هذه الجهة شهوة وشبهة؛ قامت الفتنة، أولئك عندهم شبهة وشهوة، وهؤلاء عندهم شبهة وشهوة، فتقوم الفتنة.

يقول: والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم حتى قال: ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة[16] وأمر الرعية بالطاعة والنصح كما في الصحيح الدين النصيحة...[17] الحديث.

يقول: وأمر بالصبر على استئثارهم ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم؛ لأن الفساد الناشئ من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر، فلا يُزال أخف الفسادين بأعظمهما... إلى آخر كلامه، وهو كلام في غاية النفاسة، فراجعوه، هذا كله في المجلد الرابع إلى صفحة (546) بل وما بعدها.

لكن النبي ﷺ ذكر ضابطًا في هذا لباب وهو: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان[18] فهذا لا الاستئثار والأثرة وإنما أن تروا كفرًا بواح، مع شرط آخر زائد على هذا وهو القدرة، فإن لم يكن عندهم قدرة فعند ذلك قد يحصل لهم من القتل الذريع، والأمور التي لربما بعد ذلك يتبين لهم في المئال أن فعلهم ذلك لم يكن فيه مصلحة ولا محمود، وإن كان من هؤلاء من هو مجتهد وقصده حسن وله تأويل وما أشبه ذلك، فذلك عند الله -تبارك وتعالى-، فنسأل الله أن يجنبنا وإياكم مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يعيذنا وإياكم من أسباب سخطه وأليم عقابه، الكلام الذي بعده هو تابع لهذا الكلام.

"ويترتب على هذا الأصل أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أوليائه المتقين، ويصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونهم من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه من الإيمان، وكل هذين الطرفين فاسد، ومن سلك طريق الاعتدال عظّم من يستحق التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ خلافًا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم".

هذا الرجل العظيم صاحب الحسنات الكبار والإمامة في الدين ونحو ذلك هو غير معصوم ومن ثم فإنه يخطأ ويتأول، فيجانب الصواب أحيانًا، ومن ثم قالوا: من كان مستنًا؛ فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، وهذا شيء مشاهد، فإن الناس قد يتبعون أحدًا ممن يكون له قدم صدق وله فضل وعمل صالح وجهاد وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك قد يحصل له فتنة، وقد يتأول تأويلات لا يقرّ عليها، فينحرف بسبب ذلك خلق من الناس وهذا خطأ، فإن العاقل والمؤمن لا سيما طالب العلم ينبغي أن ينظر إلى الحق الذي جاء به الرسول ﷺ دون اعتبار للأشخاص، فكل يؤخذ من قوله ويرد، كما قال الإمام مالك إلا صاحب هذا القبر[19] يعني: رسول الله ﷺ، وما يحصل من الفتن والشرور إنما هو بسبب التعصب والتقليد لهؤلاء الذين يعظمهم طوائف من الناس، فيقلدونهم فيما أصابوا فيه وما أخطئوا، ويقعون تبعًا لهم في أمور من الشرور والفتن قد لا يستبينون ما فيها حتى تنجلي وتنقضي، ثم بعد ذلك قد تذهب النفوس، وكما قال بعض السلف: إنما هي نفس واحدة، لما دعاه بعض الخوارج أن يخرج معهم قال: لو كان لي نفسان لأتبعتكم واحدة، ثم نظرت إلى أي شيء تصير، وإنما هي نفس واحدة، إذا ذهبت ذهبت[20] ومن ثم فلا ينبغي للإنسان أن يغرر بنفسه، فقد تذهب دنياه، وقد تذهب أيضًا آخرته، فالأمور التي لم تستبن له؛ يتوقف فيها ويتريث ويتمهل حتى تنجلي وتنكشف ويستبين الحق فيها، وإلا فإن هذا الذي يتسارع في الفتن كالذي يتجارى على جدار البلد، أو على سور البلد، إن وقع هلك، وإن سلِم لم يحمد في تسارعه وتقحمه في مثل هذه الأمور، والإنسان يكون تبعًا للناس في الخير خيرٌ من أن يكون رأسًا في الشر، وهذه الفتن التي قد أطلت بقرونها، بأنواعها، كثير من الناس اليوم لسان حاله يريد أن يكون رأسا، أن يكون له أكبر قدر من المتابعين والقراء والذين ينضمون إليه، أو يضمونه إليهم، أو إلى بالوسائل التي تعرفون، وما يغني عنه هؤلاء عند الله -تبارك وتعالى-.

