الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
21 – منهاج السنة. القواعد 264-273
تاريخ النشر: ٠٤ / ربيع الآخر / ١٤٣٣
التحميل: 4378
مرات الإستماع: 2582

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

قال -رحمه الله-:

264- "المتصرف لغيره كولي اليتيم، وناظر الوقف، والوكيل، والمضارب، والشريك، وأمثال ذلك، يتعين عليه الاجتهاد في الأصلح، بخلاف المخير في الكفارات والديات ونحوها، فإنه تبع لإرادته إذ هذا التخيير لقصد السهولة عليه".

فقد ذكر هذا شيخ الإسلام -رحمه الله- في مقام الرد على الرافضي، في قدحه في عمر ، بكونه قد جعل الأمر شورى في الستة، وأنه فعل ما لم يفعله من قبله، وأنه خالف من قبله، فتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على أن الاختلاف أو المخالفة على نوعين: اختلاف تضاد، واختلاف تنوع، فذكر اختلاف التضاد، ثم تكلم على اختلاف التنوع، وذكر أمثلة له، كتنوع القراءات، وتنوع أدعية الاستفتاح، وتنوع الأذكار التي تقال في الركوع والسجود، وتنوع صيغ التشهدات، وتنوع صيغ الأذان والإقامة، وما جاء في الترجيع في الأذان، وما إلى ذلك، فهذا كله لا إشكال فيه، وأن المكلف مخير بين هذه الأمور المشروعة، وأنها حق، فهذا اختلاف تنوع، ثم بعد ذلك تطرق إلى هذه المسألة، وذكر أن التنوع على نوعين:

الأول: ما كان التخيير فيه بدون اجتهاد في الأصلح.

والثاني: عكسه، يعني: اختلاف التنوع الذي كله حق يكون المكلف مخيرًا فيه، فذكر أن هذا التخيير على نوعين: نوع يرجع إلى اجتهاد المكلف في طلب الأصلح، ونوع لا يطلب فيه ذلك.

بمعنى: ما ذكره هنا "المتصرف لغيره كولي اليتيم إلى آخره" الآن الله -تبارك وتعالى- في التخيير حينما خير بين خصال كفارة اليمين: عتق رقبة، إن لم يجد فإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإذا كان لا يستطيع فإنه يصوم ثلاثة أيام، الآن عندنا هذا على الترتيب، وليس على التخيير، لكن التخيير واقع في المرتبة الوسط التي هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فهل هذا يرجع إلى التشهي، أو يختار الأصلح، يعني: هل ينظر المكلف الأرفق به والأسهل أو ينظر الأصلح للفقير؟

القاعدة: إذا خير المكلف بين شيئين فأكثر، فإن كان ذلك يرجع إلى مصلحته فهو للتشهي، وإن كان ذلك يرجع إلى مصلحة الغير فهو للأصلح، هذا في القواعد الفقهية، وهذا يرتبط بهذه القاعدة تمامًا، كان يرجع إلى مصلحته فللتشفي، وإن كان يرجع إلى مصلحة الغير فالأصلح، فالله -تبارك وتعالى- خير في المحاربين أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] فوقع الاختلاف في هذا هل الإمام مخير فيهم بإطلاق، بحيث يفعل هذا، أو هذا، أو هذا، أو يقال: إنه مخيرًا فيهم بحسب الأصلح؛ لأن ذلك يتعلق بمصلحة الغير، ينظر الأصلح، أو أن ذلك باعتبار آخر، وأنه ليس على سبيل الاختيار الذي يكون من هذا النوع، وإنما يكون كل حال مرتبطة بحال من الجرم الذي قارفوه، كما يقوله بعض أهل العلم، كالشافعي، وغيره، فإذا تركنا هذا القول الأخير، ونظرنا إلى القول الذي قبله: أن الإمام يكون مخيرًا فيهم، هل هذا التخيير يرجع إلى ذوق الإمام ومحض تشهيه؟ الجواب: لا، وإنما يرجع ذلك إلى مصلحة الغير، فإن رأى أن المصلحة في النفي نفاهم، وإذا رأى أن المصلحة تقوم بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، فإنه يفعل ذلك بهم، وإذا رأى المصلحة في القتل والصلب قتلهم وصلبهم، وهذا بحسب الحال القائمة، فإذا كان هؤلاء قد وصلوا إلى حد من البغي والفساد، وذاع الخوف في الناس، أو خشي أن ينفرط الأمن، واجترأ من اجترأ، وما إلى ذلك، ففعل بهم ما يكون به نكاية، فهذا قد يكون هو الأصلح للغير، للمجتمع.

فهذه المسألة ترجع إلى هذا: "المتصرف لغيره، كولي اليتيم، وناظر الوقف، والوكيل والمضارب، والشريك، وأمثال ذلك، يتعين عليه الاجتهاد في الأصلح، بخلاف..." إلى آخره.

ولي اليتيم الآن، وناظر الوقف، والوكيل المضارب هؤلاء بيدهم أموال، والشريك ماذا يفعل؟ هل يجلب البضاعة هذه إلى هذا السوق، أو هذا السوق؟ هل هذا يرجع إلى التشهي، أو أن ذلك يرجع إلى مصلحة اليتيم، أو الشريك، أو صاحب المال الذي يضارب به؟ يرجع إلى المصلحة.

وهذا المبنى الذي هو وقف، وهو ناظر عليه، هل يُؤجر هذا المبنى بالجملة، أو يؤجر بالتفاريق؟ هذا ينظر فيه بالأصلح، ما ينظر إلى مصلحته هو، ويقول: أأجر لواحد وأستريح، ولا أحتاج إلى متابعة، وإنما ينظر إلى مصلحة الوقف، وهكذا حينما يكون مثلاً وكيلاً لأحد، فإنه لا يتصرف لمجرد إلقاء التبعة عنه، والتخلص من هذا التكليف، وإنما يتصرف بما هو الأصلح في هذا المال، هل يشتري بهذا المال الذي وُكل به، أو صار مضاربًا فيه أيضًا هذه السلع، أو يشتري هذه السلع؟ هل يجعل ذلك في تجارة في العقار مثلاً، أو يجعل ذلك تجارة في الأسهم؟ فينظر إلى الأصلح، فالتخيير هنا ليس بتخيير تشهي، يعني: حتى لو كان من قبل أحد من الناس خيره، وأطلق يده، وجعله ناظرًا لهذا الوقف، أو جعله وكيلاً على المال، أو اليتيم، وولاه على هؤلاء، وعلى أموالهم، وهكذا في التزويج لهؤلاء الأيتام، فإنه ينظر في الأصلح، هل يزوج هذه لهذا؟ تقدم لها خاطبان، فينظر في الأصلح لها في دينها ودنياها، وما إلى ذلك.

يقول: "وأمثال يتعين عليه الاجتهاد في الأصلح، بخلاف المخير في الكفارات والديات، ونحوها، فإنه تبع لإرادته؛ إذ هذا التخيير لقصد السهولة عليه" هذا إذا لم يكن على التدريج، كالتخيير بين الكسوة والإطعام، ينظر في الأرفق به، أو الأسهل عليه، ونحو ذلك، لكن لو كانت الحاجة إلى الطعام أكثر من الحاجة إلى الثياب هل نقول: أنت ممنوع من إخراج الثياب -الكسوة- في كفارة اليمين؟ الجواب: لا، لا يلحقه حرج، فذلك يرجع إلى رغبته ومصلحته، هذا يرتبط بالقاعدة الفقهية، وهي: التخيير ما كان لمصلحة الغير فالأصلح، وما كان لمصلحة المكلف، فهو على التشهي، في كفارة اليمين يكون مخيرًا بين العتق والإطعام والكسوة، فإن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام، فيكون هذا هو الذي للترتيب، أما بالنسبة لكفارة الظهار فهو على الترتيب: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، فهذا على الترتيب.

