الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
حديث «سووا صفوفكم..» إلى «إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب فضل الصف الأول، والأمر بإتمام الصفوف الأول، وتسويتها، والتراص فيها" أورد المصنف -رحمه الله- حديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ: سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصف من تمام الصلاة[1]، متفق عليه.

وفي رواية للبخاري: فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة[2].

قوله ﷺ: سووا صفوفكم هذا يدل على وجوب تسوية الصفوف، وقوله ﷺ فإن تسوية الصفوف الفاء للتعليل فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة فهذا احتج به من قال: بأن تسوية الصف مندوبة، وليست بواجبة، قالوا: لأنه من تمامها، والتمام لا يدل على أن ذلك مما يكون واجبًا، وهذا فيه نظر.

وكذا احتجوا بالرواية الأخرى: فإن إقامة الصف من حسن الصلاة[3]، قالوا: فهذا من حسنها، ولكنه في الرواية الأخرى، قال: من إقامة الصلاة وهؤلاء يحتجون أيضًا بأن ما كل ما تحصل به الإقامة: واجب، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن ذلك للوجوب؛ فإنه من إقامتها وإقامتها واجبة.

وكذلك أيضًا من تمام الصلاة، فإن التمام والكمال منه ما هو كمال واجب، ومنه ما هو كمال مستحب، فلما ذكر معه الأمر الصريح: سووا صفوفكم وما ذكر من العلل في الأحاديث الأخرى معه، كقوله ﷺ مثلاً في حديث تقدم، وهو استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم[4]، فاختلاف القلوب محرم، وهكذا في الحديث الذي بعده فيما سيأتي: لتسوون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم[5]، فكل هذا يدل على أن ترك تسوية الصفوف يُؤدي إلى أمور محرمة، يأتي بيانها -إن شاء الله-، بل بالغ ابن حزم -رحمه الله-، فذهب إلى أن الصف الذي لا يقام، فيبقى معوجًا أن الصلاة لا تصح[6]، فجعله من شروطها، وهذا فيه مبالغة، والأقرب أن الصلاة تصح، لكن مع النقص، تكون ناقصة بحسب ما يقع من الإخلال في الصف، وما إلى ذلك مما يطلب لتكميلها، سواء كان الكمال الواجب، أو الكمال المستحب.

ثم أورد أيضًا الحديث الآخر، وهو حديث أنس قال: "أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله ﷺ بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم، وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري[7]، رواه البخاري بلفظه، ومسلم: بمعناه، وفي رواية للبخاري: "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه"[8].

"أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله ﷺ بوجهه" هذا يدل على أن الإمام يستقبل الناس بعد الإقامة، ويقول لهم: استووا أقيموا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة وما إلى ذلك مما يقال، خلافًا لما يظنه بعض العامة من أنه إذا أقيمت الصلاة فليس للإمام أن يستدير، فيجعل ظهره إلى القبلة، ويرون ذلك شنيعًا، وهذا من جهلهم، فقولهم هذا، واستنكارهم لا دليل عليه ألبتة، وإنما السنة أن يستقبل الناس ويقول لهم ما كان يقوله النبي ﷺ، فهنا استقبلهم، فقال: أقيموا صفوفكم، وتراصوا وعرفنا من قبل أن تسوية الصف تعني إقامة الصف، بحيث لا يتقدم أحد، ولا يتأخر أحد، وأن ذلك أيضًا بطريق اللزوم ألا يكون هناك فرجات، وهنا قال: سووا صفوفكم فذكر التسوية، قال: وتراصوا من أجل أن لا يبقى فرجة في الصف، فذلك كله محمول على الوجوب، والله تعالى أعلم.

قال: فإني أراكم من وراء ظهري وهذا من معجزاته ﷺ أنه كان يرى المصلين من وراء ظهره، كما يراهم الذي يستقبلهم، فهذه معجزة، وكيف يتحقق هذا؟ هذا أمر غيبي، الله قادر على كل شيء، فيريه المصلين خلفه، كما يرى الواحد منا الناس أمامه، وفي الرواية التي في البخاري: "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه" وعرفنا أن المنكب هو مجمع ما بين العضد والكتف "فيلزق منكبه بمنكب صاحبه" وهذا الذي يحصل به اعتدال الصف والتراص، والقدم بالقدم، تفسره بعض الروايات الأخرى: الكعب بالكعب "يلزق كعبه بكعب صاحبه"[9]، فهذا من حديث أنس ، وجاء ذلك أيضًا عن النعمان -رضي الله تعالى عن جميع أصحاب النبي ﷺ-.

