الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
الحديث عن آيات الباب (2-2)
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد، ما قاله الله -تبارك وتعالى- في سورة التوبة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

سمى الله -تبارك وتعالى- المعاملة معه تجارة كما في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ كما سماه بيعا في آخرها، في قوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وسمى -تبارك وتعالى- أيضا النفقة في سبيله قرضًا مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا.

كل ذلك جاء في كتاب الله -تبارك وتعالى- وقال النبي ﷺ لصهيب في القصة المعروفة لما هاجر وترك ماله على أن يخلي المشركون بينه وبين الهجرة: ربح البيع.. قال له النبي ﷺ ذلك ربح البيع أبا يحيى[1] فهذا كله بيع، وذكر هنا الثمن والمثمن، اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل لهم في مقابل ذلك الجنّة، ثم وصف هذا العمل الذي حصل به الشراء، قال: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني لإعلاء كلمته، وهذا هو الجهاد المشروع، هذا هو الجهاد الحقيقي، وما عداه فليس بجهاد، ولا ينبغي للإنسان أن يغرر بنفسه، فيلج في أمر لا يعرف وجهه ولم يتبينه؛ لأن ذلك لربما يكون فيه ذهاب الدنيا والآخرة بالنسبة إليه، والناس اليوم يرددون شهيد وشهداء الثورة، والنبي ﷺ لما سئل عن ذلك، قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله[2] فلا يوجد شيء اسمه شهداء الثورة، وإنما الشهادة هي القتال في سبيل الله -تبارك وتعالى- من قتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، لا من أجل الحرية، ولا من أجل العيش والخبز، أو الشعارات المضللة مثل الديموقراطية، فهذا كله ليس في سبيل الله، فأصبحت مثل هذه العبارات ذات الدلالات الشرعية -أعني الشهادة- تقال في مثل هذه الميتات، أو الموتات، وكل يرددها، والله المستعان.

وهنا قال: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وفي القراءة الأخرى المتواترة (فَيُقْتَلون، ويَقْتُلون) فذلك حينما ينظر إليه بهذا الاعتبار أنهم يَقْتُلون فهذا يدل على شرف ما يزاولونه، ويُقْتَلون في القراءة الأخرى يُقْتَلون؛ لأنهم بذلوا أغلى ما يملكون، وهي هذه المهج والنفوس طلبا لمرضاة الله -تبارك وتعالى-

قال: وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ هذه أعظم الكتب السماوية، وهذا الوعد اختلفت فيه عبارات المفسرين، ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- أن هذا الوعد مذكور في هذه الكتب الثلاثة، أن الله جعل لهؤلاء الجنّة، وعدهم بالجنة إزاء هذا العمل الذي يزاولونه.

قال: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ هذا استفهام متضمن لمعنى النفي، يعني لا أحد أوفى بعهده من الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يستبشرون به في الدنيا قبل أن يلقوا ربهم -تبارك وتعالى- وقبل أن يعاينوا ذلك الموعود؛ لأنه وعد أكيد من الله وهذا يتطلب نية صادقة خالصة صحيحة، ووجهة صحيحة في الوقت نفسه فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

يعني جاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام هو لتقوية النسبة وَذَلِكَ هُوَ ودخلت أل على الفوز كأن هذا هو الفوز الكامل الذي لا فوز يدانيه أو يقاربه، هذا هو الفوز والظفر الحقيقي، ليس الفوز بشيء من حطام الدنيا ومتاعها، فإن الدنيا فانية، وإنما الفوز هو بهذه الجنات، والدرجات العالية كدرجات الشهداء.

ثم ذكر قول الله -تبارك وتعالى-: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ لا يستوون في عملهم، لا يستوون في حالهم، لا يستوون في جزائهم في الدنيا والآخرة، فنفي الاستواء يحمل على أعم معانيه، لا يستوون بحال من الأحوال لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ هذا استثناء يخرج من كان قعوده لعذر، كالزمْن والمريض والأعمى والأعرج، ونحو ذلك، والمجاهدون في سبيل الله يعني لا يستوي القاعد والمجاهد، سواء كان جهاده بماله أو بنفسه، وكما سبق أنه قدم الجهاد بالمال؛ لأن الجهاد بالنفس لا يقوم إلا به، لا يتحقق إلا به، مع أن الجهاد بالنفس أعظم، وأرجح قال: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً هذه الدرجة ما هي؟ الدرجات عند الله -تبارك وتعالى- لا يقادر قدرها فأهل الإيمان يتفاضلون كما قال الله -تبارك وتعالى-: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ فيتفاضلون بهذه الأمور كالعلم، وكذلك أيضا الشهادة، وغير ذلك من درجات أهل الإيمان العالية كالصديقية فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا فهذه درجات عالية في الجنة.

