الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
حديث «رأيت الليلة رجلين أتياني..» إلى «من طلب الشهادة صادقًا أعطيها..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد ما جاء عن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: رأيت الليلة رجلين أتياني، فصعدا بي الشجرة، وأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء[1]، رواه البخاري، وهو بعض من حديث طويل، فيه أنواع العلم، وسيأتي في باب تحريم الكذب، إن شاء الله تعالى.

رأيت الليلة رجلين أتياني، فصعدا بي الشجرة يقال: رأيت الليلة، يعني الماضية، وبعض أهل العلم يقول: إن كان ذلك قبل الزوال؛ يقول: رأيت الليلة، وإن قاله بعد الزوال يقول: رأيت البارحة، رأيت الليلة رجلين أتياني، ورؤيا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- حق فهي وحي من الله -تبارك وتعالى- فصعدا به الشجرة، هذه الشجرة لما يذكر النبي ﷺ ما هي، لكن قال: فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، يعني أحسن وأفضل ما يكون من الدور، وذلك معلوم من السياق، وهذه الشجرة لا يمكن -كما سبق- أن نتصور أشجار الدنيا، وإنما كما جاء في الحديث يسير الراكب الجواد المضمر - السريع - في ظلها مائة عام ما يقطعها[2] وسبق الكلام على أن الأرض جميعًا لا تساوي شيئًا أمام تلك الشجرة، فهذه الآن شجرة أخرى، صعد إليها النبي ﷺ وأدخل هذه الدار التي هي أحسن وأفضل ما يتصور، أو يرى من الدور.

يقول: لم أر قط أحسن منها، قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء ما مقدارها ما حجمها؟ الله أعلم، والدار تقال بإطلاق معروف عند العرب، تقال على ما يسمى الآن يمكن بالمدينة، أو يعني مجموع الدور، ولذلك مدينة رسول الله ﷺ يقال لها الدار، فالبنيان الكثير والبيوت والمساكن، وما إلى ذلك هذا كله بمجموعه أيضًا يقال له: الدار، بمعنى أن هذه الدار هل معنى ذلك أنها بيت واحد؟ يقال هذا بيت الشهداء يجتمعون فيه؟

لا، فالجنة أعظم من ذلك.

يقول: فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل لم أر قط أحسن منها، قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء ويمكن أن يكون هذا الذي رآه قصرًا منزلاً، يكون ذلك أنموذجًا لما يكون للشهداء عند الله تبارك وتعالى.

ثم ذكر حديث أنس أن أم الربيع بنت البراء، وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر، فإن كان في الجنة؛ صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ فقال: يا أم حارثة إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى[3]، رواه البخاري.

قوله: بأن أم الربيع بنت البراء، وهي أم حارثة بن سراقة، أم الربيع هذه عمة أنس وهي أخت أنس بن النضر وفيها القصة المعروفة، لما حصل ما حصل كسرت ثنية امرأة، فأرادوا أن يقتصوا، فقال أنس بن النضر : والله لا تكسر ثنيتها، فعفوا، وتجاوزوا عن القصاص، فقال النبي ﷺ حينها: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره[4]، يعني أنس بن النضر -رضي الله عنهم وأرضاهم- فهذه أم الربيع هي أخت لأنس بن النضر، قال: بنت البراء، هكذا ذكر بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: بأن هذا خطأ وقع لبعض الأئمة، ولكنها أخت البراء، وليست بنت البراء، أخت البراء بن النضر، قال: وهي أم حارثة بن سراقة، هذا الذي قتل وكان شابًا، خرج للنضر -كما جاء في بعض الروايات- فقالت يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر، فإن كان في الجنة؛ صبرت، وإن كان غير ذلك؛ اجتهدت عليه في البكاء، فقال: يا أم حارثة إلى آخره.

