الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار..»، «من فجع هذه بولدها..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان، حتى النملة، ونحوها.

التعذيب بالنار كذلك الإنسان أيضًا، وذلك لما سيأتي من قول النبي ﷺ: لا يعذب بالنار إلا رب النار[1] فدل ذلك على التحريم، وبعض أهل العلم علل كراهة الكي؛ لأنه تعذيب بالنار، مع ما فيه من المصلحة، وما تدعو إليه من الحاجة.

ذكر المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة قال: بعثنا رسول الله ﷺ في بعث، يعني البعث بمعنى الجيش، فقال: إن وجدتم فلانًا وفلانًا -لرجلين من قريش سماهما- فأحرقوهما بالنار، ثم قال رسول الله ﷺ حين أردنا الخروج: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموها فاقتلوهما[2] رواه البخاري.

قوله ﷺ في أول الأمر: إن وجدتم فلانًا وفلانًا فأحرقوهما بالنار إن كان النبي ﷺ قاله؛ لأنه لم ينزل عليه فيه شيء، يعني لم يوح إليه بذلك شيء فيكون ما بعده تشريع جديد، وليس بنسخ، يعني إن كان ذلك صدر من النبي ﷺ باجتهاد منه، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف، هل يحصل الاجتهاد من النبي ﷺ أو لا؟

لكن على كل من القولين فإن الوحي يصوبه، يعني لو حصل منه اجتهاد في أمور كهذه، في تعاملات، وقضايا مثل التعامل مع أسارى بدر من المشركين، هل يقتلون، أو يفدون، أو يمن عليهم، أو يسترقون، أو ماذا يفعل بهم؟

فشاور النبي ﷺ أبا بكر، وعمر في القصة المعروفة، ثم أخذ منهم النبي ﷺ الفداء، ثم نزل عليه قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وقال: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ.

فدل ذلك على أنه لم ينزل عليه شيء قبله، فاجتهد فيه النبي ﷺ بمثل هذه الأمور في التعامل مع بعض القضايا، فمن أهل العلم من قال: إنه يحصل منه الاجتهاد -عليه الصلاة والسلام- لكن الوحي يأتي مقررًا له، أو مبينًا للصواب في ذلك، وهذا لا إشكال فيه، ولا يخالف قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.

فهذا القرآن الذي ينزل عليه، وما يأتيه من ربه، وما يبلغ به عن الله، هذا وحي، لكن هل يقع منه اجتهاد فيما وراء ذلك، في التعامل مع بعض الأشياء فيما لم ينزل عليه شيء فيه من الله -تبارك وتعالى- فيه كلام لأهل العلم معروف، لكن النتيجة أن الوحي ينزل مقررًا له على هذا الاجتهاد، فيكون موافقًا، أو يكون مصوبًا.

فهنا إن كان ذلك فيما لم ينزل عليه فيه شيء فلا يكون من قبيل النسخ، وإنما هو حكم جديد، وإن كان ذلك قد أوحي إليه فيه أنه لا بأس في أول الأمر، ثم بعد ذلك نهاهم عنه، جاءه، وحي بالنهي عن هذا لا يعذب بالنار إلا رب النار[3] فصار محرمًا، فيكون من قبيل النسخ، لكن هذا المثال مما يسمونه النسخ قبل التمكن من الامتثال، يكون مثالاً صالحًا له؛ لأن العلماء عادة يمثلون على النسخ قبل تمكن المكلف بذبح إبراهيم لولده، امتثل ولكن ذلك رُفع قبل أن يذبحه فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ.

فهنا الله -تبارك وتعالى- رفع عنه ذلك، وهناك نسخ قبل ورود الحكم، وبلوغ الحكم للمكلفين، كنسخ خمسين سنة إلى خمس، والنبي ﷺ في السماء، فهذا نوع، وهذا نوع، لكن قد يقول قائل: إذا كان لا يعذب بالنار إلا رب النار فإن ذلك لا يكون جائزًا في أول الأمر، فدل على أن النبي ﷺ اجتهد فيه، فبين الله له هذا بوحي منه، فلا يكون الأول من قبيل النسخ، والله أعلم.

ثم قال النبي ﷺ: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا، وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما[4] رواه البخاري، هذا عام لا يعذب بالنار إلا رب النار[5] ولهذا علي لما جاءه أولئك السبئية، وقالوا: أنت هو؟ قال: من؟ قالوا: الله، فقال ما قال، حفر لهم الخندق، وقال:

لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا أججت نارًا ودعوت قنبرًا[6]

وقنبر هو مولى لعلي فأخذهم، وأمر بإلقائهم في النار، فكانوا يتساقطون فيها، نسأل الله العافية، انظر إلى الفتنة، ويقولون: علمنا أنك هو، فلما سئلوا عن هذا قالوا: لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، فأنت ربنا[7] نسأل الله العافية، ونعوذ بالله من الفتن.

فهنا نهاهم النبي ﷺ دل ذلك على أنه لا يصح، حتى في حالات القتل للحيوان، يعني بعض الناس يسأل، يقول: الآن يضع مصيدة، فيصيد فيها -أعزكم الله- الفأر، يقول: هو في المصيدة، لا يستطيع إخراجه، فهل أحرق هذا الفأر بالنار حتى يموت، أضعه في نار، نقول: لا؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، لكن يمكن أن تغرقه، بهذا القفص، أو المصيدة، فيموت غرقًا، لكنه لا يموت حرقًا.