فدل ذلك على أن إلزاق المنكب بالمنكب، والكعب بالكعب من السنة، وأنه مطلوب، ورواية: القدم بالقدم هنا تفسرها الرواية الأخرى التي ذكر فيها الكعب، فإن إلزاق القدم بالقدم بمجردها لا يعني التسوية، كما سبق في بعض المناسبات، فإن الإنسان تكون قدمه طويل، والآخر قدمه قصيرة، وقلنا: العبرة بالكعب، فإن الكعب إذا كان محاذيًا للكعب حصل الاستواء في الصف، لكن إذا نظر الناس إلى أطراف الأصابع، فهذا قدمه طويلة، وهذا قدمه قصيرة، فيكون هذا ظهره أو صدره متقدمًا، وذاك متأخر، فليس المعتبر هو أطراف الأقدام، وإنما المعتبر هو الأكعب، والمعتبر أن يستوي الصدر أو الظهر، وذكرتُ لكم ما يتصل في صلاة الجالس أو الصلاة على الكرسي، ونحو ذلك.

لكن إلزاق الكعب بالكعب أو القدم بالقدم وحده لا يكفي؛ لأنه قد يباعد ما بين قدميه والمنكب بعيد تمامًا عن المنكب، ويظن أنه قد حقق المطلوب، لا، إذا كان المنكب بالمنكب، فمعنى هذا أنه لا يوجد فرجة، فيبقى أن في إلزاق الكعب بالكعب مزيد من التراص، وفيه أيضًا تسوية، فهذا كله يضبط استواء الصف، وتزول وتنتفي الفرج بين المصلين.

ثم ذكر حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: "سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم[10]، متفق عليه.

هذا لا يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم- لأمر مستحب، مما يدل على الوجوب أو ليخالفن الله كيف يكون الخلاف بين الوجوه؟

بعض أهل العلم قال: يعني يُدار الوجه يكون إلى القفا، كما قال الله في بني إسرائيل: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا[النساء:47] فهذه عقوبة.

وبعضهم قال: بالمسخ.

وبعضهم قال معنى آخر، وأظنه قريب -والله تعالى أعلم- وهو: أن هذا التباعد والتباين في الصف يؤدي إلى اختلاف القلوب، وإذا حصل اختلاف القلوب حصل التنافر والتباعد والجفاء بين الناس، فعند ذلك تحصل النفرة، واختلاف الوجوه، بمعنى: يلقاه فيعرض عنه، ولا يقبل عليه بوجهه، وإنما يكون بينهم تنافر وتباعد، فإذا لقيه انصرف، وصد عنه، والله تعالى أعلم.

قال: وفي رواية لمسلم: أن رسول الله ﷺ "كان يسوي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح"[11]، يعني: إلى هذا الحد يسوي الصفوف بيده ﷺ "حتى كأنما يسوي بها القداح" والقداح: جمع قدح، وهو السهم قبل أن يراش، ويوضع له النصل، فهذه تسوى تسوية دقيقة مستقيمة، بحيث تكون على حال من الاستواء التام، من أجل إذا رمي به لا يميل، فيكون مستقيمًا.

فكان النبي ﷺ يبالغ في تعديل الصفوف، وتسويتها "حتى كأنما يسوي القداح" السهام.

