الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم..» إلى «لو يعلم المار بين يدي المصلي..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا "باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة".

وذكر حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم[1]، رواه البخاري.

هذا ظاهر في التحريم، بل هو نص صريح في التحريم من أكثر من وجه، فإن قوله ﷺ على سبيل الاستفهام والإنكار: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ هذا إنكار عليهم، "فاشتد قوله في ذلك" يعني: اشتد نكيره ﷺ "حتى قال: لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم" رواه البخاري.

ومثل هذا يدل على أنه ما ورد فيه الوعيد -على ضابط الكبيرة- بعقوبة معينة مخصصة، فإنه يكون من الكبائر، وهذا أمر يتساهل فيه كثير من الناس، وبعض الناس إذا قال: ربنا ولك الحمد، رفع من الركوع، رفع بصره إلى السماء، ورفع يديه، ولا يجوز له أن يرفع بصره إلى السماء في الصلاة، لا في حال الدعاء في القنوت، ولا بعد الركوع، ولا في غير ذلك من أحواله في الصلاة، لا يرفع رأسه ينظر إلى السماء، فإنه في القنوت ينظر إلى كفيه، وفي الاستسقاء يكون الرفع أكثر، حتى يرى بياض إبطيه، وهو في هذه الحال لا يجاوز أيضًا في رفعه، وإنما غاية ما هنا لك أنه ينظر إلى كفيه، أو نحو ذلك، والله تعالى أعلم. 

ثم ذكر "باب كراهة الالتفات في الصلاة لغير عذر" كأنه يشير بذلك إلى أن ذلك من قبيل كراهة التنزيه، وليس من قبيل المحرم، وأنه إن كان لعذر، فإن ذلك جائز لا كراهة فيه، هذا ظاهر هذه الترجمة، والله تعالى أعلم.

وقد أورد المصنف -رحمه الله- في هذا الباب حديث عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "سألتُ رسول الله ﷺ عن الالتفات في الصلاة، فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد"[2]، رواه البخاري.

سألته عن الالتفات في الصلاة مطلقًا، يعني: في الفريضة والنافلة، فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد الاختلاس هو أخذ الشيء بسرعة وخفية، تقول: اختلس المال والمتاع، أخذه بسرعة وخفية، بمجموع هذين الأمرين: السرعة والخفاء، فهذا اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، يعني: أن الشيطان يوقع العبد في ذلك في الالتفات.

والمقصود بالالتفات: التفات الرأس، مع بقاء المصلي متجهًا إلى القبلة، لكن رأسه يلتفت، فمثل هذا من عمل الشيطان، ومما ينقص الشيطان به صلاة العبد.

فهذا الحديث بظاهره، لا يدل على التحريم.

وما يتعلق بالعذر: فالنبي ﷺ في غزوة حنين، أرسل عينًا في ناحية -أي: أرسل رجلاً في ناحية-، فكان النبي ﷺ يترقب مجيئه من قبل ناحية، فكان يصلي ويلتفت إلى تلك الناحية، فهذا لحاجة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- يلتفت ليترقب مجيء هذا الرجل[3]، فإذا كان الالتفات لحاجة، فلا إشكال فيه في الفريضة وفي النافلة.

وفي خبر مرض النبي ﷺ لما مرض -عليه الصلاة والسلام-، ثم وجد نشاطًا، فخرج، وأبو بكر يصلي بالناس، فجعل الناس يكبرون، فكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، هكذا في الرواية[4]، فلما أكثروا التفت ، فرأى النبي ﷺ، فتأخر، فهذا التفات في صلاة الفريضة لحاجة.

فالمقصود: أن من مكروهات الصلاة: الالتفات من غير حاجة، وهو اختلاس يختلسه الشيطان، أما إن كان لعذر لحاجة فلا إشكال في ذلك، كأن تكون مثلاً المرأة تصلي وبجانبها صبي، فذهب إلى ناحية، يتخوف منها، فالتفتت إلى الصبي مثلاً، أو أنه صاح فخافت أنه وقع به مكروه، فالتفت إليه، فهذا لا إشكال فيه في الفريضة والنافلة.