ولما ننظر في حال بعض أهل البدع وكم كان يتبعهم، فإن ذلك فيه عبرة وكذلك النصارى وطوائف من أهل الضلال من البوذيين وغيرهم، فتقرأ الإحصاءات كم يتابع هؤلاء في برنامجه الإعلامي تجد أن بعض هؤلاء يتابعه ما يقرب من مائتي مليون، ونحن نتكلم عن المتابعين في التويتر، أو الفيس بوك، أو بعض الوسائل، أو في قناة فضائية ونحو ذلك، نقول: فلان يتابعه ما شاء الله ما يقرب من مائة ألف، ما مائة ألف بالنسبة إلى مائتي مليون؟ وهو على ضلال نصراني، يدعوهم إلى الشرك والتثليث، فهذه ليست عبرة والنبي ﷺ أخبرنا أن النبي يأتي ومعه الرجل والنبي يأتي ومعه الرجلان والنبي يأتي وليس معه أحد، فلا تلتفت إلى هذا كم عدد الذين يعجبون، وكم عدد الذين يتابعون وكم عدد الذين يضيفونك، أو تضيفهم، أو يريدون أن يكونوا أصدقاء وما أشبه ذلك من الأمور التي يفتن بها كثير من الناس، فدين الإنسان هو ألزم ما عليه أيها الإخوان، فلا ينبغي أن يغرر بنفسه، نسأل الله العافية.

يقول: من سلك طريق الاعتدال عظّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، حاصلها أن الولاء والبراء يتجزأ، فيحب الناس على قدر ما عنده من التقوى والإيمان، ويكون البغض على قدر ما عندهم من المخالفة، سواء كان ذلك من قبيل البدع والأهواء، أو كان ذلك من قبيل المعاصي، فالولاء والبراء يتجزأ، والرجل بناء على ذلك قد يحب من وجه ويبغض من وجه، كما يقول: شيخ الإسلام[21] كالسارق تقطع يده ويعطى من بيت المال ما يغنيه ويكفيه، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة، الخوارج والمعتزلة الولاء والبراء عندهم لا يتجزأ، إما الناس عندهم مؤمن كامل الإيمان، وإما أنه مخلد في النار، كما يقول: المعتزلة مخلد ويسمونه: الفاسق الملي، والخوارج يقولون: إنه قد خرج من الإيمان وصار كافرًا، فهؤلاء يحكمون عليه بالخلود في النار، الخوارج والمعتزلة، فلا يوجد عندهم أنه يحب من وجه ويبغض من وجه، أبدًا، إما يحب حبًا كاملاً، أو يبغض بغضًا كاملاً، وهذا خطأ، فالناس يحبون على قدر ما عندهم من الخير والصلاح، ويكون بغضهم على قدر ما عندهم من المخالفة، ومن ثم لو فعلنا ذلك وكنا متبعين لأصول أهل السنة في هذا الباب حقيقة؛ فإننا نتخلص من كثير من الشطط في أحكامنا وأيضا في كلامنا وفي نظرنا للناس، سواء كان من الأفراد أو الطوائف، أو غير ذلك، فينظر إليهم بحسب ما عندهم من الاتباع للرسول ﷺ ولزوم الحق والصراط المستقيم، ويكون لهم من البراء بقدر ما عندهم من المخالفة، فالكافر لا يوالى مطلقًا، والمؤمن كامل الإيمان يوالى مطلقًا، ومن كان بين بين؛ فله من الولاء بقدر ما عنده من الإيمان والتقوى ولزوم الصراط المستقيم.

هذا هو الاعتقاد الصحيح في هذا الباب، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر من الأسماء والألقاب وما إلى ذلك مما يقال عن الناس: أنه ينتسب إلى كذا، هذا لا ينظر إليه في مقياس الولاء والبراء، أبدا، ماذا عنده من التقوى والإيمان من أي صنف كان، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ولا يجوز امتحان الناس بأمور لم يجعلها الله ميزان يوزن به الناس والأعمال، هذا بالنسبة لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة الذين أشار إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

"الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم، وتأثيمهم وعدم تأثيمهم، ونحن نذكر أصولاً جامعة نافعة".

