الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..» إلى "كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا الليل.."
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم؛ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين[1] متفق عليه، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية لمسلم: فإن غم عليكم؛ فصوموا ثلاثين يومًا[2].

قوله ﷺ: صوموا لرؤيته الضمير هنا يعود إلى غير مذكور، لكنه معروف من السياق، وهو الهلال، وهذا الخطاب يحتمل أن يكون خطابًا للأمة بمجموعها، بعمومها، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فيكون المعتبر بذلك هو الرؤية العامة، بمعنى أن من رآه وحده، دون أن يخبر بذلك، أو أنه رآه، فأخبر عن رؤيته، فلم تعتبر، هل له أن يصوم، أو لا؟

نحن نعرف أن شهر رمضان يدخل بشهادة واحد، كما جاء عن ابن عمر أنه رأى الهلال فأخبر النبي ﷺ بذلك، فاعتبر النبي ﷺ رؤيته[3] فقوله: صوموا لرؤيته[4] إن كان المقصود به الأمة، عموم الأمة، وأنه ليس معنى ذلك أن ينفرد أحد منها بسبب رؤيته للهلال؛ فيصوم وحده، فهذا قول لجماعة من أهل العلم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[5] وقالوا: إنما قيل للشهر ذلك، يعني شهر؛ لاشتهاره، فلا يكون شهرًا، لا يعتبر دخول الشهر إذا كان ذلك باعتبار رؤية الواحد من الأمة مثلاً حينما لا تعتبر رؤيته، أو لا يخبر بذلك، فيصوم وحده فهذا غير مراد على قول هؤلاء.

وبعضهم يقول: إنه يصوم سرًا، يعني إن لم تعتبر رؤيته، ثم إن قوله ﷺ: صوموا لرؤيته أخذ منه بعض أهل العلم اعتبار المطالع، فكل أهل ناحية، أو بلد إذا رأوا الهلال؛ فإنه يجب عليهم أن يصوموا، فإذا كانت البلاد الإسلامية -كما هو حاصل- شاسعة، مترامية الأطراف، فرآه أهل بلد؛ فإنهم يصومون، ومن جاورهم ممن يشترك معهم في هذا المطلع، فهذا قال به جمع كثير من أهل العلم، وهو الذي يدل عليه ظاهر الحديث، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم: أن كريبًا، وهو مولى لابن عباس لما قدم من الشام؛ سأله ابن عباس في زمن معاوية أيام خلافة معاوية، فأخبر أن أهل الشام رأوه ليلة الجمعة، وأهل المدينة رأوا الهلال ليلة السبت، فابن عباس تمسك برؤية أهل المدينة، وأنه لا يزال يصوم حتى يرى الهلال، يعني معناه أنه قد يتأخر عنهم يومًا، فقال له كريب: أما ترى، أو تعتبر رؤية أمير المؤمنين، فقال: إنها السنة[6] أو كما جاء عنه، يعني أننا ننظر إلى الهلال في ناحيتنا، في بلدنا، ونصوم بناء على ذلك، وبعض أهل العلم يقول غير هذا.

على كل حال، الشيء القاطع، المتفق عليه بين السلف هو أن الاعتبار برؤية الأهلة، لا بالحساب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فالحساب غير معتبر في ذلك، ولكن هذه الرؤية يمكن أن تكون بالعين المجردة، ويمكن أن تكون بواسطة، يعني بالمكبرات مثلاً، لكن لا يعتبر في ذلك الحساب، فمن اعتبر الحساب؛ فإن نظره في ذلك غير شرعي، ولا عبرة بإعلان دخول الهلال، أو الشهر إذا كان مبنيًا على الحساب.

قال: فإن غبي عليكم غبي عليكم يعني خفي، ولم يظهر حال بينكم، وبينه قتر، أو غيم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين[7] متفق عليه، وذلك أن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا، ويكون ثلاثين يومًا، فهذا هو الحكم في مثل هذه الحالة.

