الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
الحديث عن آيات الباب، وحديث «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا "باب بيان غلظ تحريم شهادة الزور" وهذا الباب له تعلق بما قبله من الأبواب المتصلة بتحريم الكذب، والحث على التثبت فيما يقوله ويحكيه؛ ولما كانت شهادة الزور أعظم ضررًا، وأشد فتكًا وأثر، كان فيها هذا التغليظ الذي ورد عن الشارع؛ وذلك أن الشريعة جاءت بالعمل بالظواهر؛ لأن الناس لا يطلعون على القلوب، ومكنونات الصدور، وإنما يطلع على ذلك الله -تبارك وتعالى-، وإنما هو البينة، أو الشهود، فإذا جاء من يشهدون على شيء، وأقاموا الشهادة بصفتها الشرعية، فإنه يعمل بمقتضى ذلك، وقد تكون هذه الشهادة غير صادقة، فيحصل بسبب ذلك من ذهاب النفوس والعدوان على الدماء والأموال والأعراض، إلى غير ذلك مما لا يخفى.

قال الله تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] الزور هو الكذب، واجتناب قول الزور يدخل فيه جميع أنواع الكذب، ويدخل فيه دخولاً أوليًا أشد هذه الأنواع، وهو شهادة الزور، ثم إن الأمر بالاجتناب أبلغ من النهي عن المواقعة والملابسة، فحينما يقول: لا تشهدوا الزور، أو لا تقعوا في الزور، أو لا تقولوا زورًا، أو نحو ذلك، فإن هذا نهي عن الزور بذاته، وحينما يقول: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ فالأمر باجتنابه أبلغ؛ لأن ذلك أمر باجتناب كل ما يوصل إليه؛ ولهذا يقول الله : وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ [الأنعام:151] فالنهي عن قربانها أبلغ من النهي عن مواقعتها؛ لأن ذلك نهي عنها، ونهي عن الأسباب الموصلة إليها من النظر وخضوع المرأة بالقول والاختلاط، وما أشبه ذلك من الأمور التي من شأنها أن توقع في الفاحشة.

وقال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] وقد مضى الكلام عن هذا في مناسبات عدة، ويدخل في ذلك شهادة الزور، وقول الزور؛ لأنه اتباع لما لا يعلم حقّيته وصحته، وقال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] فيدخل في ذلك شهادة الزور، وقول الزور.

وقال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد [الفجر:14] وهذا قد مضى الكلام عليه في "باب المراقبة" فإذا استشعر العبد ذلك، فإنه لا يجترئ على معصيته، ولا يشهد زورًا، ولا يقول فجورًا.

وقال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] أيضًا قد مضى الكلام على هذا في بعض المناسبات، وأنه يدخل فيه شهادة الزور المعروفة لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ويدخل فيه ما قاله بعض السلف أيضًا من أنهم لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ الشهود بمعنى: الحضور، يعني: لا يحضرون الزور، فالمجالس التي فيها الباطل، والمجالس التي يعصى فيها الله -تبارك وتعالى-، أو يستهزأ فيها بكلامه، ودينه، وشرعه، ورسوله ﷺ، وعباده المؤمنين، كل ذلك من مجالس الزور، التي ينبغي للمؤمن أن لا يشهدها، وأن لا يحضرها بحال من الأحوال، ويدخل في ذلك أعياد المشركين، كما ذكره بعض السلف لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ فتلك الأعياد أعياد شركية، تعظم فيها شعائرهم الشركية، فلا يحضرها، ولا يقرهم عليها، ولا يشاركهم بأي نوع من المشاركة، لا بالتهنئة، ولا بتقديم هدية، ولا بالحضور للفرجة، ففي ذلك تكثير لسوادهم من جهة، وفيه أيضًا نوع إعجاب بتلك المزاولات التي تقوم على ضلالات وخرافات، ولو أن هؤلاء الذين يعجبون بهم، ويعظمونهم لو اطلعوا عليها لعلموا أن دين النصارى وصمة عار في جبين البشرية، وأن الخرافات الموجودة عند طوائف الأمة من أهل القبلة لو جمعت لم تكن شيئًا مذكورًا بالنسبة للضلالات، والخرافات، والدجل، والمضحكات المبكيات الموجودة في دين النصارى، يكفي أنه إذا ذكر الضلال توجه أول ما يتوجه إلى النصارى، فكيف تكون الأمة التي جعلها الله خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] الأمة المهتدية إلى الصراط المستقيم، التي اجتباها الله وحباها؟ كيف تكون تابعة للضالين، ولمن كان الضلال شعارًا عليهم، إذا ذكر ذكروا معه؟ فكيف هؤلاء يقودون الناس؟ وكيف يكون هؤلاء أئمة يقتدى بهم؟ لكنها لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] تعمى البصائر، فيزين للإنسان تلك القبائح.

