الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
من أخبار السلف في باب الكذب
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما جاء من الآثار عن السلف ما جاء:

عن مطرف بن عبد الله -رحمه الله- قال: "ما يسرني أني كذبت كذبة، وأن لي الدنيا وما فيها"[1].

وجاء عن أبي العالية أنه قال: "أنتم أكثر صلاة وصيامًا ممن كان قبلكم -يعني من الصحابة ولكن الكذب قد جرى على ألسنتكم"[2].

وكان شعبة بن الحجاج الإمام المعروف يقول: "خذوا عن أهل الشرف، فإنهم لا يكذبون"[3]، خذوا عن أهل الشرف، يعني: العلم والحديث، فإنهم لا يكذبون، وهذا يرجع إلى ما سبق في أول الحديث عن الكذب، وأن ذلك لضعف النفس ومهانتها، فهذا الذي يوقع الإنسان في مثل ذلك.

وجاء عن نعيم بن حماد أنه قال لعبد الرحمن بن مهدي: كيف تعرف الكذاب؟ قال: كما يعرف الطبيب المجنون[4]، بمعنى: أن ذلك لا يخفى عليه لفراسته وخبرته، وهذا أمر يدركه من فتح الله بصيرته، فالكذاب يعرف تارة من هيئته، وتارة من لحن القول، وتارة يعرف الكذاب بمجرد لفظه، يعني: حتى حينما يبتدئ الكلام، ففي أول كلامه يعرف الصادق من الكاذب.

وهذا الغازي بن قيس الأندلسي المقرئ، كان يقول: "ما كذبتُ منذ احتلمت"[5].

وقال: "والله ما كذبت كذبة قط منذ اغتسلت -يعني: منذ احتلمت- ولولا أن عمر بن عبد العزيز قاله ما قلته"[6]، يعني: هو لا يريد أن يزكي نفسه، لكن يقول لي سلف بعمر بن عبد العزيز حينما قال عن نفسه ذلك، ولا بأس أن يقول الإنسان هذا، إذا أمن على نفسه الرياء، فيذكر عملاً أو حالاً، أو نحو ذلك، إذا أمن على نفسه، فإذا خاف فلا شك أن النية شرود، وأن الإنسان عليه أن يصححها، وأن يجاهد نفسه، فلا يوقع نفسه في أمر يصعب عليه الخروج منه، فتتغير عليه نيته.

وهذا عبد الله بن داود يقول: "ما كذبتُ قط إلا مرة واحدة، قال لي أبي: قرأتَ على المعلم؟ قلت: نعم، وما كنتُ قرأتُ عليه"[7]، يعني: أنه كذب في الصغر.

وقال منصور بن إسماعيل:

لي حيلة فيمن ينم وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه طويلة[8]

يعني: النمام يمكن أن يقول له الإنسان: ما الذي حملك على هذا؟ هذا لا يجوز، وما أشبه ذلك، فيبادر إلى الاعتذار، أو التوبة، لكن هذا الإنسان إذا كان يكذب، إذا قيل له: لماذا قلت كذا؟ قال: والله ما قلت، ما حصل هذا اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المجادلة:16] فهو حينما يوجه إليه تهمة، فيقال: قلت: كذا، وفعلت كذا، يبادر بالحلف، فيحلف كاذبًا، ولا يبالي، فمثل هذا لا حيلة فيه.

وفيما يتصل في المعاريض سبق الكلام على أن في المعاريض مندوحة عن الكذب، وأن الإنسان لا يكذب، ومضى الكلام في الحالات التي يجوز فيها الكذب، وما عدا ذلك فينبغي للإنسان أن يُعرِّض إذا اضطر، ولكنه لا يكذب،

وهذا إبراهيم النخعي كان إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه، خرجت الجارية، فقالت: اطلبوه في المسجد[9]، فيفهم من جاءه أنه غير موجود، ولكنه موجود، فما كذبوا، فما قالوا له: فلان غير موجود، ولكن قالوا: اطلبوه في المسجد.