هنا ما أنكر عليها فيما يتعلق بالبكاء، مع أن النياحة محرمة، فهذا يحتمل أن يكون قبل تحريم النياحة، وقبل أن يبايع النبي ﷺ النساء البيعة المعروفة، ولا يعصينك في معروف، فسره بعضهم بالنياحة، وجاء ذلك صريحًا في بعض الروايات، ويحتمل أن يكون مقصودها ما سوى النياحة، يعني تجتهد في البكاء بما لا يصير إلى النياحة؛ لأن البكاء بمجرده لا يحرم، والنبي ﷺ قال: تدمع العين ويحزن القلب[5]، فلا بأس بالبكاء، ولكن ما لم يصل إلى حد النياحة من رفع الصوت بالصياح، وشق الجيب، ولطم الخد أو خمشه أو نتف الشعر، فهذا كله من النياحة.

فالشاهد: أن النبي ﷺ قال: يا أم حارثة إنها جنان في الجنّة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى[6]، الفردوس أعلى الجنة، وهو وسط الجنّة، وسقفه عرش الرحمن، وكلمة الفردوس بعضهم يقول: إن أصلها أعجمي، وبعضهم يقول: هي بالرومية، وبعضهم يقول: بالسريانية، وبعضهم يقول بغير هذا، وهي عند العرب أيضًا تقال للبستان الذي تنوعت ثماره، يعني فيه ألوان الثمار، وبعضهم يقول: ما كان من العنب، فعلى كل حال الفردوس الذي في أعلى الجنة شيء لا يمكن أن يقادر قدره، فإذا كانت الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فكيف بأعاليها، كيف بالمنازل العالية كالفردوس.

وفي هذا الحديث أن الإنسان يمكن أن يتعزى عن المصائب بأمور منها: أن يتذكر ما له عند الله -تبارك وتعالى- فهذه المرأة سألت النبي ﷺ عن هذا، إن كان في الجنة؛ صبرت، فالإنسان حينما يتذكر أنه يؤجر على المصيبة، وأن هذا الذي يموت له غلام، أو نحو ذلك، أن هذا الصغير يشفع له في الجنة، فإن ذلك يسليه ويعزيه، وفي هذا شهادة أيضًا في الجنة، بل شهادة بالفردوس لابنها حارثة بن سراقة وهذا يضاف إلى المبشرين بالجنة.

ثم ذكر حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال -كما ترون هذه الأحاديث- جيء بأبي إلى النبي ﷺ وقد مثل به، فوضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، فقال النبي ﷺ: ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها[7]، متفق عليه.

هذه الأحاديث الباب طويل في فضل الجهاد، فبعض الأحاديث فيها بيان فضل الشهداء والشهادة، وفي بعضها ما يتصل بالدعاء عند اللقاء، إلى غير ذلك من الأنواع الداخلة تحت هذا الباب الذي عقده المؤلف رحمه الله.

فهنا يبين ما للشهداء، فجابر جيء بأبيه إلى النبي ﷺ وقد مثل به، فوضع بين يديه جابر كان يريد الخروج، كان هذا في يوم أحد، يريد الخروج إلى أحد، فنهاه أبوه، وأراد أبوه أن يكون هو الذي يخرج، كانوا يتنافسون على هذا، على الشهادة وطلب ما عند الله، وذكر أنه يطمع بالشهادة، وجابر كان له أخوات، فبقي من أجل ذلك.

فالشاهد: أنه قتل، ومثلوا به، وشوهوه، يقول: فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، وهذا من أجل أن المشاهد والمناظر التي ينقبض لها القلب، وتضييق من أجلها النفس أن الإنسان لا يعرض نفسه لها، ولا يوجه ناظره إليها؛ لأن ذلك يكون مجلبة للحزن والكآبة، والإنسان ليس من مصلحته بحال من الأحوال أن يستدعي الحزن إلا إن كان ذلك من جراء الخوف من الله -تبارك وتعالى- إما على أمر مضى، كالحزن على المعصية؛ ليتوب، أو كان من قبيل الإشفاق.