هذا الكلام مفيد من جهة الإثم للمخطئ والمصيب، وهو مفيد أيضًا في مسألة الوقوع على الحق، هل كل مجتهد مصيب أو لا، وفي مسألة ثالثة وهي قضية تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فهذه ثلاث مسائل رئيسة في هذه الأصول التي يذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهي مهمة، تأثيم الناس في الاجتهاد والخطأ جانبت الصواب، هل يأثمون أو لا؟ هل يخطؤون أو لا يخطؤون أصلا، فضلا عن الإثم؟ يعني: عندنا خطأ وعندنا إثم وليس بين الخطأ والإثم ملازمة، فقد يكون مخطأ ولكنه غير آثم.

"الأصل الأول هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد فاستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق، بل قال ما اعتقَد إنه هو الحق في نفس الأمر، ولم يكن هو الحق في نفس الأمر، هل يستحق أن يعاقب أم لا".

يقول لك: هذا أصل هذا المسائل الآن، إنسان اجتهد واستفرغ وسعه، هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها خلاف؟ فهذا الإنسان اجتهد بذل وسعه، فلم يصل إلى الحق، بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر، ولم يكن هو الحق في نفس الأمر، يعني: ما واقع على الصواب، لكنه هو يعتقد أن هذا هو القول الصحيح، والواقع في علم الله أن هذا القول خطأ، أنه ليس كذلك، هل يقال: هذا مأجور، أو يقال: إنه يأثم؟ هل يقال عنه: أنه مخطئ، أو يقال عنه: مصيب مطلقا؛ لأنه أجتهد؟ وكل مجتهد نصيب؟ أو يفرق بين مسائل الفروع ومسائل الأصول؟ فلا يعذر في الأصول ويعذر في الفروع؟ وما هي مسائل الأصول وما هي مسائل الفروع؟ هو يريد أن يتكلم على هذه القضايا، في تصويب المجتهدين وتخطئتهم، وفي تأثيمهم وعدم التأثيم.

"هذا أصل هذه المسائل، ثم ذكر أقوال أهل البدع فيه".

يعني: هذا كلام ابن سعدي، يقول: ثم ذكر أقوال أهل البدع فيه، ثم قال: هذا ابن سعدي يقول: إن شيخ الإسلام ذكر أقوال أهل البدع، شيخ الإسلام تكلم بكلام طويل بين هذين الكلامين، ذكر كلام القدرية، وذكر كلام الأشاعرة، وطوائف من أهل الكلام، ذكر كلام المعتزلة والجبرية، ذكر مذاهبهم في مثل هذه المسائل، وبين أن مثل هذه القضايا، ذكر ردود بعضهم على بعض، وأن مثل هذه القضايا التفريق الذي يفرقون به أنه لا دليل عليه، يعني: أن بعضهم مثلا يقول: بأن ذلك يفرق فيه بين الأصول والفروع، وبعضهم يسميها المسائل العلمية والمسائل العملية، وبعضهم يقول: العقائد والعبادات، أو الأمور المتصلة بالعقائد، والأمور المتصلة بالجوانب الفروعية العملية، هكذا يعبرون.

فشيخ الإسلام يذكر ردود بعض هؤلاء على بعض، مع أننا نعلم أنه لا مشاحة في الاصطلاح من أجل التيسير والتقسيم للعلم وما أشبه ذلك، يقال مسائل منها ما هو علمية، ومنا ما هو مسائل عملية مثلاً، قضايا عقائد وقضايا عملية، لا مشاحة في الاصطلاح ما لم -بهذا الضابط- ما لم يرتب على ذلك حكم، إذا بنينا على هذا الاصطلاحات الحادثة أحكامًا؛ فعند ذلك نقول: لا، هذا اصطلاح حادث وما يرتب عليه، فهو مردود، هذا ضابط مهم في مسألة الاصطلاحات، لا مشاحة في الاصطلاح إذا تبين المعنى، للتقسيم والتقريب إلى آخره، لا إشكال وهذا في كثير من القضايا، لكن إذا يرتب على هذا حكم؛ فعند ذلك نقول: لا، هذا اصطلاح حادث.

