الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
الحديث عن آيات الباب
مرات الإستماع: 0

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا "باب فضل السماحة في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، وحسن القضاء والتقاضي، وإرجاح المكيال والميزان، والنهي عن التطفيف، وفضل إنظار الموسر المعسر، والوضع عنه".

هنا يقول: "باب فضل السماحة في البيع والشراء"، السماحة فسرت بتفسيرات متعددة، ولعل الذي يقربها أن يقال: إن السماحة هي المساهلة في التعامل، بمعنى أنه لا يكون هناك صعوبة وشدة واستقصاء شديد في طلب الحق أو في التعامل مع الناس والتبايع، وما أشبه ذلك.

وبعضهم يفسره بقريب من هذا كقول بعضهم: هو الموافقة مثلاً مع الطرف الآخر.

وبعضهم يقول غير ذلك من العبارات التي تحوم حول هذا المعنى، "السماحة في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، وحسن القضاء والتقاضي"، حسن القضاء والتقاضي يعني إذا جاء الإنسان يقضي حقًا لغيره، والتقاضي يتقاضى حقًا له عند غيره، يطالب بحقه، "وإرجاح المكيال والميزان" إرجاح المكيال والميزان إذا كنت بائعًا تكيل لغيرك أو تزن؛ أنك توفي هذا الوزن، ولربما تزيد عليه فهذا من المساهلة في البيع والشراء، بخلاف الذي يطفف المكاييل والموازيين: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين:1-2].

والنهي عن التطفيف بمعنى أنه يقلل بطريقة أو بأخرى كما سيأتي من الموزون أو المكيل.

"وفضل إنظار الموسر المعسر، والوضع عنه"، يعني الموسر ينظر المعسر كما قال الله : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280].

ثم صدر هذا الباب كما هي العادة الغالبة ببعض الآيات قال الله تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، فهذه آية عامة تشمل كل خير يصدر من العبد، ومن ذلك هذه الأمور من المساهلة والمسامحة في التعاملات، وإيفاء الكيل والميزان والإنظار للمعسرين، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، وحينما يقول: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، فإن هذا مضمن معنى العدة والجزاء، يعدهم بالثواب فحينما يقول الإنسان لغيره، يقول مدير هذه الجهة أو مدير هذه الشركة لأحد الموظفين: ما تبذله ما تقوم به الأعمال التي تزاولها أياديك البيضاء نحن على علم بها ما معنى هذا؟ كأنه يقول: سنكافئك على ذلك، عملك لا يضيع، هذا معناه، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.

إذن سيجازيكم عليه، إذن سيعطيكم على هذا فلا يضيع عند الله -تبارك وتعالى-، ومن ثم فلا يحتاج الإنسان أن يقول: هؤلاء لا يقدرون الجهد هؤلاء لا يستحقون الإحسان، لا، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، الله هو الذي سيجازيكم على ذلك، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [البقرة : 272] فأنت تقدم لنفسك فالله يعلم هذه الأعمال التي تقدمها سواء كان ذلك من قبيل صلة القرابات والأرحام، أو كان من الإحسان إلى الجيران، أو من الإحسان إلى من تحت يدك من الموظفين، أو العمال والأجراء، أو من مثلك من أقران وزملاء في العمل أو في دراسة، أو نحو ذلك فلا يحتاج الإنسان أن يقول: أنا والله أحسن إليهم، وأنا أعاملهم معاملة راقية، وهم عكس هذا، ولا يقدرون الإحسان وهؤلاء لا يستحقون المعروف لا تقل هذا.

فالنفوس الكريمة النفوس الطيبة مثل المطر ينزل على الأرض المختلفة المتنوعة، والمطر لا ينتظر عائدة من الناس، فكن كذلك، فالله هو الذي يجزي هو الذي يثيب إذا كنت تعمل لله فإذن أنت لا تتأثر بردود فعل الآخرين، فإنما تطلب الجزاء من الله.

ثم قال: قال تعالى: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [هود:85]، هذا قاله شعيب لقومه: أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، كانوا يتطففون المكاييل والموازين وهذه الصفة تدل على دناءة في النفس، يعني هذا الإنسان الذي يتعامل مع الآخرين ثم بعد ذلك مسارقة يقلل حبات حينما يكيل للآخرين، أو إذا كان يستوفي منهم ويكيلون له أو يزنون يزيد سواء كان ذلك بإحراجهم بالإلحاح، أو كان ذلك بطريق لا يشعرون به يزيد على غفلة مثلاً، فمثل هذا كله لا يليق، وهو يدل على هبوط ودنو وسفول في أخلاق الإنسان، فقوم شعيب كانوا يفعلون ذلك فوعظهم وأمرهم ونهاهم أمرهم بعبادة الله وحده، وأمرهم بإيفاء المكاييل والموازيين بالقسط، يعني بالعدل، ومثل هذه الأمور يعني ما يتعلق بالمكيال والميزان هذه قضية تتعلق بها معايش الناس الأساسية، يعني لربما نسمع عن ثورات الخبز في العالم، حصلت عبر العقود الماضية عدة ثورات يقال لها: ثورة الخبز، هذه متى تحصل؟