وهنا قال: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى: يعني الجنة، وهذا يدل على أن الجهاد ليس بفرض عين، وإن كان في وقت من الأوقات يطالب به الجميع كما سبق في قوله تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً فهنا بين تفاضلهم، وأن المجاهدين أعلى مرتبة، ودرجة من غيرهم، وقال: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا هذه الدرجات بعضهم يقول: هي تفسير للدرجة السابقة، وبعضهم يقول: هذه درجات لأهل الإيمان أنهم يتفاضلون ويتفاوتون، فمن ذلك ما لأهل الجهاد من الدرجات العالية، قال: وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ونكر المغفرة والرحمة، وذلك ربما هنا يفيد التعظيم، مغفرة عظيمة يحصل فيها ستر العيوب، ويحصل بها أيضا الوقاية من شؤم الذنوب، ومن جرائرها وآثارها ونتائجها، ولهذا أخبر النبي ﷺ أن الشهيد يغفر له من أول قطرة من دمه[3] قال: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا جاء بهذا الحكم العام بعد ذكر مال هؤلاء المجاهدين.

ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ الاستفهام هنا للتشويق والترغيب من أجل أن تتطلع نفوسهم لمعرفة ذلك هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ ونكر التجارة هنا مما يفيد التعظيم؛ تجارة عظيمة.

وكما سبق في الآية التي مضت في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فهنا سماه تجارة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ وهذه التجارة الحقيقية، التجارة الرابحة مع الله قال: تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ثم قال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ هذه هي التجارة وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ خير لكم من القعود، وخير لكم من متاع الدنيا، وعرضها الزائل.

ثم قال: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يغفر لكم هنا جاءت كما ترون مجزومة، وذلك أنها جواب شرط؛ لأن ما قبله مضمن معنى الشرط، كأنه يقول: إن جاهدتم في سبيل الله بأموالكم، وأنفسكم يغفر لكم، إن تجاهدوا يغفر لكم، فقال: هنا: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وعرفنا معنى الغفر أنه يتضمن الستر والوقاية وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ والجنات جمع جنة، وقيل لها ذلك من معنى الاجتنان؛ لكثرة أشجارها، فمن دخلها؛ سترته بكثرة الأشجار، وقد مضى الكلام على قول النبي ﷺ: إن في الجنة شجرة يسير الراكب تحت ظلها مائة عام لا يقطعها[4] وأن الأرض جميعا بما فيها من الماء واليابسة، كل ذلك لا يساوي شيئا بالنسبة لهذه الشجرة الواحدة، فالجنة مليئة بالأشجار والأنهار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا من تحت أشجارها، ومن تحت قصورها الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مساكن طيبة: طيبة من حيث السعة، واسعة، فالإنسان قد يضيق بسبب ضيق المكان، ضيق المسكن، ضيق المنزل، وطيبة أيضا في مرافقها، ويجد فيها بغيته وحاجته وبهجته، وهي طيبة أيضا باعتبار الجوار، فإنه لا يجد ما ينغص عليه بقاءه فيها، مساكن طيبة، ولا يجد فيها ما ينغص عيشه من التأذي ببعض ما يتأذى به في الدنيا مثلاً، فإن ذلك لا يكون في الآخرة، وهي أيضا طيبة بمعنى أنه لا يفارقها، ولا يزول عنها؛ لأن تذكر الفراق للنعيم واللذات ينغصها كما هو معلوم.

وكما سبق الكلام على هذه القضية، وقول الشاعر:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقير[5]

فإذا تذكر الإنسان أنه سيفارق هذا المكان؛ تكدر عليه عيشه، فهذه ليس فيها هذا التكدير، لا يحول عنها ولا يزول، ثم أيضا لا يحصل له ما يحصل للناس من السآمة، الناس مهما سكنوا من القصور في الدنيا، والدور الواسعة، وما إلى ذلك إلا أنه ما يلبث مدة يسيرة إلا وقد مله وألفه، وما عاد ذلك الرونق الذي كان يراه، ويجذبه في أوله ما عاد يلفت نظره، وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا؛ انظر إلى ما تحت يدك، لا تنظر إلى الآخرين، انظر إلى ما تحت يدك، سيارة جديدة اشتريتها في البداية لها رونق، لها جاذبية، ثم بعد ذلك لا يلفت نظرك منها شيء، انظر إلى لوحة أو زهور أو منظر جميل اشتريته، ووضعته في دارك، في أول ما أتيت به يجذبك، ويأسرك النظر إليه، ثم بعد ذلك كأنه غير موجود في البيت، كأنه غير موجود تمامًا، وهكذا من سكن دارًا جديدةً فإنه في أول الأمر لربما تعجبه وتجذبه، ويأنس بها، ثم بعد ذلك يمل، وما تلفت نظره بعدما كانت تأسره أسرًا، وهكذا في أمور كثيرة كما هو معلوم.