اختلاف التضاد لا بد فيه من واحد، إما هذا، وإما هذا، ومن أمثلته من كلام الفقهاء: هل يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر في الحضر بسب المطر مثلاً؟ وهل يجمع بين الصلاتين جمع تقديم إذا كان يعلم أنه يصل قبل وقت الثانية؟ وهل يصح الإتمام في السفر اختيارًا؟ يعني: ليس متابعةً للإمام، هل تصح الصلاة أو لا تصح؟ ابن حزم يقول: لا تصح، هذا اختلاف تضاد، هذا يقول: يجوز، وهذا يقول: لا يجوز، وهل يجب قراءة الفاتحة خلف الإمام أو لا؟ فهنا لا بد من ترجيح.

أما بالنسبة لكفارة الظهار هي على الترتيب: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، فهذا على الترتيب.

265- "الجاهل في كلامه على الأشخاص والطوائف والمقالات بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقر، ولا يقع على الصحيح، والعاقل يزن الأمور جميعًا هذا وهذا".

يقول: "الجاهل في كلامه على الأشخاص والطوائف والمقالات بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقر" وفي بعض نسخ منهاج السنة: "لا يقع إلا على العقير"[1]، والمحقق رجح هذه اللفظة (العقير) يعني: الجريح، فالذباب يقع على موضع الأذى، يقع على الجروح، ولا يقع على الموضع السليم.

يقول: "والعاقل يزن الأمور جميعًا هذا وهذا" هذا كلام جيد ومفيد، ونحتاج إليه في أمورٍ كثيرة، وشيخ الإسلام ذكر قبله كلامًا مفيدًا، يقول: "مما ينبغي أن يُعلم إن الله تعالى بعث الرسل، وأنزل الكتب؛ ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح، لا لرفع الفساد بالكلية، فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية؛ إذ لا بد فيها من فساد"[2]؛ لهذا يقولون في الكلام على مقاصد الشريعة، وما بُعث به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يعبرون العلماء عادة، كالشاطبي، وغيره: الرسل جاءت لتكثير المصالح، وتقليل المفاسد[3]، وبعض الناس يقول: لماذا تكثير وتقليل؟ لماذا لا يُقال: تكميل المصالح، وإزالة ورفع المفاسد؟ يُقال: هذا لا يمكن، بل قال الشاطبي -رحمه الله-: لا توجد مصلحة خالصة من كل وجه في الدنيا، وفسّر طبعًا المصالح باللذات، قال: حتى الصيام، والصلاة، والحج، والزكاة، ليست مصالح خالصة من كل وجه، ماذا يقصد؟ يقصد: أنه ينتابها من المشقة والتعب، فهذه أمور منغصة، حتى الأمور العادية الطعام والشراب والنكاح إلى آخره، يحصل معها من الكدر والتنغيص، بحيث إنها لا تكون لذة خالصة، كما أنه لا يُوجد مفسدة خالصة، يعني: الخمر الله ذكر أن فيها نفعًا: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219] لكن الإثم الذي فيها والشر والفساد أكثر من النفع، وهذا هو المعتبر شرعًا.

فهنا شيخ الإسلام يقول: "بأن الله تعالى بعث الرسل، وأنزل الكتب؛ ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح، لا لرفع الفساد بالكلية"[4]؛ ولهذا من أراد أن يوجد مجتمعًا مثاليًا، لا يوجد فيه مفسدة، أو فساد بالكلية، فهو مخالف لسنة الله في الخلق والكون.

يقول: "ولهذا قال تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] ولهذا لم تكن أمة من الأمم إلا فيها شر وفساد، وأمثل الأمم قبلنا بنو إسرائيل، كان فيهم من الفساد والشر ما قد عُلم بعضه، وأمتنا خير الأمم، وأكرمها على الله"[5].

ويرد على هؤلاء الرافضة الذين يقدحون في بعض أصحاب النبي ﷺ، ويخطئونهم في أمور، أو نحو ذلك، فيقول: "وخيرها القرون الثلاثة، وأفضلهم الصحابة، وفي أمتنا شر كثير، لكنه أقل من شر بني إسرائيل، وشر بني إسرائيل أقل من شر الكفار الذين لم يتبعوا نبيًا، كفرعون وقومه، وكل خير في بني إسرائيل ففي أمتنا خير منه، وكذلك أول هذه الأمة، وآخرها، فكل خير في المتأخرين، ففي المتقدمين ما هو خير منه، وكل شرٍ في المتقدمين، ففي المتأخرين ما هو شر منه، وقد قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ولا ريب أن الستة الذين تُوفي رسول الله ﷺ، وهو عنهم راضٍ، الذين عينهم عمر، لا يُوجد أفضل منهم، وإن كان في كل منهم ما كرهه، فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم؛ ولهذا لم يتولى بعد عثمان خير منه، ولا أحسن سيرةً، ولا تولى بعد علي خير منه، ولا تولى ملك من ملوك المسلمين أحسن سيرة من معاوية -رضي الله عنه-، كما ذكر الناس سيرته وفضائله، وإذا كان الواحد من هؤلاء له ذنوب، فغيرهم أعظم ذنوبًا، وأقل حسنات، فهذا من الأمور التي ينبغي أن تُعرف، فإن الجاهل بمنزلة الذباب..."[6] يعني: هؤلاء الذين يقعون على الأخطاء والعيوب ويتتبعونها، سواء بالنسبة لأصحاب رسول الله ﷺ، أو بالنسبة لغيرهم، لا سيما من أهل العلم والأخيار والصالحين من الأمة، فالذي لا يعرف إلا أخطاءهم، ويتتبع عيوبهم، فهذا بمنزلة الذباب الذي وُصف بهذا الوصف، فكيف إذا كان أصلاً يقرأ كتبهم، ويسمع دروسهم من أجل أن يستخرج الأخطاء، ويترك ما فيها من الخير والعلم الكثير، فمثل هذا لا يكون من أفعال المؤمن بحال من الأحوال، ولا يليق به بوجه من الوجوه -نسأل الله العافية-.

فشيخ الإسلام يقول: "هؤلاء الرافضة من أجهل الناس، يعيبون على من يذمونه ما يُعاب أعظم منه على من يمدحونه، فإذا سُلك معهم ميزان العدل، تبين أن الذي ذموه أولى بالتفضيل ممن مدحوه"[7]، وذكر أشياء كثيرة من هذا القبيل، واحتج عليهم، ورد على هذا الرافضي، فذكر مثلاً كلام هذا الرافضي عن عثمان : بأنه ولى أقاربه، وأنه، وأنه... إلى آخره، وسمّى شيخ الإسلام مجموعة من أقارب علي الذين ولاهم، فقال: "ومعلوم أن عليًا ولى أقاربه"[8] ورد عليه بهذه الطريقة، وبالأسماء، وذكر الأمور التي وقعت في زمن عثمان ، وذكر ما وقع في زمن علي ، فكانت ردوده في غاية الإفحام.

يقول: ومع أننا نتولى عليًا ، ونقول: هو من خيار أصحاب النبي ﷺ، ورابع الخلفاء الراشدين، ولم يأتِ بعده من الولاة من هو أفضل منه، وهكذا.

266- "والأعمال ثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة، بل لحقائقها التي في القلوب، والناس يتفاضلون في ذلك تفاضلاً عظيمًا".

هذا ذكره في مقام الرد أيضًا على هذا الرافضي، فيما طعن فيه على عثمان ، وذكر ضمن ذلك المكفرات العشرة، ومنها: الحسنات الماحية، وتكلم على هذه الحسنات الماحية، وأن الناس يتفاوتون فيها، فالصلاة يتفاوتون فيها، ويخرج الواحد من صلاته ليس له إلا نصفها، إلا كذا، إلا كذا، فهذا يصلي بجنب هذا، وبينهما من التفاوت ما الله به عليم، بقدر ما يستحضر، وبقدر ما يقوم في قلبه من الإخلاص، وما إلى ذلك، وهكذا في الصدقة والإخلاص والحج، ويكون لهذه العبادات من الآثار والأجور والحسنات بقدر ما يتحقق فيها من هذه الكمالات، وحضور القلب، والإخلاص لله -تبارك وتعالى-.