وأيضًا جاء عنه أنه قال: أتى رجل فقال: إني ذكرتُ رجلاً بشيء، فبلغه عني، فكيف أعتذر إليه؟ قال: تقول: والله إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء[10].

طبعًا إبراهيم النخعي -رحمه الله- علّم هذا الرجل كيف يعتذر هذا الاعتذار، والأحسن من هذا أن يتوب، وأن يذهب إليه، ويقول: نعم أنا أخطأت في حقك، وأنا أعتذر، وسأذهب إلى هذا الذي قلت عنده، ولا أذكرك إلا بخير، لا أن يبقى على هذا.

فهنا يذكر له طريقة من باب التعريض والتورية، يتنصل فيها مما قيل في حقه، أو مما بلغه عنه، من أنه تكلم في عرضه، يقول: تقول: والله إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء، فـ(ما) هنا يحتمل أن تكون موصولة، يكون المعنى هكذا: والله إن الله ليعلم الذي قلت من ذلك من شيء، يعني الله يعلم الذي قلته.

وتحتمل: أن تكون نافية، والمعنى: والله إن الله ليعلم ما قلت، يعني: أني لم أقل من ذلك من شيء، لكن مثل هذا لا يحسن، وذكرتها قصدًا، مع أني أترك أشياء من هذا؛ لأن هذه القضية تتعلق بأمرين:

الأمر الأول: هنا حلف، واليمين في الأصل أنها تكون بحسب المحلوف له، وبحسب ما يصدقه من حلف له، وإلا فما قيمة اليمين؟

الأمر الثاني: أنه هنا جاء بعبارة، وهي: إن الله ليعلم ما قلت؛ ليعلم إضافة الشيء إلى علم الله ، وهذا ينبغي أن يتوقف الإنسان عنده طويلاً، ولا يجترئ عليه، وإن كانت العبارة تحتمل، وهو يقصد معنى آخر، لكن هذا في مقام أيضًا يمين، فبعض الناس يتساهل، ويقول: يعلم الله أني أحبك، ويعلم الله أني لا أقول فيك إلا خيرًا، ويعلم الله أني لا أذكرك إلا بخير، ويعلم الله إني كنت أريد أن أصنع كذا، وقد لا يكون، والإنسان غالبًا إذا احتاج إلى الاعتذار وقع في شيء من الكذب، أو ما يشبهه، فحينما يقول الإنسان: علم الله، أو يعلم الله، ولا يكون كذلك، فإنه يكون قد كذب على الله ؛ لأن ذلك لم يقع، فما علم الله منه ذلك، وما علم الله منه أنه يحبه، وما علم الله منه أنه يريد أن يفعل كذا، وما علم الله منه أنه كان يقصد كذا، فأضاف ذلك إلى الله، فكان كاذبًا عليه، فهنا إشكال آخر، فالإنسان لا يتساهل في مثل هذه الأمور، ولا يضيف إلى علم الله شيئًا ليس الأمر على ما قال، ولا يكون فيه الأمر على ما قال، وإنما لا يقول ذلك إلا في الأمور التي يعلم أنها واقعة فعلاً، يقول: يعلم الله أني كنتُ أريد أن آتي، أو أني أتيتك، وطرقت الباب، ولكني لم أجدك، في أمر كالشمس، لكن في أمور قد لا تكون كذلك، لا يضيف إلى علم الله شيئًا لا يكون الأمر فيه كما قال، فيكون كاذبًا على ربه، وليس كاذبًا فقط على المخلوق، بل أضاف شيء إلى علم الله، وليس ذلك في علم الله كما قال هو.