حينما الناس يلمسهم الضر في معايشهم وأقواتهم الأساسية، ما هي الأقوات الأساسية؟

هي الأشياء التي تتعلق بالكيل والوزن، ولذلك تجد أن الربا يتعلق بمثل هذه الأمور مكيل أو موزون ومطعوم عند بعض أهل العلم، الطعام زائد الكيل أو الوزن.

وبعضهم لا يذكر الطعم فيكون بين المعادن الحديد بالحديد وما أشبه ذلك.

فالمقصود أن مثل هذه المكيلات والموزونات وهي التي يعني أيضًا مع الطعم تجب فيها الزكاة، هذه تتعلق فيها معايش الناس القوت الأساسي الذي إذا حصل التلاعب به عندئذ يمس الناس الضر، المس المباشر الذي يشعرون به مباشرة، ولذلك الشارع احتاط لمثل هذه القضايا، وشدد فيها من أجل أن تبقى مصالح الناس الأساسية محفوظة، يبقى اقتصادهم في معايشهم مصونًا من تلاعب المتلاعبين، ثم إن هذا الإنسان الذي يطفف ويبخس الناس أشياءهم في البيع والشراء ونحو ذلك هو في الواقع قصر نظره؛ لأن الناس حينما يشعرون أن هذا يتلاعب حتى في المحاسبة الذي لربما على غفلة من المشتري قيمة هذا اثنا عشر ريال ونصف فيحطه ثلاثة عشر مثلاً الناس قد يمررون هذا؛ لكن يشعرون أن هذا الرجل يستغفلهم، ومن ثم فإن هؤلاء قد لا يرجعون إليه مرة ثانية، فهذا الذي يحاول أن يدلس على الناس أو يلبس عليهم هو يظن أنه يربح من هذا نصف ومن هذا نصف إلى آخره لكن في الواقع أنه يخسر؛ لأن هؤلاء لن يعودوا إليه ثانية، لكن الأمين الذي يتعامل مع الناس بأمانة وسماحة في مثل هذه القضايا وغيرها الناس يتعلقون به، ويثقون به، ويحبون الرجوع إليه بل يشترون منه أكثر مما عزموا على شرائه كما هو مشاهد تعامل مع إنسان طيب، إنسان سمح، إنسان لطيف، فيزن له يقول: وهذه زيادة قد يكسب قلوب الناس بهذه الأمور البسيطة، الأمور اليسيرة، يبيع له أشياء من الفواكه أو نحو ذلك، ثم إذا باع له قال له: القيمة كذا وهذه أيضًا زيادة عليها مني، الناس يطمئنون ويستريحون، يصير كلما جاء إلى السوق يترك هؤلاء الباعة جميعًا ويذهب إلى هذا، وإذا ذكر السوق أو البيع أو الشراء أو نحو ذلك في مجلس، أو نحو ذلك يعملون له دعاية مجانية، اذهب إلى فلان، تجد الرجل الجزار مثلاً عنده حذق أحيانًا بلحظات قبل أن تتكلم، وإذا هو يجعلك أمام الأمر الواقع وضع لك مجموعة من العصب والعظام والشحوم والأشياء أنا لا أريد هذا انتظر أحدد لك ما أريد بلحظات خاطفة، وبطريقة يعني دون أن تشعر إلا وقد وضعك أمام الأمر الواقع، وقال لك: اتفضل طلبت أربعة كيلوات أو نحو ذلك اتفضل هذه هي، انتظر لكن لو يجي الناس يتعاملون مع إنسان، ويقول له: نعم من أي اللحم تريد؟ ما صفة اللحم الذي تريد؟ هذا كذا، وهذا كذا، وهذا كذا، وهذا قبل ثلاثة أيام، وهذا اليوم، وهذا من أمس في الثلاجة، وهذه القطعة من الأسبوع الماضي، ونحو ذلك، هذا من البلد، وهذا من خارج البلد، وهذا مجمد، وهذا مستورد، هذا كذا، وهذا له سعر، وهذا له سعر كل شيء، وأمامك، خلاص لا يحتاج الإنسان أنه يشعر دائمًا بقلق وأنه أمام أناس يخدعون ويغشون وأنه يخرج وهو مغبون ولا يدري ماذا حمل معه في هذا الكيس هل هو داء أو أنه غذاء.

