الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا..» ، «من صلى البَردين دخل الجنة..»
تاريخ النشر: ٢٥ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 3344
مرات الإستماع: 59013

ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الأحاديث الدالة على كثرة طرق الخير، وتنوع الأعمال الصالحة:

حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟، قالوا بلى يا رسول الله، قال إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط[1]، رواه مسلم.

قوله ﷺ: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟، هذا الاستفهام لا شك أنه يضفي معنى ويدل دلالة لا تتحقق ولا توجد بمجرد الإخبار الذي لا يكون من هذا القبيل، وذلك حينما يقال لهم في الخطاب: إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، وكثرة الخطى إلى المساجد أمر يحصل به كذا وكذا، فهذا لا يكون بمثابة ذكر هذه الأمور بصيغة استفهامية؛ لأن ذلك من شأنه أن يشد الانتباه، ومن شأنه أن يوجد شيئاً من التشويق فيتطلع المخاطب إلى ما ذكر معه، فبدأه ﷺ بقوله: "ألا" الدالة على الاستفتاح والاستفهام، ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟، أي: يحصل به هذا، وهذا، تكفير السيئات، ورفع الدرجات.

قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وإسباغ الوضوء أن يكمله المكلف فيأتي به وافياً تاماً غير منقوص، بحيث إنه يغسل الأعضاء كما أمره الله غسلاً تاماً، ويأتي بسنن الوضوء ومستحباته كالتخليل ونحو ذلك، على المكاره، مثل البرد الشديد وذلك مظنة أن الإنسان قد يضيع شيئاً من الوضوء يفرّط فيه لشدة البرد، وكذلك أيضاً مثل الحر الشديد إذا كان الماء حارًّا، كما يحصل في بعض الأحيان، فلربما يكون ذلك سبباً في تضييع شيء من الوضوء.

قال: وكثرة الخطى إلى المساجد، هذا يدل على أن البيت البعيد عن المسجد أفضل وأعظم أجراً ممن بيته قريب، والنبي ﷺ قال لبني سلمة: ديارَكم تُكتب آثارُكم[2]، يعني: الزموا دياركم تكتب آثاركم، وهو أحد القولين في قوله -تبارك وتعالىإن لك ما احتسبت[3] أو كما قال ﷺ

وكذلك قوله ﷺ: قَفلة كغزوة[4]وذكرنا على هذا القاعدة الفقهية المعروفة "أن الوسائل لها أحكام المقاصد" وهكذا الزوائد، فالزوائد مثل هذه الآثار التي تستتبع العمل الصالح يدخل فيها مثل هذا كثرة الخطى إلى المساجد، ولربما يفهم من هذا أن من يأتي إلى المسجد مشياً على الأقدام أفضل ممن يركب، يدل عليه ظاهر هذا الحديث، ويدل عليه الحديث الآخر لما قالوا له: لو اتخذت حماراً.

قال: وانتظار الصلاة بعد الصلاة، هذا يحتمل أن يكون ينتظر الصلاة بعد الصلاة في المسجد، في المكان الذي صلى فيه في جماعة، أو كان منفرداً، ولكنه ينتظرها بحيث لا يخرج، لا ينشغل بشيء آخر، والنبي ﷺ أخبر أن الملائكة تصلي على أحدنا ما دام في مصلاه الذي قد صلى فيه[5].

ويحتمل أن يكون ذلك بانتظاره لها، واشتغال قلبه بها، كما قال في الحديث الآخر في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: ورجل قلبه معلق بالمساجد[6]، فهو ولو خرج في سوقه أو نحو ذلك فهو ينتظر متى يؤذن حتى يصلي، الحديث يحتمل هذا المعنى، ويحتمل المعنى الأول، انتظار الصلاة إلى الصلاة، ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- هو الأول أنه يمكث ينتظر الصلاة؛ لأن النبي ﷺ بعده قال: فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، وأصل معنى الرباط يستعمل في ملازمة الثغور، وهي البلاد أو الأرض أو النواحي التي يُتخوَّف منها العدو، نواحي أو أطراف أو حدود البلاد الإسلامية، فيُتخوف العدو فيكون هذا المرابط قبالة العدو أو بلادهم، فيكون بهذا مرابطاً، فهو منتظر لا يذهب ولا ينتقل إلى أرض أخرى، وهنا هذا الإنسان يمكث في المسجد ينتظر الصلاة.

قوله: فذلكم الرباط كررها في بعض الروايات كما في صحيح مسلم، وكما في بعض السنن، في بعض الروايات كررها مرتين، وفي بعضها ثلاثاً، وهنا ذكرها واحدة، والتكرار لا شك أنه يفيد التأكيد.

وقوله: فذلكم الرباط، كأنه يفهم منه أن ذلك هو الرباط الكامل، يعني: أنه ما تحقق فيه الوصف الكامل من هذه الحقيقة التي هي الرباط، يعني: هذا هو الرباط الأتم والأوفى، وإن كان غيره يسمى رباطاً، وهو المكث في الثغور في مقابلة العدو.