قال هنا: "حتى رأى أنا قد عقلنا عنه" يعني: خلاص أدركنا هذا وفهمنا وأصبحنا نعتني بهذه القضية "ثم خرج يومًا، فقام، حتى كاد يكبر، فرأى رجلاً باديًا صدره من الصف، فقال: عباد الله؛ لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم[12]، لم يتكلم على هذا الرجل بعينه، كما هي عادته ﷺ: ما بال أقوام، فوجه الخطاب للجميع، من أجل أن لا يحرجه، وقال لهم هذا، بل في حديث البراء بن عازب الذي بعده، قال: كان رسول الله ﷺ يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية"[13]، "يتخلل الصف" يعني: يدفع خلله، كما تقول: فلان يتأثم يعني: يدفع الإثم عن نفسه، ويتحرج يدفع الحرج، ويتخلل يعني: يرص الصفوف، ويدفع ويزيل الخلل الفراغات التي بين المصلين "يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية" يمين يسار، "يمسح صدورنا ومناكبنا" الآن لو جاء للناس إمام ويريد أن يأتي ويمر بالصف ويمسح صدورهم ومناكبهم؛ لما احتملوه أبدًا، فالنبي ﷺ كان يفعل هذا، ويمسح بيده ﷺ صدورهم ومناكبهم؛ ليسوي الصف، ويقول: لا تختلفوا؛ فتخلف قلوبكم وكان يقول: إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول"[14]، رواه أبو دواد، بإسناد حسن.

يصلون على الصفوف الأول الصفوف المتقدمة، يعني: إذا كان المسجد فيه عشرة صفوف، فالأول والثاني والثالث هذه الصفوف الأول، وكلما تأخر كلما نقصت الفضيلة، وكلما تقدم كلما ازدادت، وأشرفها الأول، وقد مضى الكلام عليه، وعلى فضله، والله أعلم.

وآثار ما ذُكر في هذه الأحاديث كما في أو ليخالفن الله بين وجوهكم) كما ذكرتُ في مرة سابقة ظاهرة في المصلين اليوم، تجد النفرة أحيانًا لا تجد ذاك الانسجام، وذاك التوافق، هذا إذا سلم المسجد من المشكلات، كثير من المساجد لا تسلم من المشكلات، كل واحد له رأي، وكل واحد له نظر، وهذا يريد أن يكون وقت الإقامة كذا، وهذا يريد كذا، وهذا يريد تكييف، وهذا ما يريد تكييف، وهذا يريد المسجد يقفل الوقت الفلاني، ويفتح في الوقت الفلاني، وهذا لا يريد، وكل واحد له رغبة، فتجد بعض المساجد مشاكل، والإمام غير متلائم معهم، والجماعة غير متلائمين معه، والإمام غير متلائم مع المؤذن، والجماعة غير متلائمين مع بعض هذا، من أين -أيها الأحبة-؟ من التفريط في مثل هذه المعاني، فتقع الجفوة بين المصلين، وإذا كان هذا حال المصلين إذًا ما حال الآخرين الذين في الأسواق، وفي الأماكن الأخرى، والسوق الذي يغرس الشيطان فيه رايته، فلا تسأل عن كيد الشيطان للناس، فإذا كان هذا بين المصلين، ويحصل هذا من المخالفة بين القلوب في قضية يسيرة، وهي تسوية الصف، فكيف بقضايا أكبر وأعظم على مستوى الأمة؟

وهذا يدل على تكامل هذه الشريعة، فالقضية تبدأ من الصف في المسجد، ومن خان حي على الفلاح خان على الكفاح، هذا الإنسان الذي يتخلف عن الصلاة في المسجد سيتخلف عن الدفاع عن الأمة، وعن الجهاد، وعن منازلة الأعداء إذا دُعي إلى ذلك.

وهذا التخلل في الصف يؤدي إلى تخلل واختلاف، وعدم انسجام في القضايا الأخرى أيضًا، ويمتد على مستويات كثيرة في الأمة، والله المستعان.

فمثل هذه القضايا اليسيرة لو يراعيها الناس، فإنها مؤثرة في حياتهم، واجتماع قلوبهم، واجتماع كلمتهم، وتأمل في هذا في أمور الناس كلهم تجد مصداق ذلك.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة برقم (723) ومسلم في كتاب الصلاة باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (433).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة برقم (723).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة برقم (722) ومسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (435).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (432).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها برقم (717) ومسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (436).
  6. المحلى بالآثار (2/374).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إقبال الإمام على الناس، عند تسوية الصفوف برقم (719) ومسلم في كتاب الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها برقم (424).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف برقم (725).
  9. صحيح البخاري (1/146).
  10. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها برقم (717) ومسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (436).
  11. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل، وتقريبهم من الإمام برقم (436).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (436)
  13. أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الصفوف، باب تسوية الصفوف برقم (664) وصححه الألباني.
  14. أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الصفوف، باب تسوية الصفوف برقم (664) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة