الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
تتمة حديث «آية المنافق ثلاث..» ، «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال..»
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الآخر / ١٤٢٧
التحميل: 2557
مرات الإستماع: 21434

تابع حديث: آية المنافق ثلاثة...

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فكنا نتحدث عن قول النبي ﷺ:آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان[1]، وفي رواية: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم[2]، وهذا الحديث حمله بعض أهل العلم على أن ذلك من قبيل النفاق العملي، وليس الاعتقادي المخرج من الملة، ومنهم من يحمله على النفاق الاعتقادي، لمن كان ذلك ديدنه، وعادته الملازمة له، لاسيما أنه قد عُلق على الشرط، والمعلق على الشرط يتكرر بتكرره، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، أي: أنه يكذب في حديثه ويخون دائماً، ويخلف الوعود، فمثل هذا إذا كان يفعل ذلك وهو ديدنه ولا يبالي ولا يرفع لذلك رأساً فإن ذلك يكون محمولاً على النفاق الذي يخرج من الملة، هكذا قال بعض أهل العلم، وقال بعضهم: إن ذلك بناء على حال المخاطبين في زمن النبي ﷺ،حيث كان أصحاب النبي ﷺ في غاية المحافظة على حدود الله -تبارك وتعالى، والصدق في القول والوفاء في الوعد، وما أشبه ذلك، وأما أهل النفاق في ذلك الزمان فكانوا يعرفون بهذه الأوصاف، فذكرها النبي ﷺ لأصحابه ليعرفوا بها المنافقين، ولم يكن من عادة الشارع أن يسميهم وإنما يذكر أوصافهم كما ذكر الله جملة من أوصافهم في القرآن.

أن الأمانة نزلت في جَذر قلوب الرجال

والحديث الثاني هو:

حديث حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله ﷺ حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاة فدحرجه على رجله فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان». ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت: لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا[1].

وقد حمل بعض أهل العلم الأمانة هنا على الأمانة التي عناها الله بقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، والأرجح من أقوال أهل العلم في تفسيرها أنها التكاليف الشرعية، فالله قد ائتمن العباد عليها وكلفهم القيام بها، ويدخل تحت هذا العموم سائر الأمانات، مما يتعامل به الناس ويتعاطونه مما يصدق عليه أنه أمانة، فقوله هنا: إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، أي: في أصل قلوبهم، وذلك -والله تعالى أعلم- مما يتصل بالفطرة، يقول: ثم نزل القرآن فعَلِموا من القرآن، وعَلِموا من السنة، أي أن ذلك كان صقلاً وتهذيباً، وزيادة في البصيرة فيما يتصل بالأمانة، فإنه يوجد في فطرة الإنسان، وما أنزله الله في كتابه، وما بعث به رسوله ﷺ ما هو بمنزلة نور العين مع ضوء الشمس، فإذا وجد مع نور العين ضوء الشمس أبصر الإنسان إبصاراً بيناً تتجلى فيه الأشياء، وإذا كان في نور الشمس ضعف كالليل مثلاً فإنه يضعف إبصار الإنسان، وإذا كان الإنسان في رابعة النهار ولكنْ بصره ضعيف فإن ذلك يؤثر في رؤيته، فالحاصل أن الأمانة نزلت في جَذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعَلِموا من القرآن وعَلِموا من السنة، أي: وعلموا من القرآن ومن السنة ما يقرر ذلك ويؤكده، كقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وكقوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فعرفوا أن ذلك لازم لهم، وعلموا من السنة كهذا الحديث، والحديث السابق: آية المنافق ثلاث، يقول: حدثنا حديثين، الأول: عن نزول الأمانة في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، فصار ذلك في غاية الجلاء والوضوح والتقرير والثبوت، ثم حدثهم حديثاً آخر، وهو متعلق برفع الأمانة من قلوبهم فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه[2]؛ وذلك لذنب ارتكبه، أو أن النبي ﷺ يحدث عما سيكون في آخر الزمان، إذا رفعت الأمانة من قلوب الناس، يقول: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوَكْت، أي: يبقى  أثر الأمانة في قلبه مثل الوكت، والوكت هو: لون يغاير اللون الذي وقع عليه، كأن يكون ثوبًا أبيض وقع عليه شيء فيه سواد، فهذا مثل الوكت، وبعضهم قال: الوكت هو شيء من السواد، فيظل أثرها مثل الوَكْت هذا يحتمل معنيين:

الأول: أن يبقى لها أثر ضعيف ولا تمحى تماماً.