فالشاهد: هنا أنه ذهب ليكشف عن وجهه، فنهاه قومه، فقال النبي ﷺ وكأن ذلك تعزية له، وتسلية ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها فإذا استشعر أهل الإيمان هذه المعاني، أن المؤمن قد يتسلط عليه الكفار، وقد يشوهونه، ويقتلونه قتلاً شنيعًا، وذلك لا يحط من قدره عند الله -تبارك وتعالى- فالملائكة تظلله بأجنحتها، وهو مشوه قد مثل به الكفار، وتمكنوا منه، حتى فعلوا به هذه الأفاعيل، ومع ذلك تظله الملائكة، فذلك خير له عند ربه، وأرفع لمرتبته، ودرجته عند الله ومن ثم فإن المؤمن يفقه هذه المعاني، ويدرك أن ما يجري على أهل الإيمان في هذه الحياة الدنيا من أذى، وقتل، وفقر، ومسغبة، ومصائب، وما إلى ذلك ليس ذلك لهوانهم عند الله، بل هو رفعة واصطفاء، فقد يكون الواحد في حال من البؤس، والملائكة تظلله، الناس لربما يحرمه عدوه، ويشفق عليه، والملائكة تظلله، فإذا استشعر أهل الإيمان هذا؛ فإنه لا تلحقهم المخاوف، ولا يقتلهم الحزن، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس [آل عمران: 139-140].

فمثل هذه الأمور الجارية في الحياة الدنيا تقع على المؤمن والكافر، ولكن وقوعها على المؤمن يكون رفعة له، وإعلاء لمنزلته ومرتبته عند الله وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم[8]، أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه[9]، فهؤلاء أصحاب النبي ﷺ خيار الأمة ما سلموا من القتل، ومن التمثيل، والجراح، والفقر، والجوع، فالدنيا ليست هي المعول، وليس ذلك هو المعيار، وإنما العبرة بما عند الله، والعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات.

ثم ذكر حديث سهل بن حنيف أن رسول الله ﷺ قال: من سأل الله تعالى الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه[10].

وحديث أنس بعده: من طلب الشهادة صادقًا؛ أعطيها، ولو لم تصبه[11]، رواه مسلم.

من سأل الله الشهادة بصدق هو بمعنى من طلب الشهادة صادقًا يعني ليس مجرد قول باللسان، وإنما يكون ذلك من صميم قلبه، والإنسان أحيانًا حينما يتعاظم تعلقه بالدنيا، لربما لا يجترئ أن يدعو بهذا، أو يسأل ربه هذا، أو يتمناه، أو يقوله لمن يحب، حينما يلبس ثوبًا جديدًا مثلاً؛ فيدعو له بالدعاء المعروف: أن يلبس جديدًا، وأن يموت شهيدًا، ولربما ينعقد لسانه دونها، ويواريها.

فعلى كل حال، هنا من سأل الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه، وهذا معنى كون نية المؤمن أبلغ من عمله، هذا المعنى صحيح، بحيث إنه يبلغ بالنية ما لا يبلغ بالعمل، ولهذا ذكر النبي ﷺ: إن أقوامًا بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبًا، ولا واديًا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر[12].

فمن طلب هذه المقامات صادقًا فإنه يبلغ هذه المراتب، ويصل بفضل الله ورحمته، ولو مات على فراشه، وهذا من واسع فضل الله -تبارك وتعالى-، وعليه فالشهداء الذين ينالون تلك المنازل أو الذين ينالون منازل الشهداء كثر في الأمة، فكم عدد الذين يقتلون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وكم عدد الذين يسألون الله الشهادة بصدق في الأمة على مر العصور، هم كثير، ومن ثم فإن الذين يبلغون هذه المراتب كثير في أمة محمد ﷺ والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال: هذه سبيلي وهذا سبيلي، برقم (2791).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم (6552).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من أتاه سهم غرب فقتله، برقم (2809).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، برقم (2703)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب إثبات القصاص في الأسنان، وما في معناها، برقم (1675).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، برقم (1302)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته -صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم (2315).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من أتاه سهم غرب فقتله، برقم (2809).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه، برقم (1244)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم- باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر -رضي الله عنهما- برقم (2471).
  8. أخرجه الترمذي في سننه، كتاب أبواب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم (2396)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (1566).
  9. أخرجه الترمذي في سننه، كتاب أبواب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم (2398)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (1562).
  10. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، برقم (1909).
  11. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، برقم (1908).
  12. أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الجهاد، باب من حبسه العذر عن الجهاد، برقم (2765) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3815).

مواد ذات صلة