فهنا يقول: "والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة"[9] هذا يصلي، وهذا يصلي، هذا حاج، وهذا حاج، لكن شتان بين هذا وهذا، بحسب ما يقوم بقلبه، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] فهو يتصدق ويصوم ويزكي، ويعمل الأعمال الصالحة، ويخشى أن لا يُقبل منه، بخلاف ذلك الذي يعمل هذه الأعمال الصالحة، وكأنه ممتن على ربه -تبارك وتعالى-، أو ذلك الذي يعمل المعصية، وهو خائف وجل، بغاية الحياء من الله، والآخر الذي يعملها في حال من الاستخفاف والاستهتار، كأنه  ذباب وقع على وجهه، فقال به هكذا، فيتفاوت الناس في الحسنات والسيئات، باعتبارات متنوعة.

فهنا يقول: "والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة، بل لحقائقها التي في القلوب"[10]، ومن ثم فإن أصحاب النبي ﷺ وُجد عندهم من الإخلاص والبذل والنصح للأمة، والمحبة لله ولرسوله ﷺ، ونشر الإسلام، والجهاد في سبيل الله، وما إلى ذلك ما لم يُوجد عند غيرهم.

267- "والصحابة -رضوان الله عليهم- لم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام، لا في الصفات، ولا في القدر، ولا مسائل الأحكام، ولا مسائل الإمامة، لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال، فضلاً عن الاقتتال بالسيف، بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه، نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين، مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله، مثبتين للأمر والنهي، والوعد والوعيد، مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره، مثبتين لقدرة العبد واستطاعته، ولفعله، مع إثباتهم للقدر، إلى غير ذلك من أصول الإسلام وقواعده". 

هذا يذكره شيخ الإسلام كثيرًا، ويذكره كثيرون، ممن تكلموا على هذه القضايا، وأهل السنة، وأنهم متفقون على أصول الدين، وأن القتال الذي وقع بين أصحاب النبي ﷺ، والاختلاف الذي حصل بينهم لم يكن من التفرق المذموم، فما كانوا شيعًا، وتفرقوا كما تفرقت الشيع بعدهم، وإنما كانت -على القتال الذي بينهم- الإخوة الإيمانية قائمة بينهم، وقد مضى أمثلة لهذا من كلام الشيخ الإسلام -رحمه الله-، وعلي -رضي الله تعالى عنه- لما دخل على عائشة -رضي الله عنها- بعد الجمل، وقال ما قال، وكذلك قال: "أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير مما قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر:47]"[11]، مع القتال الذي كان بينهم لم يكن بعضهم يضلل بعضًا، أو يكفر بعضًا، فما كان اختلافهم في الدين، وإنما كان اختلافهم في اجتهادات اجتهدوها ، كما صرح بذلك علي -رضي الله تعالى عنه- نفسه، وقال: "إنما هو رأي رأيناه"[12]، فما أوجب هذا بينهم الانقسام، فما صار الصحابة على فرق ومذاهب، وإنما كان الاختلاف بينهم في الاجتهادات، فهذا يرد فيه شيخ الإسلام -رحمه الله- على الرافضي في زعمه: أنه ما سُل سيف -على قاعدة دينية- أعظم من السيف الذي سُل على الإمامة، وهو يُعرِّض بهذا بجميع الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- بعد النبي ﷺ، سوى النفر الذين يستثنونهم، بمعنى: أنه يزعم: أن أول ذلك كان في مصادرة الخلافة بعد النبي ﷺ من قبل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان.

فيقول: هذا أعظم سيف سُل في الإسلام، على قاعدة دينية، وهو السيف الذي سُل على الإمامة، فشيخ الإسلام يرد عليه، ويقول: هذا الكلام غير صحيح، بل أول سيف سُل على قاعدة دينية -يعني على أمر ديني- كان هو السيف الذي سُل على الخوارج، فإنهم خرجوا على علي ، ووقع ما وقع، فكان القتال للاختلاف في الدين، يعني: هؤلاء كانوا يكفرون الصحابة، ويضللونهم، فقاتلهم علي لذلك، وقد جاءت فيهم الأحاديث، قاتلوا، وابتدأوا بالقتال، وسفكوا الدم الحرام، وحصل منهم العدوان على الناس، فقاتلهم علي ، فكان الاختلاف بين الصحابة وبين الخوارج على أمر ديني، وليس على اجتهادات، والنصوص واضحة في الخوارج، لكن القتال الذي وقع بين علي وبين أهل الشام، لم يكون على شيء من هذا؛ ولذلك لم يحصل التفرق في الدين، فأهل الشام وأهل العراق متفقون على دين واحد، ليس بينهم اختلاف، وإنما الاختلاف وُجد بعد ذلك، فأول اختلاف وقع على أمر ديني، وعلى قاعدة دينية، وعلى أصل ديني، هو القتال الذي وقع مع الخوارج.

وذكر شيخ الإسلام كلامًا كثيرًا، وأن هؤلاء الذين وقع القتال بينهم، يعني: مع أهل الشام، لم يكونوا أيضًا يدعون أنهم أحق بالخلافة من علي، يقول: "وما أدعى هذا لا معاوية، ولا قال: إنه أمير المؤمنين، ولا قاتل على هذا الأساس، وما ادعاه طلحة، ولا الزبير، ولا أحد سوى هؤلاء بل كانوا يعلمون أن عليًا أحق بالخلافة، وهو الذي كان يُدعى بأمير المؤمنين، وما كان أحد من هؤلاء يدعي ذلك لنفسه، أو لغيره، إنما كان هؤلاء يطالبون بدم عثمان [13].

فيقول: حتى هذه القضية -الإمامة- لم يكن هناك منازعة فيها، فضلاً عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وعلي بايع هؤلاء الخلفاء الثلاثة جميعًا، وما ادعى علي أنه أحق من أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان بأمر الخلافة، وما وقع قتال بين الصحابة، ولا تفرُّق بسبب الإمامة، بل كان الأمر مستقرًا لأبي بكر، وكان يُدعى الخليفة، ثم لعمر، ثم لعثمان -رضي الله عنهم جميعًا-، وما نازعه أصحاب النبي ﷺ في خلافته، وهكذا لما صارت الخلافة لعلي ، فما سل سيف بسبب الإمامة بين الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-.

268- "الأمور نوعان: كلية عامة، وجزئية خاصة، فأما الجزئيات الخاصة نحو ميراث هذا الميت، وعدل هذا الشاهد، ونحوها، فهذا مما لا يمكن لا نبيًا، ولا إمامًا، ولا أحدًا من الخلق، أن ينص على كل فرد فرد منه، وإنما الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية العامة، فينص على قواعد كلية، ثم ينظر في دخول الأعيان تحت تلك الكليات، أو دخول نوع خاص تحت أعم منه، وإن اكتفى بالكليات، فقد نص ﷺ على كليات من كتاب الله، ومن الحكمة، يدخل فيها من الجزئيات ما لا حصر له، وقد أُعطي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارًا".

هذا الكلام من شيخ الإسلام جاء ضمن الرد على الرافضي في زعمه: أنه لا بد من نصب إمام معصوم، يمتنع عليه الخطأ، والنسيان، والمعصية، يعني: هو معصوم من الخطأ، والنسيان، والمعصية، لا بد من هذا، ورد عليه شيخ الإسلام من أوجه كثيرة، وهذا ضمن الوجه الثاني عشر في الرد على هذا، وهو أن العلم الديني الذي يحتاج إليه الأئمة، يعني: الخلفاء، والحكام، والأمة، نوعان: علم كلي، كإيجاب الصلوات الخمس، وصيام رمضان، وعلم جزئي، كوجوب الزكاة، على هذا، أما الأول فالشريعة مستقلة به.