مثلا الأخبار تقسم إلى: آحاد ومتواتر، لا إشكال في هذا، لكن حينما يقال: بأن الآحاد لا يقبل في العقائد ولا يقبل فيها إلا التواتر، وأما القضايا العملية فيقبل فيها بالآحاد، نقول: لا، هذا الكلام من أين، أين الدليل عليه؟

هكذا التقسيم الديني إلى أصول وفروع، إلى عقائد وأعمال وعبادات وما أشبه ذلك، فهذا لا دليل عليه ولا أصل له في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وسلف الأمة.

فإذا قال أحد: أنا أقسم هذا التقسيم للتعليم والتصنيف والتأليف وما أشبه ذلك، للتقريب للمتعلمين، نقول: لا إشكال، لكن أن يبنى على هذا أحكامًا، كأن يقال مثلا: بأن مسائل العلمية لا يقبل فيها إلا التواتر مثلا والمسائل الفرعية يقبل فيها بالآحاد، نقول له: لا، هذا لا دليل عليه، لما يقول: أو يبني على هذا حكمًا آخر، كأن يقول: المسائل العلمية، قضايا الاعتقاد يكفر إذا أخطأ فيها والمسائل الفروعية لا يكفر، أو يقول: بأن الحق في المسائل العلمية واحد، فكل من لم يصل إليه ولم يقف عليه، فهو مخطأ وضال ومنحرف وبعضهم يطلق الكفر في حقه، وأما المسائل العملية فبعضهم يقول: كل مجتهد مصيب، بأي اعتبار كل مجتهد مصيب؟ بعضهم يقول: لأن الأدلة عليها محتملة في الغالب، ومن ثم فإن ذلك كله حق، وأن الشارع قصد أن تكون الأدلة محتملة في المسائل الفروعية، أما العقائد فإنها مبنية عندهم على القواطع العقلية، زعموا، وقد عرفنا ما في هذا من الإشكال وهذا الكلام كله غير صحيح، لكن لو أن أحدًا قال: إن كل مجتهد مصيب يقصد في فعل ما يجب عليه من بذل الوسع والاجتهاد، فهذا صحيح وإن أخطأ الحق في علم الله -تبارك وتعالى-يعني: في معلوم الله، يعني: هذا الإنسان لم يقع عن الحق بحسب علم الله -تبارك وتعالى-يعني: الله يعلم أنه لم يقع على الصواب الذي أراده، فمسألة التأثيم في المسائل الأصولية -الأصولية أقصد بها: العقائد، المسائل العلمية- وعدم التأثيم في المسائل الفروعية هذا لا دليل عليه، فأقوال أهل البدع موزعة بين هذه الأشياء التي سمعتم، وفي هذه التقسيمات وما يعبرون به، تارة بهذه العبارة وتارة بالعبارة الأخرى، وكل ذلك لا دليل عليه إطلاقًا والأدلة تدل على خلافه، إذا تبين لك هذا الإجمال نقرأ كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- ويتضح -إن شاء الله تعالى- ما أراده.

"ثم قال: ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورًا، أو فعل محظورًا، وهذا قول الفقهاء والأئمة".

لأن بعض أهل البدع يقولون: كل من اجتهد أن الحق عليه دلائل قطعية وأمارات واضحة في المسائل الأصولية، يعني: ليس في أصول الفقه وإنما المقصود قضايا الاعتقاد، يقولون: فيجب بذل الوسع وأن كل من بذل وسعه لا بد أن يصل إلى الصواب، فإن لم يصل إليه فذلك لتفريطه، فهو عندهم مفرط وآثم، وكثير منهم يطلق عليه أنه يكفر بالمخالفة في المسائل الأصولية، هذا كلام بعضهم.

شيخ الإسلام يقول: ليس من كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورا أو فعل محظورا، هذا قول الفقهاء والأئمة وسلف الأمة، فهذا الإنسان بذل وسعه ولكنه لم يقف على الصواب، لم يصل إليه، فهو معذور وإن أخطأ سواء كان ذلك في القضايا العلمية التي يسمونها: العقائد، أو القضايا العملية.