وكان جرير بن حازم -رحمه الله- يحدث، فإذا جاء إنسان لا يشتهي أن يحدثه -يعني الحديث لسبب أو لآخر إما لأنه يرى أنه ليس بأهل لتحمل العلم، أو نحو ذلك- ضرب بيده إلى ضرسه، وقال: أوه[11] ، ولم يقل: ضرسي يؤلمني، فالسامع، أو هذا الإنسان الذي جاء ليحدثه إذا رأى هذا المشهد، ظن أنه يتألم من ضرسه، وأنه متعب، وأنه مريض، فلا يطالبه بأن يحدثه، فيستريح، فيكون هذا اعتذار بطريقة لطيفة.

واستأذن رجل على أبي الوليد الطيالسي، فوضع رأسه على الوسادة، ثم قال للخادم: قولي له: الساعة وضع رأسه[12]، وضع رأسه ماذا يفهم؟ أنه نام، فهذا بدلاً من أن يكذب ويقول: روحي قولي له: غير موجود، أو يقول لولده: قل له غير موجود، فيخرج الولد، فيقول: بابا يقول لك: أنا غير موجود، فمثل هذا كذب، وتربية على الكذب، وأمر بالكذب، فيكون قد كذب، وحمل غيره على الكذب، فيشترك أكثر من واحد في معصية الله .

وكان أحمد بن حنبل -رحمه الله- في منزله، ومعه المروذي ومهنا، فدق داق الباب، وقال: المروذي ها هنا، فالمروذي كره أن يعلم موضعه، فما يريد أن يقال: نعم موجود هنا عند الإمام أحمد -رحمه الله- تلك الساعة، فوضع مهنا أصبعه في راحته، وقال: ليس المروذي ها هنا، وما يصنع المروذي ها هنا؟ فضحك الإمام أحمد، ولم ينكر[13].

لكن أذكر بأمر كنتُ ذكرته في أول الباب تعليقًا على الأحاديث في مسألة الكذب والمعاريض: أن الإنسان لا يكثر من هذه المعاريض حتى لا يعرف له جادة في الكلام، ومن ثم لا يصدقه الناس، وإنما يكون هذا في حالات الضرورة، فإذا اضطر فنقول له: لا تكذب، فيقول: هذا قد يسبب قطيعة، وقد يسبب غضب الوالد مثلاً، أو الوالدة في أمر، لا أريد أن أفعله؛ لأنه معصية، أو نحو ذلك، ولا أريد أن أواجههم في هذا، فنقول له: عرِّض تعريضًا، أو في مواقف محرجة، لا يستطيع الإنسان أن يقول: لا، فبدلاً من أن يكذب، يذكر مثل هذه المعاريض، هل رأيت فلانًا؟ فيقول: ما رأيته، يعني: ما ضربته على رئته، ونحو ذلك، فهذا لا إشكال فيه للضرورة، أما أن يعرف الإنسان بهذا، فصير كل كلامه معاريض، فهذا في النهاية سيكون كذابًا، لا يصدق في شيء.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. تاريخ دمشق لابن عساكر (58/312) وتاريخ الإسلام ت بشار (2/1173) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/195).
  2. تاريخ الإسلام ت بشار (2/1204) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/210).
  3. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/217).
  4. تاريخ الإسلام ت بشار (4/1155) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/197).
  5. تاريخ الإسلام ت بشار (4/1179) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/323).
  6. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/323).
  7. تاريخ دمشق لابن عساكر (28/28) وتاريخ الإسلام ت بشار (5/339) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (9/349).
  8. البداية والنهاية ط إحياء التراث (11/331) وتاريخ دمشق لابن عساكر (72/146) وتاريخ الإسلام ت بشار (7/110) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (14/238).
  9. تاريخ الإسلام ت بشار (2/1054) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/529).
  10. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/529).
  11. تهذيب الكمال في أسماء الرجال (4/529) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/100).
  12. تهذيب الكمال في أسماء الرجال (30/231) وتاريخ الإسلام ت بشار (5/719) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (10/345).
  13. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/319).

مواد ذات صلة