لا نريد أن ندخل في وجوه الرد التي ذكرها على هذا الرافضي في قضية المعصوم، فإنه رد عليه بردود قوية جدًا، وبها يتبين تهافت الرافضة، ويتبين فيها أيضًا قوة حجة شيخ الإسلام -رحمه الله-، فمن شاء فليراجع ذلك.

لكن هنا في هذا الوجه يقول: بأن هذا العلم الديني الذي يحتاج إليه الأئمة، والأمة نوعان[14]، حتى نقول: نحتاج إلى معصوم، أو لا نحتاج إلى معصوم، ما الحاجة إلى المعصوم؟

يقول: هذا العلم أما كلي، وأما جزئي، الكلي: استقلت به الشريعة، وبينته، قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3] فالشريعة مستوعبة وشاملة لكل ما يُحتاج إليه الناس، سواء قلنا: بأن النصوص دلت على ذلك، إما دلالة صريحة، وإما بدلالة خفية، كما يقوله بعض أهل العلم، أو أن ذلك بما دلت عليه النصوص، أو ما يرجع إلى ذلك من القياس، فيُقاس ما لم يذكر على ما ذُكر، والقياس دليل شرعي، فيلحق المسكوت عنه بالمنصوص، ومن ثم تكون الشريعة دالة على كل ما يستجد.

ثم يقول: أما التطبيقات والوقائع -وقائع الأعيان-، فإن مثل هذا يحتاج إلى تنزيل واجتهاد، تنزيل الأحكام على الأعيان والأفراد، فهذا نوع اجتهاد، فهذا لا يمكن أن تحيط به النصوص باعتبار أنها تأتي على كل حالة، وكل فرد، فهذا لا انتهاء له، بعد النبي ﷺ إلى قيام الساعة، لا تزال الحوادث والوقائع تتجدد، فلا يمكن أن يطلب في كل واقعة لزيد أو عمرو، أو نحو ذلك، أن يأتي نص يتحدث عن قضيته بعينها.

ولهذا الشاطبي يتحدث عن هذه القضية، وحاصل ما ذكره مثل كلام شيخ الإسلام: بأن الاجتهاد على نوعين، نوع في استنباط الأحكام من الأدلة، فهذا للعلماء.

والنوع الثاني: هو في التنزيل، الذي يسمونه تحقيق المناط، يعني: تطبيق هذا الحكم الكلي على هذا المعين، هذا المعين حتى نطبق الحكم الكلي عليه، لا بد من تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، لو جاءني فلان وقال: عندي مال يبلغ النصاب، هل تجب عليّ الزكاة؟ أقول: لا بد من تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، أنا لا أستطيع أن أقول: تجب عليك الزكاة، احتاج استفصل.

نقول: الحج واجب، لو جاء زيد، وقال: هل يجب على الحج؟ نقول: هذا لا بد فيه من تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، فننظر في حاله، ما الذي يجب عليه؟ أن يحج بنفسه، أو تصح النيابة عنه، أو يحجج بماله إن كان له مال، أو غير ذلك؟

يجب على الإنسان مثلاً أن يتوضأ للصلاة، جاءنا زيد من الناس وقال: أنا ما عندي ماء، أو أنا مريض، أو نحو ذلك، فهل يجب على الوضوء؟ نقول: هل تجد ثمن الماء؟ وهل هو بقيمة المثل؟ أو إذا وُهب لك الماء هل يكون فيه نوع منة أو من غير منة؟ ونحتاج أن نستفصل استفصالات، حتى نقول: يجب عليك أن تتوضأ بالماء، أو يسقط عنك ذلك.

المبيت بمنى واجب في ليالي التشريق، لو جاء إنسان وقال: هل يجب على المبيت؟ نقول: حسب الحال، نحتاج نستفصل: هل يجب عليه المبيت، أو لا يجب عليه المبيت؟ فالحكم الكلي الشريعة وافية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] وأما تنزيل الأحكام على الأفراد، فهذا الذي يسمونه بتحقيق المناط، هذا لا بد فيه من تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، فنوع من هذا يطبقه أيضًا وينزله العلماء، هل يجب على فلان أو لا يجب على فلان؟ ونوع منه -كما يقول الشاطبي-: يحصل لكل مكلف[15]، مثل استقبال القبلة واجب، فيتحرى القبلة، هذا الإنسان في صحراء، لا يوجد معه أحد، ماذا يجب عليه؟ هو يعلم أن استقبال القبلة واجب، الشريعة دلت على هذا، بقي هناك اجتهاد آخر، وهو في التنزيل والتطبيق، فنقول له: تحرى، فهنا يحتاج أنه يجتهد.

هذه امرأة نزل عليها دم، فتسأل تقول: أصلي أو لا أصلي؟ نحن نقول: إن الحيض لا تصلي معه، فنقول لها: إن كانت لها عادة مستقرة، وما خرج عن عادتها فليس بحيض، على هذا القول، وإن لم يكن لها عادة مستقرة، فإنها تنظر إلى صفة الدم، فإن وجد أحد الصفات، فإن ذلك يكون حيضًا... إلى آخره.

الآن من الذي ينظر صفة الدم، والكدرة، والصفرة التي نزلت؟ وهل هي متصلة أو غير متصلة؟ وهل هي في وقت الحيض، أو ليس في وقت الحيض؟ كل هذا الكلام من الذي ينظر فيه؟ هي التي تجتهد، ولا يمكن أن ينظر في هذا أحد غيرها، فهذا نوع اجتهاد في تنزيل الحكم على المكلف، فلا يخلو المكلف من نوع اجتهاد، لكنه من هذا القبيل في التنزيل.

فشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: هذا المعصوم ما الحاجة إليه؟ إن كان يريد أن يشرع يحلل ويحرم، ويأتي بأحكام جديدة، فهذا صار مشاركًا للرسول ﷺ، بل مشاركًا لرب العالمين؛ لأن التشريع من الله، وإن كان يريد أن يطبق على الوقائع، وما إلى ذلك، فمثل هذا ما جاء به الرسول ﷺ على كل الوقائع إلى قيام الساعة، حتى نطلب من يكون معصومًا لأجل هذا.

يقول: أنتم تقولون: الأئمة معصومون، وأن أول هؤلاء الأئمة علي ، ومعلوم أن عليًا -رضي الله تعالى عنه- حينما تولى الخلافة أعطى رجالاً أموالاً، ثم خانوه، وذهبوا بها، ولم يرجعوا، وأعطى رجالاً أموالاً -يعني لمصالح الناس- فذهبوا إلى معاوية وعسكره، وصاروا مع أهل الشام، وتركوا عليًا ولم يرجعوا إليه، وعلي ولى الولاة في خراسان، وفي أماكن من البلاد المتفرقة، فكان يقضي بالقضاء، ويأمر بالشيء، ولا يبلغ هؤلاء، فيجتهدون، وكانوا يتصرفون تصرفات لا يعلم بها علي ، وأنتم تقولون: إنه معصوم، فما فائدة المعصوم الذي يكون معصومًا من الخطأ، والسهو، والنسيان، والمعصية، إذا كان علي وهو أفضل الأئمة عندكم كان كل ذلك يقع في خلافته، ولا يحيط بتصرفات الولاة، وما تبلغ قضاياه وأحكامه لكل الولاة، فما الفائدة إذًا من المعصوم؟ ويقول: إما هذا، وإما هذا، تقصدون هذا أو تقصدون هذا، ثم يرد عليه بهذه الطريقة، هذا هو السياق الذي جاء من أجله هذا الكلام.

