الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
حديث «سبعة يظلهم الله في ظله..» (2-2)
تاريخ النشر: ٢٨ / جمادى الآخرة / ١٤٢٨
التحميل: 1523
مرات الإستماع: 4647

تتمة حديث: سبعة يظلهم الله في ظله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل الحب في الله والحث عليه كنا نتحدث عن حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومضى الكلام على الإمام العادل، والشاب الذي نشأ في عبادة الله ، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد.

ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ثم قال: ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله، في بعض الروايات: دعته امرأة ذات منصب وجمال، فهنا قال: ذات حسن وجمال، والروايات تُجمَع، وكلام النبي ﷺ متحد، وعلى كل حال هذه المرأة دعته فهو لم يحتج إلى مراودتها، والسعي في تحصيل مطلوبه منها، ثم أيضاً هذه المرأة ذات حسن، كما في هذه الرواية، والجمال شيء تتبعه النفوس وتحبه وتميل إليه بطبعها، وفي الرواية الأخرى أنها ذات منصب، وهذا أيضاً يدعوه إلى مواقعتها من جهتين، الجهة الأولى: وهي أن مواقعة ذلك مع ذات الشرف والمنصب ليس كمواقعة الأمة أو من لا شأن لها أو الخادمة أو نحو هذا.

والأمر الآخر: أن هذه التي لها منصب ستحميه، فهو لا يخاف من غائلةٍ تحصل له بسبب ذلك من جهة هذه المرأة أو من جهة أهلها.

فقال: إني أخاف لله، فلم يمنعه من فعل هذا مع أن النفس تميل إليه إلا الخوف من الله -تبارك وتعالى.

قال: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، المال شيء محبب إلى النفوس، ولا تبذله النفوس وتجود به إلا بمجاهدة وصبر، وأن تستحضر العوض في مقابل هذا البذل، فالإنسان إما أن يبذل هذا المال؛ لأنه يرجو مكسباً دنيويًّا، أو يبذل هذا المال لأنه يريد من الناس أن يذكروه وأن يمدحوه وأن يُطروه بأنه تصدَّقَ وأنفقَ وبذل، فهو يفعل ذلك ليحصِّل هذه اللذة التي لربما تفوق لذة المال، فإن الكثيرين قد يبذلون الأموال من أجل تحصيل السمعة والمنزلة والمحمدة في قلوب الخلق، كما هو معلوم، هذا الإنسان قد انتفى عنه ذلك جميعاً، فنفسه لا تجد شيئاً يتسرب إلى شيء من شهواتها ومطلوباتها من طريقه، النفوس كما قال بعض أهل العلم: إذا حُملت على طاعة الله وفطمت عن الشهوات فإنها تبحث عن طريق تتسلل منه إلى شيء تجد فيه العوض.

وكثير من النفوس لربما تتسرب من ناحية الرياء والسمعة وطلب المنزلة والمحمدة في قلوب الخلق، فيجد الإنسان بسبب ذلك لربما لذة وأنساً وفرحاً يعوضه عما يلقاه من شدة ومعاناة عند القيام بالعبادة، يفرح بثناء الناس وبإطرائهم وبتقديمهم وتعظيمهم وما شابه ذلك، فإذا تفطن الإنسان إلى هذه المداخل الخفية وقطعها ولم يرد إلا وجه الله فإنه عندئذ يكون قد جاهد المجاهدة الحقة الكاملة.

فهذا الإنسان الذي تصدق بهذا المال -وهو شيء يصعب عليه أن يبذله- فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه أي: من شدة الإخفاء، لم يفعل هذا أمام الناس من أجل أن يحمدوه على هذا الفعل، ويقولون: فلان المتصدق والمنفق وما أشبه هذا، وهذا يدل على كمال إخلاصه.

قال: ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، الإنسان قد يذكر الله بمحضر من الناس فيبكي، ولربما بعض الناس يتكلف البكاء بحضرتهم، إما في الموعظة وإما في الصلاة أو نحو هذا، ويتصنع ذلك تصنعاً لربما مقيتاً، وهذا أمر غير جيد، ولو كان لا يقصد به الرياء فإن السيطرة على النفوس أمر في غاية الصعوبة، فالمقصود أيها الأحبة أن هذا الإنسان ليس عنده أحد يرائيه ولا يتصنع له ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، فيدل على أن هذا الإنسان قد تجذر الإيمان في قلبه، والخوف من الله ، هذه الأمور جميعاً إذا نظرت إليها فإنها تدل على شدة الوازع في قلب العبد، شدة الإيمان، تجذر الإيمان، الإمام العادل يخاف ممن إذا ظلم؟.

الشاب الذي نشأ في عبادة الله، مع قوة الدافع عند الإمام للظهور ولربما التسلط والعسف ونحو ذلك، وهكذا الشاب الغرائز عنده قوية.

والرجل الذي قلبه معلق في المساجد، فالنفوس تتفلت من هذا.

رجلان تحابا في الله، أكثر مصالح الخلق على الدنيا.

ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، من الذي يتمالك في مثل هذا؟.

ورجل تصدق بصدقة فأخفاهاإلى آخره، وهكذا الذي ذكر الله خالياً.

قوة الداعي إلى المعصية وضعفه

قاعدة: كلما قوي الداعي إلى المعصية فإن وزرها يخف، وكلما ضعف الداعي إليها فإنها وزرها يعظم، وهكذا الطاعة كلما كان ذلك -يعني: العبادة والطاعة تتطلب مجاهدة أكبر- كلما كان الأجر أعظم ما لم يقصد الإنسان المشقة، فإن هذا لا يشرع، وكلما كان ذلك أخف فإن الأصل أن أجره يخف في العبادة المعينة، وليس ذلك على إطلاقه في جنس العبادات، وإلا فالذكر من أجلّ العبادات وهو لا يكلف الإنسان شيئاً، فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103].

فإذا نظرنا إلى القسم الأول وهو مسألة المعاصي، الإنسان الذي نفسه تتوق بقوة إلى المعصية، شاب نشأ في طاعة الله، رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، إمام عادل، فالداعي إلى المعصية قوي جدًّا ومع ذلك زمّ نفسه وحملها على طاعة الله ، فهذا يعظم أجره، فالإنسان الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال ليس كالذي دعته امرأة في غاية القبح وهي أمة، وليس لها شأن، فرق بين هذا وبين هذا، ولذلك إذا ضعف الداعي إلى المعصية عظم وزرها، ولهذا ذكر النبي ﷺ في الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ذكر منهم قال: ملك كذاب... ؛ لأن الداعي إلى الكذب عنده ضعيف، ملك كذاب، وعائل مستكبر، فقير ومتكبر، الداعي إلى الكبر ضعيف عنده، فهذا لو كان غنيًّا ماذا سيصنع؟ ملك كذاب، وعائل مستكبر، وأشيمط زانٍ[1].

فالإنسان الأشيمط الذي ضربه الشيب تضعف عنده الشهوة، فإذا اجترأ على حدود الله وزنى مع ضعف داعي الزنا في نفسه فإن هذا يدل على أن الشر متمكن في نفوس هؤلاء الثلاثة ، فهذا يقابل ما ذكر في الأمثلة والصور الأولى.

أسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يلطف بنا، وأن يغفر لنا أجمعين، ويتقبل منا ومنكم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (1/ 102)، رقم: (107)، بلفظ: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر .

مواد ذات صلة