ثم أورد المصنف -رحمه الله-: حديث أنس قال: قال لي رسول الله ﷺ: إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لا بدّ ففي التطوع، لا في الفريضة[5]، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

هذا الحديث لا يصح، ضعيف، ولو صح، فإنه يمكن أن يستدل به على تحريم الالتفات في الصلاة.

فهنا إياك والالتفات هذا تحذير، وهو بمعنى النهي الأكيد، والأصل أن النهي للتحريم، تقول: إياك وكذا، يعني: لا تفعل، ثم إن قوله: فإن الالتفات في الصلاة هلكة يعني: يكون سببًا لذلك فإن كان ولا بدّ، ففي التطوع، لا في الفريضة لو صح، فإنه يدل على التحريم، ولكنه لا يصح عن رسول الله ﷺ.

ثم ذكر بابًا بعده: وهو "باب النهي عن الصلاة إلى القبور" ويشمل أن يكون القبر قبلته، يصلي إلى القبر مباشرة، سواء كان القبر مفردًا في مكان، أو كان القبر في قبلة المسجد، أو كان القبر في المقبرة، فهذا يصلي في المقبرة، وفيه نهي عن الصلاة في المقابر، فلا يجوز الصلاة فيها، إلا لمن كان لم يصل على الجنازة، فإنه يصلي على القبر، كما فعل النبي ﷺ لما قال: دلوني على قبره -أو قبرها-[6]، في المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد، فهذا يكون مستثنى، وإلا فالأصل: أنه لا يصلى في المقبرة، ولا يصلى إلى القبر، والمقصود بالصلاة إلى القبر ليست صلاة الجنازة، وإنما المقصود بذلك الصلاة المعتادة، فريضة أو نافلة، وليست صلاة الجنازة، أما صلاة الجنازة فإنه يصلي إلى القبر أعني من لم يصل عليه.

فهنا "النهي عن الصلاة إلى القبور" ويدخل فيه أيضًا الصلاة إلى المقبرة المسورة، بمعنى: أنه يستقبل المقبرة، ويصلي إليها، فهذا أيضًا لا يجوز، لكن لو كان بينه وبين المقبرة بنيان، أو كان بينه وبين المقبرة طريق سالك، فهذا لا يقال: إنه يصلى إلى القبور.

وذكر فيه حديث أبي مرثد، كناز بن الحصين قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها[7]، رواه مسلم.

قوله: لا تصلوا إلى القبور هذا نهي، وهو مقترن بالصلاة، وهذا يكون للبطلان، يعني: تجري عليه قاعدة: النهي يقتضي الفساد قطعًا، وهذه القاعدة فيها تفصيل كثير، ولكن إذا جاء النهي فيها مقترنًا مع العبادة المعينة، أو العمل المعين، فإنه يكون للفساد ولا بدّ، بصرف النظر عن الصور الأخرى التي ترد عليها هذه القاعدة، ويختلف العلماء في تطبيقاتها، لكن هذه الصورة تكون للفساد، فمن صلى إلى قبر، فصلاته باطلة، سواء كانت هذه الصلاة فريضة، أو كانت صلاة نافلة، وسواء كان ذلك بقصد، يعني: قصد التوجه إلى القبر، كما يفعل بعض عباد القبور، يصلون إلى القبور تقربًا إلى صاحب القبر، أو تقربًا إلى الله بزعمهم، فيجعلون القبر قبلتهم، أو بينهم وبين القبلة، أو يجعلونه في قبلة المسجد، وهذا كله لا يجوز؛ ولذلك فإن الصلاة في المساجد المبنية على القبور لا تصح، ولا تجوز؛ لأن ذلك جميعًا قد ورد النهي عنه، وهي بلية عمت وطمت، وصارت -للأسف- في كثير من بلاد المسلمين، حتى إنك لا تكاد تجد مسجدًا في بعض البلاد قد سلم من قبر قد بني عليه المسجد، أو أدخل القبر في المسجد بعد بنائه، فهذا -نسأل الله العافية- من المنكرات العظيمة، ومن أعظم دواعي الإشراك.