فكل هذه الأمور تجعل الناس يطمئنون في تعاملهم، يثقون حتى لو زاد في السعر لربما يعطيه أشياء لا تصلح لأكل الآدمي يتصل عليه بالهاتف، ويقول: أريد تصلح لي مثلاً عشرة كيلو من الأسماك، طيب حاضر ويعطيه أسماك مجمدة ولها شهور وقد ذبلت، واشتراها بأرخص الأثمان من السوق، ثم يحسبها عليه بأعلى الأثمان، إذا أكلها وجدها لا تصلح للأكل، فلو أنه قال له: عندي كذا، وعندي كذا، وكل شيء له ثمن، اختر ما تريد، أنا أتعامل معك بأمانة الناس يطمئنون، وتسمع الناس يتحدثون عن هذه المهن البسيطة، يقول لك: اذهب إلى فلان أمين صادق تطمئن إليه، قد يكون عمله من هذه الأعمال جزار، أو بائع للخضار والفواكه، ونحو ذلك.

قال: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، لا تبخسوهم أشياءهم مما يتعلق بالأموال، ويدخل في عمومه أيضًا المعنى الأعم لا تبخسوا الناس أشياءهم في الأوصاف والأحكام، قد تقول لفلان: فلان ما عنده علم، فلان طالب علم، فلان قد يكون من أهل العلم، من العلماء لكن؛ لأنه أخطأ في مسألة، أو لأن فلان لا يحبه، أو نحو ذلك، فلان ما عنده علم حينما غضب، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ حتى لو كنت لا تحبه لا يجوز لك هذا، تقول: فلان لا يصلح لشيء؛ لأنك بينك وبينه مشكلة، لا يجوز هذا، هذا رجل مبدع في جوانب، هذا رجل جيد، هذا رجل ذكي، هذا رجل عاقل، هذا رجل ماهر في صنعة، أو غير ذلك، فحينما تأتي تبخس الناس أشياءهم فهذا لا يجوز، نحن أمرنا بالعدل، أن نعدل مع الناس فلا يصح أن الإنسان إذا رضي قال كلامًا، وإذا غضب قال كلامًا آخر، نبالغ حينما نرضى عن الآخرين فنضفي عليهم أوصاف أكثر مما يستحقون، هذا غلط، وإذا غضبنا عليهم جعلناهم في الحضيض، فهذا أيضًا لا يجوز، فهذا من بخس الناس أشياءهم.

وقال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ۝ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ۝ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6]، هذه من أوائل ما نزل في المدينة، جاء النبي ﷺ إلى المدينة وكان أهل المدينة من أسوأ الناس كيلاً ووزنًا[1]، إذا جاء يكيل للآخرين يطفف، وهذا التطفيف تارة بتقليل ذلك خِلسة، أو لربما يتلاعب بالميزان، لربما يضع له شيئًا يثقله من أسفل لا يراه المشتري، ويقول له انظر هذه تساوي كيلو مثلاً، أنا أضعها أمامك، والواقع أنه وضع شيئًا تحته كما هي طرق الاحتيال الكثيرة في العبث بهذه الأشياء، يزن له قطعة من العود مثلاً بخور، ولكنه في داخلها رصاص يصبه بطريقة من منفذ صغير ثم يجتمع في داخلها ويثقلها ثم يقول: هذه وزنها كذا، فهذا كله من العبث بالمكاييل والموازيين، ولربما تجد العلبة للفاكهة أو الصندوق أو نحو ذلك كبيرًا وتظن أن تحته ثلاث طبقات أو نحو هذا وإذا وصلت إلى البيت تجد طبقة واحدة، والذي تحته أوراق فلين أشياء ترفعه ثم يغتر الإنسان، ولو قيل له بنصف الثمن ما شراه، فهذا يدخل في هذا الباب وإن لم يكن موزونًا أو مكيلاً، فالله يتوعد هنا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، يعني نسأل الله العافية يكيل بمكيالين كما يقال، إذا كان الحق له أراد الزيادة، وإذا كان الحق عليه فإنه يقلل من ذلك، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ۝ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

فإذا علم الإنسان أنه سيبعث سيحاسب على هذه الحبات فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، صار يقول: هذه الحبة أنا لا أريدها، هذا الذي تساقط من الميزان لك، اجمعه، ويضعه في كفته، يقول: هذه الفاكهة التي سقطت لك خذها لا يدخل عليّ شيء لا يحل؛ لأنه يعرف أنه سيحاسب إذا كان الوزن بمثاقيل الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، إذن حبة البر أو حبة الرز أو حبة العدس أو الفول أو نحو ذلك كم تساوي من ذرة؟!

فيعرف أنه سيحاسب عليها، سيجازى، سيعذب، هذه حقوق الآخرين.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب التجارات، باب التوقي في الكيل والوزن، برقم (2223)، وأحمد في المسند، برقم (8552)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (1760).

مواد ذات صلة