فالدنيا هكذا لو سكنت في أعظم قصور الدنيا نعم في البداية حينما تدخل يكون هناك شيء من الهالة والجاذبية، ثم ما يلبث أن يخفض شيئا فشيئا، ثم بعد ذلك يصبح أمرًا مألوفًا بالنسبة إليك، ثم يتحول إلى شيء مملول، حتى لا نتصور حال الآخرين الذين يسكنون القصور الضخمة جدًا، أو نحو ذلك، تقول: أنا ما جربت هذا، لا، جرب هذا فيما تحت يدك، ولو سألتهم لأخبروك، هذا في كل شيء، الآن مثل هذا المسجد لربما من دخله أول مرة لربما ينجذب إليه، ولربما يعجبه لونه أو سعته، أو نحو ذلك، لكن الذي يأتي في كل يوم لا يلتفت إلى شيء بعد ذلك، لا يلفت نظره شيء، لعلي استطعت أن أقرب المعنى المقصود، كل شيء الحلي، الخاتم، الزينة في أول الأمر ينظر إليها الإنسان، ويرمقها، ساعة جميلة، حلي للمرأة، إلى آخره، إذا نظرت إليه بعد ذلك لا يلفت نظرك إطلاقًا، أما الجنّة فليست كذلك، نعيم متجدد، لا يمل، ولا يطلب الإنسان مفارقته بحال من الأحوال، مساكن طيبة، وهذا من طيبها، فهي طيبة من كل وجه كما أن الله -تبارك وتعالى- يرضى عن أهلها، ومن ثم فإنه لا يحصل لهم شيء من التنغيص والتكدير، ولهذا قال: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وسبق التعليق على هذا المعنى أن الإنسان إذا أقام في مكان ليس كما ينبغي من ناحية رضا صاحبه، فإنه يكون قلقًا مهما كان عنده من المسرات واللذات، يبقى قلقًا، فإذا كان ذلك برضا الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك يطيب به مقامه.

قال: فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي جنات إقامة ذلك الفوز العظيم ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ هذه كما قال الله في الآية التي قبلها هذا الفوز الحقيقي، ما هو الفوز الحقيقي أيها الإخوان في أن الإنسان يحصل زوجة مثلاً ما تلبث أن تتغير وتهرم، وكذلك أيضا أن يحصل مثلاً وظيفة انظروا إلى الإنسان لربما يبحث عن عمل، فإذا وجد العمل انظروا إلى الذين يعملون لربما يمل، ويفكر دائما متى يتقاعد من هذا العمل تقاعدًا مبكرًا، أو ينتقل إلى غيره، وآخرون يتمنونه من أولئك الذين لم يحصلوه، هي الدنيا هكذا، الذي عنده زوجة جميلة، ونحو ذلك هو يتطلع إلى أخرى، كما يقال: ما عليها مستريح، ليست هي دار لذة كاملة، إنما ذلك في الجنة.

قال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ نصر نكرة أيضا؛ نصر عظيم جدًا وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وهذا فيه مشروعية البشارة، أن الإنسان يبشر، وليس دائما فقط ينقل الأمور المؤلمة، أو الأشياء السلبية، أو الأشياء التي يحصل بنقلها -وإن كانت صحيحة- تكدير لنفوس السامعين، إنما لا ينسى جانب التبشير، وفي الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-: وبشرا، ولا تنفرا[6] يبشر الناس أبشروا بفضل من الله أبشروا بثوابه وجنته، أبشروا بالخير، أبشروا بالحياة الطيبة في الدنيا إذا أطعتم الله واستقمتم على شرعه، أبشروا بالنصر، أبشروا بالتمكين إذا أقمتم شريعته وجاهدتم في سبيله، وما إلى ذلك، كل هذا يقال للناس.

هذا، وأسال -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الطبراني في المعج الكبير، برقم (7308)، وصححه السيوطي. انظر: جمع الجوامع، للسيوطي (5/131).


  2. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل، وهو قائم، عالما جالسا، برقم (123)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، برقم (1885).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم (6552).
  5. انظر: الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، للنهرواني (521).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه، برقم (3038)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير، برقم (1733).

مواد ذات صلة