فالشاهد: أن المعنيين داخلين فيه شهادة الزور، بالمعنى المعروف، وكذلك حضور كل مجلس يعصى الله فيه، وكذلك ما يتعلق بأعياد المشركين.

ثم ذكر حديث أبي بكرة، وهو الحديث الوحيد في هذا الباب، قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئًا، فجلس، فقال: ألا وقول الزور فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت"[1]، متفق عليه.

وقد مضى الكلام على هذا الحديث في مناسبة سابقة، تتصل ببر الوالدين، وتحريم العقوق.

قوله ﷺ: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ألا) هذه تدل على التنبيه، وفي ذلك تشويف للأسماع من أجل أن تتطلع لما يقال.

ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ أنبئكم، يعني: أخبركم، لكن لفظ (النبأ) أخص من الخبر؛ إذ إنه في الأمور ذات الأهمية، أما الخبر فيكون لما له أهمية، ولما ليس له أهمية، فيقال مثلاً: عندي خبر من أنك ذهبت إلى السوق، وعندي خبر أنك كنت نائمًا في عصر هذا اليوم، أو ما شابه ذلك، فالخبر لا شأن له، لكن لا تقول: عندي نبأ أنك ذهبت إلى السوق، لكن تقول: جاء نبأ الحرب، وجاء نبأ الأمير، وجاء نبأ الجيوش؛ فالنبأ للأمور ذات الأهمية، ما يقال: جاءنا نبأ عن حمار الحجام، فحمار الحجام لا شأن له.

فهنا: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ فالمعاصي على درجات متفاوتة، كما أن الطاعات على رتب ودرجات، فالمعاصي منها ما هو كبائر، والكبائر تتفاوت أيضًا، فهذه أكبر الكبائر، عندنا من الكبائر السبع الموبقات[2]، يعني: المهلكات، وهناك كبائر دونها، وهناك صغائر، وهناك ما هو من قبيل اللمم، وهناك مشتبهات.

قال: "قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله" وهذا أعظم ما عصي الله -تبارك وتعالى- به، وهو الذنب الذي لا يُغفر.

قال: وعقوق الوالدين لأن حقهما بعد حق الله ، وهما سبب وجود الإنسان في هذه الحياة بعد الله -تبارك وتعالى-.

قال: "وكان متكئًا فجلس، فقال" هذا يدل على أنه قد اهتم ﷺ لما سيذكره بعده، فغير هيئته في الجلوس.

"فقال: ألا وقول الزور فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت" يعني: شق عليهم هذا التكرار من النبي ﷺ، يؤكدها، ويعيدها مرة بعد مرة، حتى أكثر عليهم -عليه الصلاة والسلام- ألا وقول الزور ويدخل في ذلك بلا شك شهادة الزور، فمثل هذا ينبغي للإنسان أن يتجنبه، ويدخل في عموم هذا إذا قلنا: بأن الزور يدخل فيه المعاصي، وكل قول باطل، وما إلى ذلك، فيدخل فيه جميع أنواع المحرمات القولية من كذب، وغيبة، ونميمة، وسب، وشتم، وبهتان، وقذف للأعراض، وما إلى ذلك، هذا كله داخل في الزور، وشهادة الزور تدخل فيه دخولاً مؤكدًا، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور برقم (2654) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (87).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} برقم (2766) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (89).

مواد ذات صلة