وقوله: فذلكم اسم الإشارة يحتمل أنه يرجع إلى المذكورات الثلاث التي ذكرها النبي ﷺ: إسباغ الوضوء، وكثرة الخطى، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، لاسيما أن الإشارة جاءت إلى البعيد جدًّا، على تقسيم الإشارة إلى ثلاث مراتب.

ويمكن أن تكون الإشارة عائدة إلى الأخير وهو الانتظار، وهذا الذي يكون أقرب إلى معنى الرباط -والله تعالى أعلم، وأما الإشارة إلى البعيد فلا تشكل هنا؛ لأن ذلك قد يكون لمرتبة الشيء العالية، كما قال الله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2]، ولم يقل: هذا الكتاب لا ريب فيه.

من صلى البَرْدين دخل الجنة
ثم أيضاً من الأحاديث:
حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ من صلى البَرْدين دخل الجنة[1]، متفق عليه

جاء تفسيره في بعض الروايات أنهما الصبح والعصر، هذا هو الوارد، وهو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، ولا ينبغي العدول عنه، خلافاً لمن قال: إن المراد العشاء والفجر، يقولون: العشاء لأن الناس قديماً كانوا إذا بلغوا هذه الساعة يكونون قد تعشوا قبل المغرب أو بعد المغرب، وقد ثقلت أبدانهم وأنهكهم العمل سائر النهار، وكان الناس لا يجدون مثل هذه الإضاءة ونحو ذلك، فهم ينتظرونها بفارغ الصبر، بشيء من الصعوبة، ثم ينامون بعدها، ولذلك تعرفون في الحديث: نام الصبيان والنساء[2]، لمّا كانوا ينتظرون الصلاة، وأبطأ عليهم النبي ﷺ.

لكن هذا المعنى بعيد، وإنما هما العصر والفجر، وسميت بالبَردين فيمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إنه وقت اعتدال الهواء، وذهاب الحر، فيكون ذلك في العصر، وفي الفجر، فيذهب حر الشمس، وأما ما يتعلق بتحديد هذين الوقتين فالله تعالى أعلم، لكن يمكن أن تُذكر بعض الحكم التي لا يُقطع بها، فيقال: إن صلاة الفجر تكون في وقت الاستيقاظ من النوم، ويكون ذلك في غاية المشقة على الكثيرين حيث يطيب النوم لهم، وهذا أمر مشاهد، وكذلك أيضاً في العصر، فإذا كانت قيلولتهم بعد الظهر فإنهم يحتاجون إلى شيء من المجاهدة من أجل الاستيقاظ لصلاة العصر كما هو مشاهد، إضافة إلى أمر آخر وهو أن من الناس الذين يقيلون قبل الظهر خاصة يكون وقت الانتشار في الأعمال، فهم يرتبطون بهذه الصلاة.

وأيضاً ورد في الحديث: يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل، وملائكة في النهار[3]، فهم يجتمعون، ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة العصر وفي صلاة الفجر.

فالحاصل أن النبي ﷺ يقول: من صلى البَردين دخل الجنة فهذا وعد لمن فعل ذلك، يمكن أن يقال -والعلم عند الله : هما أشق الصلوات، فإذا صلاهما الإنسان وجاهد نفسه وواظب عليهما فإن صلاته لغيرهما من باب أولى، لكن لو إنسان يصلي العصر والفجر فقط ومضيع الصلوات الأخرى فهذا لا عبرة به، ولكن من حافظ على هاتين الصلاتين فهو لما سواهما أكثر محافظة.

ولا يقال: إن هذا كان قبل فرض الصلوات الخمس حيث كانوا يصلون صلاتين في مكة قبل فرض الصلوات الخمس، صلاة في العشي، وصلاة في الغداة، فقال النبي ﷺ: من صلى البردين دخل الجنة بذلك الاعتبار، ثم فرضت الصلوات الخمس، فصار من صلى الصلوات الخمس دخل الجنة، هذا بعيد جدًّا، وإنما قاله ﷺ بعد هجرته في المدينة، ولا يصح حمل مثل هذه الأحاديث على هذه المحامل المتكلفة، ووجه الجواب هو ما ذكرته -والله تعالى أعلم- من أنه ليس المقصود الاقتصار على هاتين الصلاتين.

وهذا الحديث يدل على سعة فضل الله ورحمته، وأن الجنة قد تنال بأعمال يسيرة يفرط فيها كثير من الناس، ولذلك لو جمعنا الأشياء التي تكون سبباً لدخول الجنة أو لمغفرة الله أو نحو ذلك لوجدناها كثيرة جداً، من عمل كذا دخل الجنة، والحريص الذي يريد أن يخلص رقبته، وأن ينجو عند الله يتتبع مثل هذه الأمور، ويُعنى بها غاية العناية، ويطبقها لعل الله أن يشمله بلطفه وعفوه ورحمته.

هذا، وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يدلنا على ما يرضيه، وأن يوفقنا لمحابِّه، وأن يتقبل منا ومنكم سائر الأعمال، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر، (1/ 119) رقم: (574)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما، (1/ 440) رقم: (635).
  2. انظر مسند الشاميين للطبراني (1/ 66)، رقم: (76).
  3. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، (1/ 115)، رقم: (555).

مواد ذات صلة