ولا تجلسوا عليها رواه مسلم؛ ولذلك حتى الذي يصلي في مكان في قبلته قبر، وهو لا يقصد، فإنه ينبغي أن يتحاشى القبر.

وصلى أنس بن مالك والقبر أمامه، فقال عمر : "القبر، القبر" فرفع رأسه يظن أنه يقول: القمر القمر[8].

فعلى كل حال الصحابة كانوا يتحاشون هذا، وينهون عنه، كما نهى عنه النبي ﷺ، ولا تجلسوا عليها فالجلوس على القبر من الكبائر.

وقد صح عن النبي ﷺ قوله: لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر[9] وذلك؛ لأن لصاحب القبر حرمة، فلا يجوز الجلوس عليه، كما لا يجوز أيضًا الاتكاء على القبر، ولا الوقوف عليه، ولا المشي عليه، وأن يطأه بقدمه، فهذا لا يجوز، بل أيضًا لا يجوز المشي بالنعال بين القبور، وهذا من المنكرات التي شاعت، والإنسان لا يدري إذا ذهب إلى جنازة هو يدعو للميت، أو يشارك في تشييع، أو في الدفن، أو ينكر على هؤلاء الجموع الذين يتخطفون بين القبور بنعالهم، وهذا لا يجوز، والنبي ﷺ رأى رجلاً يمشي بين القبور بالنعال، فنهاه النبي ﷺ عن هذا، فقال: يا صاحب السبتيتين، ألقهما[10]، يعني: كان يلبس نعالاً من هذا الصنف؛ ولذلك إذا أراد الإنسان أن يمشي بين القبور عليه أن يخلع نعليه، ويمشي حافيًا بلا نعال، أو يقف دون القبور، ولا يمشي بينها، والإنسان يحتاج أن يعلم الناس، وأن ينكر عليهم، وإن كان المقام في مثل هذا قد لا يحتمل، فالناس في جنازة، وما إلى ذلك، ولكن لا بد من تعليم الناس، والمشاهد أنهم لا يقبلون إلا من رحم الله، ينظرون إليك، ويذهبون، ويمشون بين القبور بالنعال، وكأنك لم تخاطبهم، أو لم يسمعوا ما قلت.

ثم ذكر "باب تحريم المرور بين يدي المصلي".

وذكر فيه حديثًا واحدًا، وهو حديث أبي الجهيم: عبد الله بن الحارث بن الصمة الأنصاري ، وهو ابن أخت أبي بن كعب ، وهو من أهل بدر، قال: قال رسول الله ﷺ: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه؟ لكان أن يقف أربعين، خيرًا له من أن يمر بين يديه[11]. فقوله: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه هنا ما قال: "من الإثم مثلاً" ليذهب الذهن كل مذهب ماذا عليه؟ من ماذا؟ فيبدأ الذهن يذهب، ويتوقع أو يتصور ماذا يكون على هذا المار بين يدي المصلي؟ والمقصود بين يدي المصلي أن يمر بينه وبين السترة، وهو منفرد، أو إمام، أما المأموم يصلي خلف الإمام، ولا زال يتابع الإمام، فإنه لا إشكال بالمرور بين الصفوف، إنما المنع من المرور بين يدي الإمام، أو المنفرد، وإذا كان المأموم مسبوقًا، وصار يصلي لنفسه فيما سبق فيه، فإنه يكون في حكم المنفرد، ولا يجوز المرور بين يديه.

فلو كان المصلي لا يصلي إلى سترة، فإن ذلك يكون بمقدار ثلاثة أذرع، يعني: يقدر له ما بين موقفه في الصلاة، وما بين السترة؛ وذلك أن يكون بين موضع السجود وموضع السترة ممر شاة، فيكون هذا المقدر من موقفه في الصلاة، موضع القدمين إلى منتهى ثلاثة أذرع، هذا هو الذراع، قريب من نصف متر، ثلاثة أذرع يعني: متر ونصف تقريبًا، فيقدر هذا، فيمر من ورائه، فلا إشكال في هذا، فإذا مر فيما دونه، فإنه يكون قد مر بين يدي المصلي، وينطبق عليه مثل هذا: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين ومسألة المرور بين يدي المصلي فيها تفصيل معروف عند الفقهاء؛ وذلك أنه على أحوال:

فتارة يكون المار معذورًا، والمصلي معذورًا.