الآن لو سئلوا، شيخ الإسلام يناقشهم، ماهي المسائل العلمية؟ يقولون: ما ثبت بأدلة قطعية، شيخ الإسلام يرد عليهم، يقول: كثير من هذه القضايا التي تقولون عنها علمية لم تثبت بأدلة قطعية وأشياء تقولون عنها عملية ثبتت بأدلة قطعية، مثل وجوب الصلاة والصيام والحج والزكاة وما أشبه ذلك، كيف تجعلون هذه فروعًا وهي من قبيل القطعي، والمسائل العلمية تنازع بعض الصحابة فيها، هل رأى محمد ﷺ ربه ليلة المعراج، أم لا؟ مثلا وما أشبه ذلك من المسائل التي هي قضايا علمية.

فهذا التفريق أن هذه ثابتة بأدلة قطعية وهذه ثابتة بأدلة ظنية هذا الكلام غير صحيح، فكل من بذل وسعه؛ فهو معذور في مسائل الاعتقاد أو في مسائل الفروع لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

"وإن الناس يتفاوتون في معرفة الحق بحسب الأسباب التي يعرف بها الحق، ولا يعذب الله إلا من عصاه بفعل محظور أو ترك مأمور من غير فرق بين المسائل الأصولية والفروعية، وكل ما ذكر من الفروق فأنه غير صحيح ولم يدل عليه كتاب ولا سنة، بل دلالتهما على عدم الفرق، ثم ذكر الأدلة على ذلك".

 إذًا كلام شيخ الإسلام أن كل ما يذكر من التفريق بين الأصول والفروع غير صحيح سواء قيل: إن هذا يثبت بقطعي وهذا يثبت بظني، هذا كلام ليس صحيح، هؤلاء، أو يقولون: بأن هذا يكفر بالمخالفة في الأصول، بخلاف الفروع وهذا غير صحيح، أو أن الصواب واحد في الأصول وفي الفروع، كل مجتهد مصيب هذا غير صحيح، فيقول: ما عندهم فرق بين الأصول والفروع يصح أن يعتبر ويبنى عليه مثل هذه الأحكام، وإنما هو اصطلاح حادث.

"فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومناظر ومفتي وغير ذلك، إذا اجتهد واستدل واتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه وهو مطيع لله، مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله البتة، خلافا للجهمية المجبرة وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافا للقدرية".

الآن الجهمية المجبرة -الجبرية- هم الذين يقولون: بأن الإنسان مجبر على فعله، يعني: بمعنى أنهم يضيفون ذلك إلى الله وينفونه عن العبد، فمثل هؤلاء يقولون:

ما ثم غير مشيئة قد رجحت مثلا على مثل بلا رجحان[22]

فيمكن أن يعذب الله أفضل الخلق وأن يخلده في النار، ويمكن أن يدخل فرعون الجنة، وأن يجعله في أعلى المنازل والمراتب، ويقولون: العباد ليس لهم فعل إنما هو فعل الله ينعم من يشاء ويعذب من شاء وما أشبه ذلك وهذا الإنسان الذي أخطأ في العقائد، أو في غيرها يقولون: هذا لا فعل له، لا ذنب له، وإنما ذلك يضاف إلى الله -تبارك وتعالى- لا أقصد الذنب، وإنما أقصد أنه مجبر على فعله هذا، ومن ثم فلا يضاف إليه الإثم ولا العيب ولا النقص وما إلى ذلك، هذا قول المجبرة -الجبرية- يقولون: وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، يعني: هو فعل، لكنه لا إرادة له حقيقية ولا مشيئة، وإنما ذلك يضاف إلى الله -تبارك وتعالى- يعني: هو مثل الريشة في مهب الريح.

يقول شيخ الإسلام: كان هذا هو الذي كلفه الله إياه وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه البتة، خلافا للجهمية المجبرة وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه خلافا للقدرية، يعني: قد يقع على الصواب وقد يجانبه ذلك، لا يحالفه الصواب، لكنه إذا استفرغ وسعه فهو معذور عند أهل السنة والإيمان، فالمعتزلة يقولون: كل من استفرغ وسعه؛ علم الحق، هذا المعتزلة الذي يقول القدرية ومن ثم فإنهم لا يعذرون من أخطأ، يقولون: لا بد أنه قصر وهذا باطل، فكل من استفرغ وسعه استحق الثواب.