ثم قال: باب الجود، وفعل المعروف، والإكثار من الخير في شهر رمضان، والزيادة من ذلك في العشر الأواخر منه، الجود هو بذل ما ينبغي كما يقولون لمن ينبغي في الحال التي تقتضي، هكذا بعضهم فسر الجود، البذل، العطاء حيث يحسن العطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله ﷺ أجود الناس -يعني دائمًا- وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة[8] كان أجود الناس، فيزداد جوده ﷺ كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فرمضان شهر الجود، النفس تكون في حال من الإقبال، والجد في العمل الصالح، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، فيحصل لأهل الإيمان بذلك من الإحسان، والعمل الصالح، والبذل ما لا يحصل في غيره، وإذا كان النبي ﷺ يلقى جبريل في كل يوم؛ ليدارسه القرآن؛ فإن ذلك يحصل له بسببه مزيد من الإقبال والجد، والاجتهاد والعمل، فاجتمع رمضان، ولقاء جبريل -عليه السلام- بالإضافة إلى مدارسة القرآن مع ما يتصف به النبي ﷺ قبل ذلك من الجود، كان أجود الناس.

فهذه أربعة أمور اجتمعت للنبي ﷺ فصار حاله كما قال: أجود بالخير من الريح المرسلة، والريح المرسلة هي الريح التي تهب بصفة مستمرة، وتنشر الخير، تنشر المطر، وهذه الريح المرسلة لا تفرق، ينزل المطر على الأرض السباخ، وينزل المطر على الأرض التي تنبت، وينزل المطر على البحر، ولذلك فإن الإنسان الجواد لا يأسف إذا وقع إحسانه وبذله وعطاؤه لإنسان اكتشف أنه غير مستحق مثلاً، أو أن هذا الإنسان قيل فيه: إنه غير جيد مثلاً، أو نحو هذا، كما في الحديث تصدق الليلة على سارق، تصدق الليلة على غني، تصدق الليلة على زاني أو زانية[9] فكل ذلك يقع عند الله -تبارك وتعالى- فهذا الإنسان الذي يسأل، ربما يكون غير محتاج، ربما يعتذر بأعذار كاذبة، لربما يتصنع علة ومرضًا، لكن الله -تبارك وتعالى- يعلم حاله، ويعلم حال المتصدق، ونيته وبذله، ولهذا قال الله : وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ.

فهذه ثلاثة أمور إذا تذكرها الإنسان ما يقول بعد ذلك فلان يستحق، فلان ما يستحق، فلان يمثل، فلان يدعي، فلان يكذب، إلى آخره، اعط الناس، لكن تحرز في الزكاة؛ لأن الله تولى قسمتها للأصناف الثمانية، لكن هذا الذي تعطيه، هذا السائل هي تقع صدقة، ولا يضرك ذلك شيئًا، إطلاقًا، حتى لو تبين فيما بعد أن الإنسان تصدق، ثم تبين أن هذا الإنسان يأخذ لنفسه، وهو يقول: إنه يوصلها للآخرين، هي ما تضيع، أو يقول: بأنه يكفل لك يتيمًا، أو نحو ذلك، وتبين أنه ليس كذلك، أو يأخذ إفطار للصائمين، وتبين أنه ليس كذلك، ما يضيع شيء من أجرك، ما تريد ما عند الله ؟ هو وصل، تصدقت، والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.

ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر[10] أحيا الليل، كان إذا دخل العشر يدل على أن النبي ﷺ ما كان يحيي الليل في العشرين الأولى من رمضان، فضلاً عن غيرها من أيام السنة، ولهذا يقال لا يسن أن الإنسان يقوم الليل في رمضان كاملاً سواء في جماعة، أو بمفرده إلا في العشر الأواخر، فالنبي ﷺ أحرص على الخير، ومع ذلك لم يفعل.

"وأيقظ أهله" فهذا فيه أن الإنسان يحث أهله على الطاعة، ويحثهم على قيام الليل، والجد والاجتهاد، لاسيما في العشر الأواخر، وشد المئزر شد المئزر -عليه الصلاة والسلام- هذا كناية عن اعتزال النساء، شد مئزره، بمعنى ترك المعاشرة لأزواجه -عليه الصلاة والسلام- يجد ويجتهد في العبادة لا يتفرغ لشيء، لا لنوم، ولا لمعاشرة، ولا غير ذلك.

هذا، وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا))، برقم (1909).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، اب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما، برقم (1081).
  3. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان، برقم (2342)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (908).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا))، برقم (1909).
  5. انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (25/114).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم، برقم (1087).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا))، برقم (1909).
  8. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3220).
  9. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم، برقم (1421)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، برقم (1022).


  10. أخرجه مسلم، كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، برقم (1174).

مواد ذات صلة