269- "قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر:32] إذا تدبرت هذا علمتَ أن كل واحد من الكذب على الله، والتكذيب بالصدق مذموم، وأن المدح لا يستحقه إلا من كان آتيًا بالصدق، مصدقًا للصدق، علمتَ أن هذا مما هدى الله به عباده إلى صراطه المستقيم، وإذا تأملتَ هذا تبين لك كثيرًا من الشر، أو أكثره، يقع من أحد هذين، فتجد إحدى الطائفتين والرجلين من الناس لا يكذب فيما يخبر به من العلم، لكن لا يقبل ما تأتي به الطائفة الأخرى، وربما جمع بين الكذب على الله، والتكذيب بالصدق".

هذا أيضًا ذكره في سياق الرد على الرافضي عند كلامه على قوله -تبارك وتعالى- في ذكر مناقب علي : وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] قال الرافضي نقلاً عن مجاهد: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هو النبي ﷺ، وَصَدَّقَ بِهِ هو علي، فشيخ الإسلام يرد عليه، ويقول: الثابت عن مجاهد بالأسانيد الصحيحة[16]، وذكر أنه وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هو القرآن، وَصَدَّقَ بِهِ هو كل مؤمن صدق به، وذكر بعض الروايات، وأقوال السلف في أنه أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه-، فالشاهد أنه يرد كلامه، ويذكر الآية التي قبل الآية التي يحتج بها هذا الرافضي، وهي: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر:32] فيقول: بعض أهل الأهواء يقبل ما يوافق هواه، أو ما يكون صادرًا ممن يحبه من شيوخه، أو طائفته، أو نحو ذلك، فإذا صدر شيء ممن يبغضهم ويكرههم من الشيوخ، أو من الطوائف، أو نحو ذلك، فإنه يرد كل ما جاء به، فهذا لا يجوز، فيكون داخلاً في قول: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر:32][17].

ويقول: إن الرافضة هم أكثر الناس وقوعًا في هذا، وأن ذلك ينطبق عليهم تمام الانطباق[18]؛ ولهذا يذكر  قبله كلامًا يمكن أن أشير إلى بعضه، حيث يقول: "فإن من الناس من يصدق، ولا يكذب، لكنه يكره أن غيره يقوم مقامه في ذلك حسدًا ومنافسة، فيكذب غيره في صدقه، أو لا يصدقه، بل يعرض عنه، وفيهم من يصدق طائفة فيما قالت قبل أن يعلم ما قالوه"[19]، كل ما صدر عن أصحابه وطائفته فهو مقبول، وإن جاء من غيرهم فإنه يرده قبل أن يعلم ما قالوه أصدق هو أم كذب؟

وقال: "الطائفة الأخرى لا يصدقها فيما تقول، وإن كان صادقًا، بل إما أن يصدقها، وإما أن يعرض عنها، وهذا موجود في عامة أهل الأهواء، تجد كثير منهم صادق فيما يقوله، لكن ما ينقله عن طائفته يعرض عنه، فلا يدخل هذا في المدح، بل في الذم؛ لأنه لم يصدق بالحق الذي جاءه"[20].

الظاهر: إن الكلام فيه سقط، أو نحو ذلك، يعني: ما ينقل عن طائفة غيره فإنه يعرض عنه، فلا يقبل إلا ممن يكون هواه معه.

إلى أن يقول: "وأنت تجد كثيرًا من المنتسبين إلى علم ودين لا يكذبون فيما يقولونه، بل لا يقولون إلا الصدق، لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق، بل يحملهم الهوى والجهل على تكذيب غيرهم، وإن كان صادقًا، إما تكذيب نظيره، وإما تكذيب من ليس من طائفته، ونفس تكذيب الصادق هو من الكذب؛ ولهذا قرنه الله بالكاذب على الله، فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر:32] فكلاهما كاذب، هذا كاذب فيما يخبر به عن الله، وهذا كاذب فيما يخبر به عن المخبر عن الله -تبارك وتعالى-"[21]، وهذه الأهواء لا تختص بالرافضة، بل هي موجودة في كثير من الطوائف الأمة للأسف، وعلى كل حال المؤمن يقبل الحق من كل من جاء به، دون أي اعتبار آخر، هذا هو الصراط المستقيم.

270- "الخلفاء الأربعة الراشدون لهم في تبليغ كليات الدين، ونشر أصوله، وأخذ الناس عنهم ذلك ما ليس لغيرهم، وإن كان يُروى عن صغار الصحابة من الأحاديث المفردة أكثر مما يُروى عن بعض الخلفاء، فالخلفاء لهم عموم التبليغ وقوته، الذي لم يشاركهم فيه غيرهم، ثم لما قاموا بتبليغ ذلك، شاركهم فيه غيرهم، فصار متواترًا، كجمع أبي بكر وعمر القرآن في المصحف، ثم جمع عثمان لها في المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار، فكان الاهتمام بجمع القرآن، وتبليغه أهم مما سواه، وكذلك تبليغ شرائع الإسلام إلى أهل الأمصار، ومقاتلتهم على ذلك، واستنابتهم في ذلك الأمراء والعلماء، وتصديقهم لهم فيما بلغوه عن الرسول، فبلغ ما أقاموه من أهل العلم، حتى صار الدين منقولاً نقلاً عامًا متواترًا، ظاهرًا معلومًا، قامت به الحجة، ووضحت به المحجة، وتبين به أن هؤلاء كانوا خلفاءه المهديين الراشدين، الذين خلفوه في أمته علمًا وعملاً، وهو ﷺ، كما قال الله في حقه: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۝ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2] وكذلك خلفاؤه الراشدون، الذين قال فيهم: عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي[22]، فإنهم خلفوه في ذلك، فانتفى عنهم بالهدى الضلال، وبالرشد الغي، وهذا هو الكمال في العلم والعمل".

هذا يذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في ضمن الرد على الرافضي في قوله: بأن المخالف إذا روى أحاديث، ونقلنا نحن أضعافها عن رجالنا الثقات -هكذا يقول رجال الرافضة ثقات- وجب علينا المصير إليها، وحرم العدول عنها.

فشيخ الإسلام بدأ يرد على كلامه هذا، وبدأ يتكلم على هذه الأحاديث التي يوردها في فضائل علي ، أو في القدح في أصحاب النبي ﷺ، ويُبين أن هذه أشياء مكذوبة وملفقة، ويُبين أن هؤلاء ليس عندهم رجال ثقات، وليس عندهم أسانيد أصلاً، وأن أخبار هؤلاء في أحسن الأحوال من جنس أخبار أهل الكتاب، التي لا يمكن أن يُعرف الصدق فيها من الكذب، ثم بيّن فضل أهل الكتاب على هؤلاء الرافضة، وذكر كثيرًا من مخازي الرافضة، وجهالاتهم.

ثم تحدث عن جهود الصحابة في نشر الدين، وحفظ سنة رسول الله ﷺ، وفي تبليغ ذلك للناس، ثم جهود من جاء بعدهم من العلماء والأئمة، وكبار الحفاظ، وأصحاب المصنفات، وما لهم من العلم والمعرفة والدراية والدربة والخبرة والفراسة في معرفة الصحيح والضعيف، والعلل الخفية، وما إلى ذلك، وأنهم كانوا يميزون بين الموضوع والضعيف، إلى آخره، بأمور كثيرة معروفة، وأن أهل الصنائع يميزون، ولديهم من المعرفة بالصحيح والسقيم والزيوف، إلى آخره من النقود، وما إلى ذلك، وأهل العلم الذين أفنوا حياتهم في سنة رسول الله ﷺ في تنقيح حديثه صار لهم من البصر والمعرفة، ما لا يقادر قدره، وذكر شيئًا من جهودهم في هذا، وبصرهم وعلمهم وتميزهم وتنقيحهم، والأحاديث التي يرويها الشيخان، وما إلى ذلك، مما لا يعرفه الرافضة، ولا يوجد عندهم شيء يمكن أن يقاس بذلك.

وذكر تفاوت الصحابة في مثل هذه الأمور، وقال: بأن صغار الصحابة قد يكون أكثر رواية من كبار الصحابة، ولكن ما بذله كبار الصحابة كان أعظم وأجل في بث العلم، وتقرير السنة، ودعائم الدين ونشره وإذاعته في الناس، هذا يرد به على هذا الرافضي في دعواه التي سمعتم.

وفي مضامين كلامه كلام جيد ربما نحتاج إلى مثله في مثل هذه الأيام، أو التذكير بذلك، في المجلد السابع صفحة (414) فما بعدها، مقتطفات منه، فذكر جهود الصحابة، في نشر الدين، وتبليغ الإسلام إلى الآفاق، ودخول العالم في الإسلام، وفتوح البلدان، والممالك، والأمصار، كل هذه الجهود قام بها الصحابة ، ثم بدأ يتكلم على هؤلاء الرافضة، ومناقضاتهم لما جاء به الرسول ﷺ عند الخاصة والعامة أمر معلوم.

ثم قال: "حتى الطوائف الذين ليس لهم من الخبرة بدين الرسول ما لغيرهم، إذا قالت لهم الرافضة: نحن مسلمون، يقولون لهم: أنتم جنس آخر.

يقول: ولهذا الرافضة يوالون أعداء الدين، الذين يعرف كل أحد معاداتهم، من اليهود والنصارى ومشركي الترك، ويعادون أولياء الله، الذين هم خيار أهل الدين، وسادات المتقين، وهم الذين أقاموه، وبلغوه، ونصروه"[23].

يقول: "ولهذا كان الرافضة من أعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد الإسلام، وأما قصة الوزير ابن العلقمي وغيره، كالنصير الطوسي مع الكفار، وممالأتهم على المسلمين، فقد عرفها الخاصة والعامة، وكذلك من كان منهم بالشام ظاهروا المشركين على المسلمين، وعاونوهم معاونة عرفها الناس، وكذلك لما انكسر عسكر المسلمين لما قدم غازان، ظاهروا الكفار النصارى، وغيرهم من أعداء المسلمين، وباعوهم أولاد المسلمين بيع العبيد، وأموالهم، وحاربوا المسلمين محاربة ظاهرة، وحمل بعضهم راية الصليب"[24].

وفي بعض كتبه يقول: "حملوا الصليب الكبير، وكانوا يسيرون في مقدم النصارى".

يقول: "وهم كانوا من أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديمًا على بيت المقدس، حتى استنقذه المسلمون منهم".

ويقول: "وقد دخل فيهم أعظم الناس نفاقًا من النصيرية، والإسماعيلية، ونحوهم، ممن هو أعظم كفرًا في الباطن ومعاداة لله ولرسوله من اليهود والنصارى، فهذه الأمور وأمثالها مما هي ظاهرة مشهورة، يعرفها الخاصة والعامة، توجب ظهور مباينتهم للمسلمين، ومفارقتهم للدين، ودخولهم في زمرة الكفار والمنافقين، حتى يعدهم من رأى أحوالهم جنسًا آخر، غير جنس المسلمين، فإن المسلمون الذين يقيمون دين الإسلام في الشرق والغرب، قديمًا وحديثًا هم الجمهور، والرافضة ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام، ونقض عراه، وإفساد قواعده، والقدر الذي عندهم من الإسلام إنما قام بسبب قيام الجمهور به"[25].

يقول: "ولهذا قراءة القرآن فيهم قليلة، ومن يحفظه حفظًا جيدًا، فإنما تعلمه من أهل السنة، وكذلك الحديث إنما يعرفه، ويصدق فيه، ويُؤخذ عن أهل السنة، وكذلك الفقه والعبادة والزهد والجهاد والقتال إنما هو لعساكر أهل السنة، وهم الذين حفظ الله بهم الدين علمًا وعملاً، بعلمائهم وعبادهم، ومقاتليهم.

والرافضة من أجهل الناس بدين الإسلام، وليس للإنسان منهم شيء يختص به، إلا ما يسر عدو الإسلام، ويسوء وليه، فأيامهم في الإسلام كلها سود، وأعرف الناس بعيوبهم وممادحهم أهل السنة، لا تزال تطلع منهم على أمور غيرها، عرفتها، كما قال تعالى في اليهود: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ [المائدة:13]".

يقول: "ولو ذكرتُ بعض ما عرفته منهم بالمباشرة، ونقل الثقات، وما رأيته في كتبهم، لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير"[26].

ويقول: "وهم الغاية في الجهل، وقلة العقل، يبغضون من الأمور ما لا فائدة لهم في بغضه، ويفعلون من الأمور، ما لا منفعة لهم فيه، إذا قُدر أنهم على حق، مثل نتف النعجة -هم يقولون: إنها عائشة -رضي الله عنها-، فينتفونها- وهي حية، -يعني: ينتفون الصوف وهي حية-، حتى كأن لهم عليها ثأرًا، كأنهم ينتفون عائشة، وشق جوف الكبش، كأنهم يشقون جوف عمر -يعني وهو حي-، فهل فعل هذا أحد من طوائف المسلمين بعدوه غيرهم؟!"[27].

يقول: "ومثل كراهتهم للفظ العشرة؛ لبغضهم للرجال العشرة"[28] يعني: العشرة المبشرين بالجنة.

ويقول: "وهم لا يعتمدون في أدلتهم إلا على أحد ثلاثة أشياء: إما نقل كاذب، وإما دلالة مجملة مشتبهة، وإما قياس فاسد، وهذا حال كل من احتج بحجة فاسدة، نسبها إلى الشريعة، فإن عمدته إما نص، وإما قياس، والنص يحتاج إلى صحة الإسناد، ودلالة المتن، فلا بد أن يكون النص ثابتًا عن النبي ﷺ"[29] إلى آخره.

قال: "والحجج الباطلة السمعية إما نقل كاذب، وإما نقل صحيح لا يدل، وإما قياس فاسد، وليس للرافضة وغيرهم من أهل الباطل حجة سمعية، إلا من هذا الجنس[30] إلى آخر ما قال، راجعوا كلامه.

271- "ثم قال: فصل: في الطرق التي يُعلم بها كذب المنقول، منها: ما يُروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة، ثم ذكر أمثلة لها".

يقول: الطرق التي يُعلم بها كذب المنقول، ما يُروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة، ثم ذكر أمثلة لذلك، يعني مثلاً الآن غزوة بدر، وأحد، والخندق، والفتح، هذه الغزوات التي غزاها النبي ﷺ، لو جاء واحد وأنكرها ونفاها، فمثل هذا لا يمكن أن يُقبل منه؛ لأن هذه متواترة، ولو جاء أحد وقال: لا يوجد أصلاً أحد يقال له: أبو بكر، ولا عمر، فهؤلاء شخصيات وهمية، فهذا يروي خلاف ما عُلم بالتواتر والاستفاضة، ولو جاء أحد وقال: هناك صلاة سادسة، فمثل هذا لا يمكن أن يُقبل منه؛ لأنه مخالف لما جاء بالتواتر والاستفاضة، وقل مثل ذلك لو أنه مثلاً أنكر وجود بيت المقدس، أو أنكر وجود المدينة، أو أنكر شيئًا من هذه الأشياء التي لا يمكن أن ينكرها إلا صاحب سفسطة، فهذه الطرق يُعلم بها كذب المنقول.

"ومنها: أن ينفرد الواحد والاثنان بما يُعلم أنه لو كان واقعًا لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، وله أمثلة، ومنها: أن يُروى خلاف المعلوم المقطوع به في الشرع".