إذًا صار عندنا أهل السنة وسط في هذا الباب، كما هم وسط في سائر الأبواب وسط بين هؤلاء الذين يقولون: لا فعل له أصلا وأن مسألة الثواب والعقاب أصلا ما هي مرتبة على العمل، هي ليست مرتبة على العمل، فالله قد يعذب أفضل الخلق وقد ينعم أسوأ الخلق، وقول من يقول: بأنه إذا استفرغ الوسع لا بد أن يقع على الصواب ومن ثم إذا أخطأ، فهو آثم فيأثمونه مطلقا، أهل السنة يقولون: إن فرط، فهو مذموم وإن بذل وسعه، فأخطأ؛ فله أجر، فإن أصاب؛ فله أجران، هذا هو العدل في مثل هذه المسألة والوسط بين أقوال هؤلاء الطوائف.

"وهل تلزم الشرائع من لم يعلمها، أم لا تلزم أحدًا إلا بعد العلم بها، أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدئة فيه ثلاثة أقوال، الصواب منها أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه، فالواجب مشروط بالقدرة، والعقوبة لا تكون إلا على ذنب بعد قيام الحجة".

هو هذا، يعني: الآن عندنا كما يقول الأصوليون: من شروط التكليف مطلقا: العلم والقدرة، هذا في كل التكاليف، طبعا وبعضهم يعبر يقول: وفهم الخطاب، أو يقول: القدرة وفهم الخطاب، فهم الخطاب مرتب على قضية العلم، يقول: النبي ﷺ: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار[23] ففهم الخطاب هذا قدر يتفاوت فيه الناس، فلا يطلب منه أن يفهم من الخطاب ما يفهمه أبو بكر وعمر وأمثال هؤلاء من علماء الصحابة ، وإنما يفهم ما يصلح لمثله، وفي كل عبادة لها من الشروط ما يخصها، فنقول في التكاليف عموما: القدرة وبلوغ الخطاب، أو فهم الخطاب، في العبادة المعينة مثل الصيام، رؤية الهلال مثلا وعدم وجود المانع كالحيض وما إلى ذلك، في قضية الصلاة دخول الوقت ويطلب لها من الشروط الطهارة واستقبال القبلة وهكذا، ما يتصل بالنية عند من جعلها من قبيل الشروط، أو جعلها من قبيل الأركان.

يقول: هل تلزم الشرائع من لم يعلمها، أم لا تلزم أحدًا إلا بعد العلم بها؟ الآن الشرائع سواء كان ذلك إجمالاً مثل أهل الفترة فإنهم يعذرون، أو كان ذلك على سبيل الجزء -يعني: في القضية المعنية- ما بلغه تحريم الخمر، فصار يشرب الخمر إلى أن مات، هل يكون مؤاخذ وهو مسلم؟ هذا الإنسان لم يكن يعلم عن الزكاة، كان بأرض بعيدة، نائية ولم يكن عنده من أسباب العلم ما يستطيع الوصول به إلى معرفة الحق والدين الصحيح الذي جاء به الرسول ﷺ مع بذل الوسع من غير تفريط، فإنه يكون معذورًا بذلك، فهذا يختلف بحسب الأحوال، الأزمنة وأوقات الفترة وكذلك الأمكنة ولهذا مسألة المعلوم من الدين بالضرورة تختلف كما أشرت إلى ذلك في بعض الدروس السابقة، فقد يكون من المعلوم من الدين بالضرورة في زمان، ما لا يكون من المعلوم بالضرورة في زمان آخر وقد يكون من المعلوم من الدين بالضرورة في مكان، ما لا يكون معلومًا من الدين بالضرورة في مكان آخر.

ولذلك مسألة العذر بالجاهل هي مسألة دقيقة جدا ويعتورها ويحتف بها أشياء، وهي من القضايا والمسائل المتعلقة بأبواب العذر، سواء كان في تكفير المعين، أو كان ذلك في الإثم فيما كان دون ذلك.