والثاني: أن ذلك يعني أنها ظلمة في القلب مكان هذا الجزء الذي رفع من الأمانة، يبقى مكانه سواد، يقول: ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المَجْل، كجمر دحرجتْهُ رجلُك فنَفِط، فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، ثم  أخذ النبي ﷺ حصاة فدحرجه على رجله..، وقوله: نفِطَ أي انتفخ، فتراه منتبرًا أي: جلدًا منتفخًا، فيه ماء يسير، ليس مثل الورم مثلا، مثل ما يظهر في يد الإنسان حينما يضرب بالمعول مثلاً، فيظهر في يده هذا الأثر الذي يقال له: المَجْل، وهكذا الحروق في أولها، التي يسمونها الحروق السطحية، إذا تدحرج الجمر على  الجلد ما الذي يحصل من أثره؟ ينتفخ ويكون فيه ماء تحت الجلد، فهذا يبقى أثرها مثل المجل، على المعنى الأول الذي ذكرناه يبقى أثرها مثل المجل بمعنى أنه يبقى لها أثر ثم بعد ذلك تزول، وشبّه الزوال بدحرجة هذا الحجر الذي دحرجه النبي ﷺ على رجله فتفارق القلب بالكلية، وعلى المعنى الثاني أن الوكت بمعنى أنه يُرفع جزء فيبقى سواد، فإذا رفع هذا بقي انتفاخ، وهذا أشد وأثبت، وأسوأ أثراً من مجرد السواد، فيبقى أثرها بهذه المثابة -نسأل الله العافية.

قال: حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ذكر هنا ثلاثة أوصاف مما يتمادح به الناس فقال: ما أجلده، أي: أنه يعمل بجد واجتهاد وجلد عظيم، من غير كلل ولا ملل، وما أظرفه وهذا مما يستملح في أوصاف الناس عادة، يستلطفونه ويستملحونه، ويخف عليهم في المجالس لطرافته أو غير ذلك، وما أعقله، الناس يثنون عليه بالجلد والعقل واللطافة والظرافة، ويثنون على ما عنده من مهارات، فلان إداري ناجح، وتاجر حاذق، أو صانع متقن، أو يقولون: هذا معلم جيد، ومعلم مثالي أو نحو ذلك، وهو -نسأل الله العافية- خالٍ من الداخل، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وكما قال الله عن المنافقين ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعتُ، المبايعة هنا تحتمل البيعة المعروفة، وهذا بعيد؛ لأنه قال: وإن كان نصرانياً أو يهودياً إلى آخره..، ولذلك تحمل هنا المبايعة على البيع والشراء، يقول: ليردنه عليّ دينه، وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه عليّ ساعيه يعني من له ولاية عليه، يقول: وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً هذا في زمن مَن؟ هذا في زمن الصحابة ، فكيف بزماننا هذا؟! كيف بزماننا هذا؟! الله المستعان.

ومن نظر في هذا الحديث وتأمله خاف على نفسه وحاسبها، وراعى حقوق الناس، واتقى الله في بيعه وشرائه ومعاملاته، وعرف أيضاً مقادير الأشياء والموازين التي يوزن بها الناس، وكيف يتفاضلون، وبماذا يرتفع الإنسان، وأن الغش والتدليس والتزوير على الناس لا ينفعه شيئاً، ولا يغني عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فإنه يفتضح بين الخلق، وأما في الآخرة فهو الخسران، والميزان هناك والحساب إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ من حسناته، فهي جمرة وقطعة من النار إن شاء أن يأخذها وإن شاء تركها، يتوسد ذلك في قبره، إذًا المسألة ليست شطارة، هو يأخذ جمرة من نار يكوى بها، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث: لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما هي قطعة من نار[3]، يعني إذا حكم له النبي ﷺ بناء على كلام جيد مرتب استطاع أن يأخذ به الحق فلا يعني هذا أنه يحل له، وإنما هي قطعة من نار إن كان لا يحل له أخذها.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، (8/ 104)، رقم: (6497)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب، وعرض الفتن على القلوب، (1/ 126)، رقم: (143).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: رفع الأمانة، (4/ 104)، رقم: (6497)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب، وعرض الفتن على القلوب، (1/ 126)، رقم: (143).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب: من أقام البينة بعد اليمين، (3/ 180)، رقم: (2680).

مواد ذات صلة