وتارة يكون المار معذورًا، والمصلي غير معذور.

وتارة يكون المار غير معذور، بخلاف المصلي.

وتارة يكون كلاهما غير معذور.

وتارة يكون كلاهما معذور.

فهذا على أحوال، فالذي يصلي مثلاً أمام الناس في الطواف، فالناس يطوفون وهذا مكان طواف، فيأتي ويصلي أمامهم، فمثل هذا يتوقف الطواف حتى ينتهي من صلاته؟ اقطع ولا حرج، هذا لا يتوقف، فالمار معذور، والمصلي غير معذور؛ لأنه صلى في مكان ليس له أن يصلي فيه، فيتحمل الوزر، والمار لا يتحمل الوزر، ومثل الذي يصلي بالأبواب، ويوجد أماكن، والناس سيخرجون، فيلحقهم الحرج بسبب ذلك، فإذا مروا بين يديه، فالوزر عليه، وأما هم فمعذورون؛ لأن هذا ليس موضع صلاة.

وأحيانًا يكون المصلي يصلي في مكان إلى سترة ليس في ممر الناس، ولا يلحقهم حرج، وبعيدًا عنهم، وتحرى المكان الذي لا يضيق عليهم فيه، فيأتي من يقطع عليه صلاته، ويمر بين يديه، فيكون هذا المار بين يديه ينطبق عليه هذا وتارة يكون الكل معذورًا في أوقات الزحام الشديد في الحرم مثلاً، الناس في يوم اثنا عشر، كل الحرم يتحرك، ولم يجد هذا الإنسان مكانًا يصلي فيه، فتحرى وحاول أن يوجد مكان لا تقطع عليه الصلاة، ولكن لم يستطع، ففي هذه الحال يكون معذورًا في صلاته في ذلك المكان، ويكون المار بين يديه معذورًا، وتارة يكون كلاهما غير معذور.

على كل حال هنا قال: لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه قال الراوي: لا أدري أقال: أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين سنة، متفق عليه.

يعني: أن وقوفه هذا حتى لو كان أربعين يومًا، فهذا أمر صعب وشديد، إذا كان الإنسان يجلس الجلوس بعد الصلاة دقائق يسمع حديثًا، أو تعليقًا، أو فائدة لربما يشق عليه مشقة كبيرة، وهذا الإنسان الذي لم يحتمل الانتظار قليلاً، حتى لا يقطع على هذا صلاته، كيف يحتمل أن يقف أربعين يومًا، بل أربعين شهرًا، بل أربعين سنة؟! فهذا أعظم.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة برقم (750).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الالتفات في الصلاة برقم (751).
  3. أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب الركوع والسجود، باب الرخصة في ذلك برقم (916) وصححه الألباني.
  4. أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب ما جاء في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا برقم (2690) ومسلم في كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم برقم (421).
  5. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب السفر، باب ما ذكر في الالتفات في الصلاة برقم (589) وضعفه الألباني.
  6. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان برقم (458) ومسلم في كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر برقم (956). 
  7. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان برقم (458) ومسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه برقم (972).
  8. صحيح البخاري (1/93) بدون فرفع رأسه يظن أنه يقول: القمر القمر.
  9. أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه برقم (971).
  10. أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في خلع النعلين في المقابر برقم (1568) وأبو داود في كتاب الجنائز، باب المشي في النعل بين القبور برقم (3230) وحسنه الألباني.
  11. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب إثم المار بين يدي المصلي برقم (510) ومسلم في كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي برقم (507).

مواد ذات صلة