على كل حال، فهذه أشياء تتفاوت، يقول: إلا بعد العلم بها، أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة، الشرائع الناسخة والمبتدأة، فيها ثلاثة أقوال، شرائع لا تلزم إلا بعد العلم بها، أو الشرائع الناسخة والمبتدأة، الآن الناسخة والمبتدأة، شريعة جديدة ما بلغته، أو ناسخة مثل استقبال القبلة، ما علموا مثلاً، إذا كانت حولت القبلة مثلاً في الظهر، ما علموا إلا في العصر، أو قول من قال: بأنها حولت في الفجر وما علموا إلا في العصر، يعني: بعض المكلفين في ناحية من النواحي ولربما كان بعضهم لم يبلغه ذلك أصلا إلا بعد مدة أطول من هذا، فهذا في الشرائع الناسخة، والشرائع المبتدأة مثل ابتداء فرض الصلاة، فقد فرضت على النبي ﷺ في الليل، أليس كذلك؟ ليلا في ليلة المعراج، لكن ماهي الصلاة الأولى التي صلوها أي صلاة؟ الظهر، أليس كذلك؟ هي الصلاة الأولى، فما بلغ المكلفين إلا ذلك الحين.

الآن الصلاة الأولى، صلاة الفجر، أم الظهر؟ هي صلاة الظهر، الصلاة الأولى صلاة الظهر، حينما فرضت على النبي ﷺ في السماء هذه الصلوات، هل المكلف مطالب بها؟ الجواب: لا، يعني: هل يقضي صلاة الفجر؟ لا؛ لأنه ما بلغه والله -تبارك وتعالى- في الشرائع المبتدئة، قال في الربا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275] كانوا يتعاملون بالربا، ثم لما نزل التحريم؛ لم يطالبهم الشارع بإرجاع ما كان قبل التحريم، ولهذا يقال: من لم يبلغه التحريم وكان قد أخذ أموالا وإن نزل الحكم وتأخر بلوغه إليه، فإنه يكون معذورا بذلك، ولكن خلاف العلماء ليس في هذا، خلاف العلماء فيمن تاب من الربا، هل يطالب بالتخلي عن الأموال السابقة التي اكتسبها بالحرام أو لا؟ على قولين معروفين.

إذًا خلاصة المسألة: أن الراجح الذي عليه أهل العلم والإيمان أن الشرائع لا تجب على المكلفين سواء كان ذلك جملة، أو كان على سبيل الجزء والبعض، لا تجب على المكلف إلا إذا بلغته، وقبل أن يبلغه ذلك، فهو معذور ما لم يكن مفرطا، فعليه أن يسعى إلى معرفة الحق والوصول إليه جهده.

"فإذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ولا تعلق للناس بها ولا يعرفون حقيقتها كان كلامهم فيها كلامًا بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهم بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان؛ لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة".

يعني ذكر حالين أن يكون هؤلاء لا يعرفون حقيقة ما جرى، فكلامهم فيها غير محمود، أو أن يكون هؤلاء يعرفون حقيقة ما جرى، فتكلموا من غير حاجة، يقول: ولو عرفوا أنهما مذنبان، أو مخطئان لكان ذلك من غير مصلحة، من باب الغيبة المذمومة؛ لأن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، فيقال: فلان فعل كذا، صدر منه كذا، قال كذا، من الأمور التي يعلم أنها خطأ أو إثم، وذكر ذلك من غير مصلحة راجحة يكون من قبيل الغيبة، ويكون ذلك مذمومًا، فمثل هذا لو اعتبره المكلف فيما يزاوله فيما يكتبه ويعلقه ويقوله ويتفوه به في المجالس وما أشبه ذلك، هذا القضايا التي يتحدث عنها الناس ويعلقون عليها دائما في المواقع والمنتديات، كل قضية لازم يعلق عليها! كل قضية لازم يكون لنا فيها رأي، لا بد أن يكون لنا فيها موقف! ماذا حصل لفلان وماذا حصل لفلان مع فلان، أو ما حصل للبلد الفلاني وما أشبه ذلك، قد يكون الإنسان ما أحاط بكل جوانب القضية وقد لا يطلب منه ذلك وقد يكون محيطا ولكنه لا حاجة لمثل هذا الكلام، يعني: ليس فيه مصلحة شرعية، فالكلام فيه من الفضول المحرم، يعني: أنه من قبيل الغيبة ولو ترك الناس كثيرًا من الفضول لأراحوا واستراحوا.