وكذلك أيضًا في سائر الصور، ومن أهل العلم من استثنى القصاص مع أن الحديث عام؛ لأن القصاص على الأرجح لا يجوز بشيء محرم، فهنا إذا كان لا يعذب بالنار إلا رب النار فلا يجوز، يعني لو أنه حرق إنسانًا، صب عليه بنزين، وأحرقه، فالقصاص هنا هل يجوز أن يكون بالتحريق، فيكون قد عاقب بمثل ما عوقب به؟

النووي -رحمه الله- يقول: نعم[8] وهو مذهب لبعض أهل العلم، والراجح أن ذلك لا يجوز؛ لعموم الحديث، فليس فيه استثناء؛ لأن ذلك يختص بالله -تبارك وتعالى- كما لا يصح القصاص لو أنه مثلاً أعطاه مخدرات، أو خمرًا، أو شيئًا من هذا القبيل، وقتله به، فإنه لا يجوز أن يعطى الخمر، أو هذه المخدرات حتى يموت، أو أعطاه إبرة من هذه المخدرات القاتلة، فمات، فلا يجوز أن يفعل به ذلك، كما لو أنه فجر بطفلة، وماتت، فلا يجوز أن يفجر به حتى يموت، وهكذا.

فالشاهد هنا: قال: فإن وجدتموهما فاقتلوهما.

وعن ابن مسعود كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، حمرة هذه طائر بحجم العصفور تقريبًا، معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تعرش، يعني ترفرف بجناحيها قريبًا من عشها، تبحث عن فراخها، فجعلت تعرش، فجاء النبي ﷺ فقال: من فجع هذه بولدها يعني بفراخها، والولد هنا مفرد مضاف إلى المعرفة الهاء، فيعم، يعني من فجعها بأولادها، ردوا ولدها إليها، وهذا للوجوب، فدل ذلك على أنه أيضًا لا يجوز، حتى في بيع المماليك لا يجوز أن يفرق بين والدة وولدها، يبيع الأم لواحد، ويبيع الولد لواحد ثاني، فهذا معنى دين الرحمة، حتى هذه الفراخ، لكن لو كان ذلك فيما لا يندفع أذاه إلا بإبعاده، والتخلص منه.

مثال: هذا الحمام يأتي، ويفرخ على النوافذ، يأتي هذا الإنسان، ويجد الدود، والروائح، وتتسرب إلى داخل الغرفة، ويتأذون بهذا، ثم يجيء، ويجد الفراخ في هذا المكان، ماذا يصنع؟ الآن هو متضرر، والدود يدخل عليه، والشريعة ما جاءت بالضرر، فهل له أن يرفع ذلك برفق، ويذهب به، ويضعه في الأرض، تأتي هي، أو يأتي قط، ويأكل هذا، أو نحو ذلك، دون أن يؤذيه؟

الذي يظهر -والله أعلم- أن هذا لا إشكال فيه، إذا لم يكن يدفعه إلا بهذا، إذا كان يتضرر، كما أنه يجوز قتل هذه الطيور إذا كان لا يندفع ضررها إلا بالقتل، يقول: آذتنا من روائحها، وهذه الأشياء التي تجتمع بسببها من الحشرات والديدان، وإلى آخره، وكل ما نظفنا رجعت، فهل له أن يقتلها؟

إذا كان لا يستطيع التخلص إلا بالقتل الجواب: نعم.

فالشاهد: هنا أن النبي ﷺ قال: ردوا ولدها إليها ورأى قرية نمل قد حرقناها، هذا هو الشاهد، التحريق بالنار، قرية النمل معروفة، تجد مكان فيه موضع يجتمع فيه النمل، وفيه جحور كثير، يقال له: قرية نمل، فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار[9] رواه أبو داود بإسناد صحيح.

فهم ما فعلوا ذلك على سبيل الإفساد، لكن الناس قد ينزلون في مكان، ويضعون فيه متاعهم، ويجلسون فيه، فيفاجؤون بجوارهم، ما يتأذون به من قرية نمل، ونحو ذلك، فيحرقونها من أجل أن يتخلصوا من أذاه، لكن في البرية مكان واسع، فيستطيعون الذهاب هنا، وهناك بعيدًا عنه، فلا يجوز التعذيب مهما كان النمل، لا يحرق بالنار، ويمكن دفع النمل بغير ذلك، هؤلاء هم الذين جاؤوا إلى قريتها، ما جاءتهم هي، لكن لو أنهم في بيتهم، وجاءهم النمل، فيمكن دفعه أيضًا بطرق معروفة، فيقسم على هذا النمل، وهو يسمعه، فيخرج من الدار بدون أذى، ولا تحريق، ولا فلت، ولا غير ذلك، يقسم عليه ثلاثًا، فيخرج، هذه أقرب الطرق، وأسهل الطرق، فإن لم يخرج يقسم عليه، ونحن نفعل هذا دائمًا، ويخرج النمل، ونتخلص منه بلا أي أذى، لا نقتله، ولا يكون بالمبيدات، أو شيء من هذا القبيل، لكن لو أن أحدًا يقول: أنا أقسمت عليه، وما خرج، وأنا أتأذى به، فنقول: لا بأس بهذه المبيدات، لكن لا يكون بالتحريق بالنار، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار، برقم (2673)، وصححه الألباني.
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب التوديع، برقم (2954).
  3. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار، برقم (2673)، وصححه الألباني.
  4. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب التوديع، برقم (2954).
  5. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار، برقم (2673)، وصححه الألباني.
  6. انظر: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (8/119).
  7. انظر: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (8/119).
  8. انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي (14/239).
  9. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار، برقم (2675)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2421).

مواد ذات صلة