الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
قاله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى حديث «من نفس عن مؤمن كربة..»
تاريخ النشر: ١١ / رجب / ١٤٢٧
التحميل: 1847
مرات الإستماع: 2693

قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جديد في هذا الكتاب المبارك، وهو باب في قضاء حوائج المسلمين، قال الله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، والشاهد في هذه الآية حيث أوردها المصنف -رحمه الله، أن الأمر بفعل الخير في قوله: افْعَلُوا الْخَيْرَ يشمل الخير القاصر مثل الصيام والصلاة والحج، وما أشبه ذلك، والخير المتعدي، وهو الذي يتعدى نفعه إلى الآخرين، كالصدقة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أشبه ذلك، فهذه الآية تشمل النوعين، وقضاء حوائج المسلمين هي من النوع الثاني المتعدي، وجنس الأعمال المتعدية أفضل من جنس الأعمال القاصرة كما هو معلوم، من حيث الجنس لا من حيث الأفراد، وإلا فإنه ما تقرب المتقربون إلى الله بأحب إليه مما افترض عليهم، فالصلاة المكتوبة أفضل من قضاء حوائج الناس والسعي معهم في أعمال يعود نفعها إليهم، لكن بعد الفرائض النفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، فمثلاً أيهما أفضل؟ أن يقرأ الإنسان آيات من كتاب الله، أو يسعى في حاجة أحد من المسلمين، لا شك أن سعيه في حاجة أحد من إخوانه أفضل من مجرد جلوسه للذكر أو الصلاة أو قراءة القرآن أو نحو ذلك في غير المكتوبة.

من كان في حاجة أخيه
وذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة[1].

من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته: وهذا هو الشاهد من إيراد هذا الحديث في هذا الباب، من كان في حاجة أخيه أي: يقضي حوائج الناس، ويقوم على شؤونهم، ويتعاهد هؤلاء الناس، فإن عرضت لهم حاجة قام بها، قال: كان الله في حاجته، لأن الجزاء من جنس العمل، قال: ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة، وقد سبق الكلام على ما تضمنته هذه الألفاظ من المعاني.

من نفس عن مؤمن كربة
ثم ذكر حديث أبي هريرة أيضاً عن النبي ﷺ أنه قال: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه رواه مسلم.

من نفس عن مؤمن أي: فرج عنه، كربة من كرب الدنيا أي: شدة من شدائدها نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، وذلك إما بإسقاط الدين عن هذا المعسر، أو بإسقاط بعضه أو بالتأجيل و التأخير، كل ذلك يدخل في هذا المعنى، قال: ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، وكل هذه الجمل سبق ثم قال: والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه، وقد أخذ بعض أهل العلم من هذا أن الإنسان إذا كان معينا لإخوانه المسلمين، فإنه ينبغي ألا يخاف من المخلوقين، وأن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، فإن الله يعنيه ويقويه ويدفع عنه كل شر، قال: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، والقوم في المشهور من كلام العرب يطلق على جماعة الذكور من الرجال خاصة دون الإناث، ويدل على ذلك قول الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء [الحجرات:11]، فدل على أن النساء غير داخلات في لفظ القوم عند الإطلاق، و يدل عليه من كلام العرب قول الشاعر:

ولست أدري وسوف يقال أدري أقوم آل حصن أم نساء

ففرق بين النساء وبين القوم، هذا هو المشهور، وإن قال بعض أهل العلم بأن النساء يدخلن في القوم، وهذا غير صحيح -والله تعالى أعلم، ولكن قد يدخلن على سبيل التبع، وهل هن داخلات هنا في هذا الحديث، لا يظهر هذا، -والله أعلم؛ لأن النساء لا يطالبن بعقد المجالس وحلق الذكر في المساجد، فبقائها في بيتها خير لها من الجلوس في المسجد، ولهذا فإن النبي ﷺ لما جاء ووجد الحصر والستور في المسجد أي أن نساءه قد اعتكفن، كل واحدة تحجرت مكاناً وقد وضعت لها حصيراً، فقال: آلبر تردن[1]، ثم أرشدهن إلى أن بيوتهن خير لهن، فالمرأة مكانها في البيت، وتذكر الله وتعبده في بيتها، هذا هو الأفضل في حقها، وصلاتها في بيتها في أرض الحرم خير لها من مائة ألف صلاة، تزاحم فيها الرجال، وصلاتها الجمعة في بيتها في أرض الحرم خير من صلاتها في المسجد الحرام، بقاءها في بيتها خير له من الاعتكاف في المسجد الحرام، وغيره من المساجد، قال: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، يتدارسونه ويدخل في مدارسته مدارسة الألفاظ، من تصحيح التلاوة، والتجويد، ويدخل فيه الحفظ والمراجعة، ويدخل فيه أيضاً مدارسة المعاني، قال: إلا نزلت عليهم السكينة، والسكينة هي: الحالة التي يطمئن بها القلب ويسكن ولا ينزعج لعوارض الدنيا، وإنما يبقى القلب خاشعاً مخبتاً ساكناً، لا تعصف به العواصف التي تأخذ بقلوب أهل الدنيا، وهذا شيء مشاهد، انظروا إلى  أناس حال خروجهم من الملعب، كيف تجد حال هؤلاء الناس؟ تكاد تركبهم الشياطين من الخفة والطيش والسفه، ويمكن أن يقع بينهم من العراك على لا شيء، وانظر إلى أناس قد خرجوا من المسجد في صلاة الجمعة مثلاً وسمعوا الخطبة، أو خرجوا من محاضرة كيف يكون عليهم السكينة والوقار؟ والطمأنينة، فانظر إلى الحالتين تعرف الفرق بين المقامين، قال: وغشيتهم الرحمة، أي: أن رحمة الله تنزل على هؤلاء الناس، وحفتهم الملائكة أي: أن الملائكة تجتمع حول هؤلاء وتسمع الذكر، فما بالك بقوم تنزل عليهم السكينة وتغاشهم الرحمة؟ والملائكة هي التي تحفهم فأين يكون الشياطين عن هؤلاء، ولذلك يحرص الإنسان على مثل هذه المعاني ليحققها في نفسه، يحرص دائماً على حضور مجالس الذكر، مجالس العلم، من أجل أن تحفه الملائكة، وتنزل عليه السكينة وتغاشه الرحمة، ويكون ذلك أبعد ما يكون عن الشيطان، وتسلطه، والشيطان يتوعد ويتهدد، قال: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ۝ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ۝ قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ۝ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ۝ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:12ـ18] هذه مجاوبة بفي غاية العجب بين الرب ، وبين إبليس،، إذا تأملها الإنسان، فإنه يرعوي ويخاف أن يكون ممن استحوذ عليه الشيطان، والله يقول: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20 ] صدق أي: هو ظن بهم أنهم يستجيبون وينقادون وهذا الذي حصل، وصار أكثر الخلق كما قال الله : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [الأنعام:116]، فكيف يتخلص الإنسان والحال هذه من الأشياء التي تثبته على الطريق أن يحضر مجالس الذكر لتغشاه السكينة والرحمة، وتحفه الملائكة بدلاً من أن تحفه الشياطين، فهو معنى جدير بالعناية والتأمل، وليس ذلك فحسب، بل وذكرهم الله فيمن عنده، يذكرهم في الملأ الأعلى، فلان جلس في مجلس في بيت من بيوت الله يذكرني، الناس لو ذكرهم واحد من أهل الدنيا، لو سمعنا فلان من الكبراء يذكرك في مجلسه، يقول: فلان ما شاء الله عليه، كان بعض الناس يفرح، ويسر بهذا ويغتبط مجرد ذكر لا يقدم ولا يؤخر، ماذا ينفعه ذلك؟ وكثير من الناس يغتبط ويسأل عن التاريخ والوقت واللحظة والمناسبة التي جاءت بهذا السياق، والله يذكره ويقول: فلان يذكرني في بيت من بيوتي، هذه هل نستشعر هذه المعاني؟ وإلا فالناس يبحثون دائماً عن مواطن الغفلة، ولربما تهافتوا على أشياء ليست لهم، هي وضعت للمضيعين للمفرطين في وقت التنزل الإلهي، ثلث الليل الآخر، فتجد كثير ممن كان ينبغي أن يربو بنفسه عن تلك المجالس التي وضعت لأهل التضييع ليكون ذلك خير ما اشتغلوا به، فصار يتهافت عليها أناس لم توضع لهم، وتأتي الألوف المؤلفة إلى وقت السحر في شيء لا تنزل معه السكينة، ولا تغشى الرحمة، ولا تحف الملائكة، ولكن أكثر الناس يبحثون عن اللهو، وإن كان الناس مراتب، من الناس من يصلح له هذا، ومن الناس من يصلح له ما هو فوقه، فالناس يتفاوتون غاية التفاوت، لكن ينبغي للعبد أن يتبصر ما الذي يصلح لمثله هو؟، هناك أشياء وضعت لك، وهناك أشياء وضعت لغيرك، فمن الخطأ أن نخلط في هذه الأمور، ولا نفرق ثم بعد ذلك يتخرج لنا جيل هش، يتربى على الغثاء، والشعر النبطي، والكلام الذي لا ينفع ولا يبني ولا يرفع، فأقول: مجالس الذكر لا تصبر عليها إلا النفوس التي لها مجاهدات، ما كل إنسان يطيق هذا، ولذلك يثقل هذا على الناس، لكن يخف عليهم المجالس التي يكون فيها الترويح والأنس وما أشبه ذلك، يقول: ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه[2]، أي: أن الناس لا يصلون عند الله بالأنساب، وإنما يصلون بالأعمال، وكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، والله ذكر لنا ولد نوح ، وقال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46]، وذكر امرأة نوح، وامرأة لوط -عليهم السلام، وذكر أيضاً من الأمثال ما يقابل ذلك، وهو امرأة فرعون، امرأة رجل من أكفر أهل الأرض، بل هو أكفر أهل الأرض، وكانت مؤمنة، وما ضرها ذلك، فالإنسان إنما يصل بعمله الصالح، فنسأل الله أن يبلغنا وإياكم الجنة، ويعيذنا من النار، وأن يغفر لنا وأن يصلح أعمالنا وأحوالنا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1. صحيح مسلم، كتاب الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه، (4/ 2074)، رقم: (1172).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (4/ 2074)، رقم: (2699).

مواد ذات صلة