واقرأ في بعض المنتديات وترى، لا أتحدث عن المنتديات الهابطة، أو المنتديات التي لا تتقيد بقيود وليس فيها شيء يعول عليه، لا، المنتديات الجادة، اقرأ في التعليقات في أي خبر، أو حدث، اسمع ماذا يقول، فلان يقول: يستاهل وفلان يقول: لا، القضية فيها شيء آخر، غير هذا وما أعلمك وما أدراك وكل قضية لازم يعلق عليها ويبدي رأيه فيها، هؤلاء سيسألون عما خطت أيديهم، وعما قالوا، وما يحكمون به على الآخرين.

"ودين الإسلام وسط بين الأطراف المتجاذبة، فهم وسط في التوحيد بين اليهود التي تصف الرب بالنقائص ويشبهون الخالق بالمخلوق وبين النصارى التي تصف المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها ويشبهون المخلوق بالخالق".

اليهود يشبهون الله، يقعون في أمور شنيعة من الكلام على الله لا يستطيع الإنسان أن يحكيها وهي موجودة في كتبهم، يجترؤون فيها على الله ويعيبونه، ويقولون: إنه بكى على الطوفان، أعوذ بالله، يقولون كلاما لا أستطيع أن أحكيه الآن، هذا حال اليهود ويقولون: أنه تصارع مع يعقوب وأمور، يعني: في غاية السوء وغاية الكفر.

والنصارى، يقول: وبين النصارى التي تصف المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها، ويشبهون المخلوق بالخالق، فالنصارى يعطون بعض المخلوقين من صفات الخالق، فيغلون ببعض المخلوقين، وأولئك ينتقصون الله -تبارك وتعالى- يعني: لاحظ هؤلاء في غلوهم بالبشر، وأولئك في تنقصهم لرب البشر، وأهل الإسلام وسط يعظمون الله التعظيم اللائق، ولا يعطون المخلوق من الأوصاف ما لا يصلح إلا للخالق، فيعطون المخلوق قدره ويعطون الخالق أيضا ما يستحق من التعظيم والإجلال.

"فالمسلمون وحدوا الله ووصفوه بصفات الكمال ونزهوه عن جميع النقص ونزهوه أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات، فهو موصوف بصفات الكمال، لا بصفات النقص، وليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله".

وكذلك في النبوة والأنبياء، اليهود ينتقصون الأنبياء ويقولون عنهم إفكًا وزور ويقتلونهم، والنصارى عظموا المسيح حتى جعلوا له من أوصاف الربوبية.

"وكذلك في النبوات، فاليهود تقتل الأنبياء وتستكبر عن اتباعهم وتكذبهم وتتهمهم بالكبائر والنصارى يجعلون من ليس بنبي ولا رسول نبيًا ورسولاً".
  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، برقم (4890)) ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم (2494).
  2. أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باب في مناقب عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وله كنيتان، يقال: أبو عمرو وأبو عبد الله، برقم (3701) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (6073).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله، برقم (1513) ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما، أو للموت، برقم (1334).
  4. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/80).
  5. انظر: الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة، لابن القيم (142).
  6. أخرجه الشافعي في مسنده، كتاب النكاح، الباب الثالث في الترغيب في التزوج وما جاءَ في الْخَطبِ وما يَحْرُم نكاحه وغَيْرَ ذَلِكَ، برقم (31) وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، برقم (1580).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه وقضاء النذور عن الميت، برقم (2760).
  8. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/80).
  9. انظر: منهاج السنة، لابن تيمية (4/454).
  10. انظر: وفيات الأعيان، لابن خلكان (2/39).
  11. انظر: تاريخ الإسلام، للذهبي (2/1100).
  12. انظر: تاريخ دمشق، لابن عساكر (25/398).
  13. انظر: بصائر في الفتن، للمقدم (123).
  14. انظر: العراق في أحاديث وآثار الفتن، لأبي عبيدة آل سلمان (1/125).
  15. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: ((اصبروا حتى تلقوني على الحوض))، برقم (3792) ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، برقم (1061).
  16. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم (1460).
  17. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم (55).
  18. أخرجه البخاري، كتاب، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((سترون بعدي أمورا تنكرونها))، برقم (7055) ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، برقم (1840).
  19. انظر: زغل العلم، للذهبي (33).
  20. انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (4/195).
  21. انظر: منهاج السنة، لابن تيمية (4/544).
  22. انظر: القصيدة النونية، لابن القيم (8).
  23. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، برقم (153).

مواد ذات صلة