يعني مثلاً: لو جاء أحد وقال: إن النبي ﷺ صلى العيد في منى، يوم النحر، أو في مكة، ومعه نحو مائة ألف من الصحابة، فمثل هذا تتوافر الدواعي على نقله، أو أن الذين صلوا معه من أهل مكة في منى مثلاً أتموا الصلاة الرباعية، فمثل هذا تتوافر الدواعي على نقله، أو أن النبي ﷺ كان يجمع بين الصلاتين في منى، أو أن النبي ﷺ أذن لصلاة العيد، أو أذن لصلاة الاستسقاء، فكل هذا مما تتوافر الدواعي على نقله، فكون مثل هذا لم يُنقل، مع توافر الدواعي، فإن ذلك يدل على أنه غير صحيح، فإذا جاء من يدعي هذا، فإن ذلك يرد عليه.

272- "والسفسطة ثلاثة أنواع:

أحدها: النفي والجحد والتكذيب للمعلوم لوجوده، أو للعلم به.

الثاني: الشك والريب فيما لا يُشك فيه، ولا يرتاب.

الثالث: من يجعل الحقائق تبعًا للعقائد".

مضى الكلام على السفسطة، والمراد بها، وقلنا: إنها إنكار الأمور البديهية، والأشياء المعلومة، التي يقر بها كل أحد، فيجادل فيها، أو يشكك، أو يردها، ويكذب بها.

فشيخ الإسلام يتكلم على الرافضة، فيقول: "هؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينًا، بطرق كثيرة، علمًا لا يقبل النقيض بشبهة في غاية الضعف، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ، الذين يتبعون المتشابه، ويدعون المحكم، كالنصارى، والجهمية، وأمثالهم من أهل البدع والأهواء، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة، التي توجب العلم، ويعارضونها بشبهٍ لا تفيد إلا الشك، لو تُعرض لم تثبت، وهذا في المنقولات سفسطة، كالسفسطة في العقليات"[31].

وكان قد رد على الرازي، حيث تكلم على السفسطة في العقليات؛ لما تكلم عن الفلاسفة.

قال: "وهو القدح فيما عُلم بالحس والعقل بشبهة تعارض ذلك، فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني المستقر في القلوب بالشبه، فقد سلك مسلك السفسطة، فإن السفسطة أنواع -ثم ذكر هذه الأنواع الثلاثة- فالنوع الأول: النفي والجحد، والتكذيب للمعلوم لوجوده، أو للعلم به"[32]، إما أن ينكره، فيقول: هذا ما حصل، أو غير موجود، ما فيه شخص اسمه أبو بكر أصلاً، إما لوجوده، أو للعلم به، شيء معلوم، وهو منقول بالتواتر، ومن الأمور المقطوع بها، ثم يقول: لا، هذا لا يوجد ما يثبته.

"الثاني: الشك والريب فيما لا يُشك فيه، ولا يُرتاب"، وهذه طريقة اللاأدرية، هؤلاء لا يثبتون ولا ينفون، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: هؤلاء في الحقيقة قد نفوا العلم، وما أثبتوه، فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم، أو جحد العلم به، فهذا الذي يقول: أنا لا أثبت ولا أنفي، وهي من الأمور البديهية، هؤلاء في الواقع قد نفوا العلم به، وأن يكون ذلك معلومًا وثابتًا، فعادوا إلى النفي.

"الثالث: من يجعل الحقائق تبعًا للعقائد"، يعني هذا نوع من السفسطة، بمعنى: أنه إذا اعتقد أن العالم قديم، فهو قديم، في الخارج، ومن اعتقده محدثًا فهو محدث عنده[33]، وإذا اعتقد أن الإمام معصوم فهو معصوم، والآخر يعتقد أنه غير معصوم فهو غير معصوم، فيثبتون في الخارج، فيجعلون الخارج تبعًا للاعتقاد.

يقول: من يجعل الحقائق -في الخارج يعني- تبعًا للعقائد، فيقول: هي بحسب ما يعتقد فيها المعتقدون، وهذا يكون فيه اجتماع النقيضين أيضًا، ويكون فيه تبديل وتغيير، وكذب على القَدَر، وعلى الله -تبارك وتعالى-، يعني هذا يكون في الأمور الشرعية والكونية، وهذا لا يمكن أن يقول به عاقل، كيف تكون الأمور في الخارج بحسب اعتقاد الناس فيها، وهم يعتقدون فيها أمورًا متناقضة؟ هذا يعتقد إن الشيء الفلاني موجود، وهذا يعتقد أنه معدوم، فهو يقول: هي تبعٌ لاعتقادهم موجودة أو معدومة، فهذا نوع من السفسطة، والسفسطة أنواع، وقد يقرب من السفسطة بعض الصور التي قد تستغرب أو تستملح مع الفارق، دعوني أذكر لكم مثالاً سمعته قبل يومين، هذا الذي يقول مثلاً: لماذا يضجر الإنسان إذا قيل له: دجاجة؟ والدجاجة أفضل من الصقر، فلا يُوجد بيت يخلو من منافع الدجاج في الدنيا، لكن الصقر ماذا استفدنا منه؟ يقول: يمثلون يقولون: فلان صقر، لكن يأنف أن يقال عنه: دجاجة، والدجاجة أفضل من الصقر؛ لماذا يأنف؟

وهكذا حينما يقال مثلاً: الفرس والحمار، يقول: الحمار أنفع من الفرس، كم عدد الذين يستفيدون من الفرس؟ وكم عدد الذين يستفيدون من الحمار؟ ولهذا يرى أن الحمار مهضوم مظلوم، لم يأخذ حقه من الناحية الإعلامية، قدم الكثير ولكنه لم ينل حظه من التنويه، وذكر فضائله ومآثره، وما أشبه ذلك، فهناك من يتكلم جادًا بهذه الطريقة، وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل، وهذا نوع سفسطة، وإن كان يبدو لأول وهلة أن له نوع من الوجاهة.

ولا شك أن الفرس أفضل من الحمار، والصقر أفضل من الدجاجة، ولا ينظر للأمور وتقيم باعتبار معين أنها تبيض، أو يؤكل لحمها.

273- "كثير من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رئاسة، أو مال، ولكل امرئ ما نوى، وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله، فهو مقصود عندهم لمنفعته لهم، وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة؛ ولهذا تجد أهل الانتفاع به، يزكون به نفوسهم، ويقصدون فيه اتباع الحق، لا اتباع الهوى، ويسلكون فيه سبيل العدل والإنصاف، ويحبونه، ويلتذون به، ويحبون كثرته، وكثرة أهله، وتنبعث هممهم على العمل به، وبموجبه، وبمقتضاه، بخلاف من لم يذق حلاوته، وليس مقصوده إلا مالاً، أو رئاسة، فإن ذلك لو حصل له بطريق آخر لسلكه، وربما رجحه إذا كان أسهل عليه. هذا آخر ما أردنا نقله من القواعد والأصول من المنهاج".

هذه الفائدة ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله- حينما تكلم على كرامات الأولياء، أو خوارق العادات، وأن أهل الإيمان ممن يظهر على يده شيء من هذا: أنهم لا يقصدونه، ولا يطلبونه في الأمور والأحوال العادية، بخلاف أولئك الذين يُظهرون شيئًا من الخوارق، من السحرة وأشباههم، من أهل البدع والضلالات، وأصحاب الديانات.

يقول: يظهر على أيديهم شيء من الخوارق الشيطانية، فهي أحوال لهم يطلبونها؛ ليتميزوا عن غيرهم من الناس، ويضللونهم ويخدعونهم، وما إلى ذلك، بخلاف أهل الإيمان، فإنهم لا يقصدون ذلك ابتداءً في أحوالهم وأمورهم العادية.

يقول: مثل العلم، فإن من الناس من يطلب به الدنيا، فتلك الخوارق أولئك الأولياء لله حقًا، هم لا يطلبون بها رفعة ودنيا، وتزينًا أمام الناس، وهكذا العلم النافع، فإن أهله الذين هم أهله، الذين أخلصوا في طلبه، فإنهم لا يريدون به الترفع، وتحصيل مكاسب من العرض العاجل القريب، إنما يريدون به العمل، وتزكية النفوس، وطلب ما عند الله -تبارك وتعالى-.

يقول: هؤلاء يحبونه، ويلتذون به، ويحبون كثرته، وكثرة أهله، وتنبعث هممهم على العمل به، وبموجبه، ومقتضاه، بخلاف من لم يذق حلاوته، وليس مقصوده إلا مالاً أو رئاسة، فإن ذلك لو حصل له بطريق آخر لسلكه، ولربما رجحه إذا كان أسهل عليه[34]؛ ولذلك هذا سر في انقطاع كثير ممن يسلكون طريق أهل العلم بعد مدة، فيضمحل ويتلاشى، فيتحول إلى تاجر؛ لأن حصلت له فرصة، قد يأتيه من يعرض عليه، ويثق به، ويطمئن إليه، ويرتاح إليه، ويقول: أنا أريد أن أمكنك من هذه الأموال، أو التجارات، أو نحو ذلك، أو تكون شريكًا لي، أو تكون مضاربًا، والواقع: أنه يتجر به أحيانًا؛ لما له من الذكر الجميل عند الناس، وما أشبه هذا، فيغريه بالمال من أجل أن يعمل، فيعمل بوجهه في الواقع، ثم ما يلبث هذا أن يذهب عنه بهاء العلم، والقبول من قلوب الخلق، والمحبة التي كانت بسبب هذا العلم، الذي يريد به ما عند الله -تبارك وتعالى-، وهذا سبب انقطاع كثير ممن يسلكون طريق العلم، قد يبدو عليه شيء من النبوغ، والتحصيل الجيد، ثم بعد ذلك يتلاشى ويضمحل، ويشتغل بشيء آخر، فتح له باب التجارة، أو غير هذا، وتجد هذا يتكرر عبر السنين والقرون كثير، وفي كل ناحية.

وقد يكون هذا الانصراف أيضًا لأمور أخرى، كمن يطلب العلم من أجل الرئاسة، فإذا حصلت له هذه الرئاسة ترك العلم، وترك الاشتغال به، ولم يظهر عليه سمت أهل العلم، ولا أخلاقهم، ولا تعاملهم، ولم يظهر عليه من الحرص على مصالح والمسلمين، ونفعهم، وتكثير الخير، وتقليل الشر ما ينبغي أن يصدر من مثله، وإنما تحول إلى مستميت على هذه الرئاسة، يريد أن يبقيها، فلا تخرج عنه، ولو كان ببذل الدين، والتنازل عن الثوابت، بل المشاركة -أحيانًا- في تضليل الناس، وتضييع الحقائق، وما أشبه ذلك؛ لأنه يريد الرئاسة، فحصلت له هذه الرئاسة، ومن الناس من يطلب العلم، ويحصل الشهادات العليا من أجل أن يحصل أيضًا شيئًا من وظيفة، أو راتب، وما إلى ذلك، فإذا جاءت باع مكتبته، وتوقف عن النظر والقراءة والدراسة والبحث، أو تولى منصب قضاء، أو نحو ذلك، فيترك العلم الذي كان يشتغل به، ولم يعد له عناية بالكتب، بل لربما يثبط من يشتريها ويقتنيها، ويبحث عنها، ويقول: أنت إلى الآن وأنت تشتري كتب، وهذه الكتب تبقى عبئًا عليه، وعلى أهله، تضيق عليهم، ثم بعد ذلك ما يلبث هؤلاء أن يخرجوها، ويتخلصوا منها، إما ببيع ولو بأبخس الأثمان، بالكرتون، الكرتون بالجملة، ثم يباع بالتفاريق، المجلد بعشرة ريالات، فهذا موجود ويحصل، وتجد بعض الأسماء أحيانًا على الكتب، فله غاية قريبة فحصلت هذه الغاية، كان العلم سلمًا، فانقطع؛ ولذلك قلّ من يواصل في هذا الطريق، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الهدى والحق والإيمان، وأن يعيننا على أنفسنا، تجد الذين يسلكون في البداية جمهور كبير، فانظر إلى أعداد كل جيل الذين يشتغلون بطلب العلم في المساجد والجامعات والكليات الشرعية، وما إلى ذلك، أعداد كبيرة بالآلاف المؤلفة، لكن من الذي يستمر منهم؟ قلة، وإذا نظرتَ إلى بعض الناس، وسمعتَ كلامه وفتياه، تقول: هذا عامي صرف، لم يطلب العلم قط، وتتعجب كيف مثل هذا يتولى ولايات، وما إلى ذلك، ثم إذا قرأتَ ترجمته وجدتَ أنه كان من المقدمين والنابغين بين زملائه، ومن ثم قُدم عليهم، وحصلت له هذه الولاية، وما إلى ذلك، باعتبار النبوغ والتفوق والعلم، لكنه ترك العلم بالكلية؛ لما حصلت له هذه الولاية، فنسيه وضيعه تمامًا، فصار في حال كالعامة تمامًا، بل إن العامة حينما يسمعون هذه الفتوى أحيانًا ينتقدونها، ويقولون: هذا يجب أن لا يخرج، أو هذا لا يحسن الجواب، أو هذا لا يعرف الأدلة المعروفة، التي لا تخفى على أحد من العوام، فضلاً عن أهل العلم، فينكر بعض الأشياء الثابتة التي يعرفها صغار الطلبة، والله أعلم.          

هذا آخر كلام شيخ الإسلام في هذا الكتاب المبارك، وهذه الأشياء التي سمعتم ما هي إلا أشبه بمن يتذوق العسل، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون وفاء بما حواه هذا الكتاب من الدرر والنفائس، والعلم الغزير، فهو جدير بأن يُعتنى به، ويُقرأ، ويمكن لطالب العلم أن يلخصه لنفسه، خاصة الآن أصبحت الأمور سهلة، فهو موجود في المكتبة الشاملة، فيمكن للإنسان أن يظلل المقاطع التي يريدها، أو أنه يقطعها، بحيث أنه يراجعها حين بعد حين، ويضع لها عناوين جانبية، هذه في مخازي الرافضة، وهذه قضايا تتعلق بطلب العلم، وهذه أمور تتعلق بطرائق الجدل، وهذه الأمور تتعلق باتباع الهوى، وما إلى ذلك، فالكتاب مليء بهذه الأمور، والله المستعان.

 

 

  1. منهاج السنة النبوية (6/150).
  2. منهاج السنة النبوية (6/149).
  3. الموافقات (م/1).
  4. منهاج السنة النبوية (6/149).
  5. منهاج السنة النبوية (6/149-150).
  6. منهاج السنة النبوية (6/150).
  7. منهاج السنة النبوية (6/151).
  8. منهاج السنة النبوية (6/184).
  9. منهاج السنة النبوية (6/226).
  10. منهاج السنة النبوية (6/226).
  11. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/85).
  12. كفاية النبيه في شرح التنبيه (17/414).
  13. منهاج السنة النبوية (4/383).
  14. منهاج السنة النبوية (6/410).
  15. الموافقات (1/251).
  16. منهاج السنة النبوية (7/188).
  17. منهاج السنة النبوية (7/190).
  18. منهاج السنة النبوية (7/190).
  19. منهاج السنة النبوية (7/191).
  20. منهاج السنة النبوية (7/191).
  21. منهاج السنة النبوية (7/192).
  22. أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة برقم (4607) وصححه الألباني، بلفظ: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين)).
  23. منهاج السنة النبوية (7/414).
  24. منهاج السنة النبوية (7/414).
  25. منهاج السنة النبوية (7/415).
  26. منهاج السنة النبوية (7/415-416).
  27. منهاج السنة النبوية (7/416).
  28. منهاج السنة النبوية (7/416).
  29. منهاج السنة النبوية (7/419).
  30. منهاج السنة النبوية (7/419).
  31. منهاج السنة النبوية (7/464).
  32. منهاج السنة النبوية (7/464).
  33. منهاج السنة النبوية (7/465-466).
  34. منهاج السنة النبوية (8/210).

مواد ذات صلة