الأربعاء 26 / ربيع الآخر / 1446 - 30 / أكتوبر 2024
الحديث عن آيات الباب (2-3)
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب بيان ما أعد الله للمؤمنين في الجنة أورد المصنف -رحمه الله- بعد الآية الأولى التي تحدثنا عنها في الليلة الماضية، قول الله -تبارك وتعالى-: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ۝ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ۝ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ.

فقوله -تبارك وتعالى- مخاطبًا هؤلاء بهذا الخطاب اللطيف، حيث ناداهم بهذا الوصف الشريف، الذي أضافه إلى نفسه: يَا عِبَادِ والعبودية هنا هي عبودية الاختيار، وليست بعبودية الاضطرار، فكل من في السماوات والأرض فهو عبد لله، ولكن العبودية التي يشرف بها العبد هي التي يقال لها: عبودية الاختيار، العبودية الخاصة يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فهؤلاء هم الذين سلكوا طريق طاعته، وسلكوا سبيل الإيمان، فاستجابوا لله وللرسول حينما دعاهم لما يحييهم، فهؤلاء يقال لهم: لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يعني في ذلك اليوم الذي تعظم فيه المخاوف، وتبلغ فيه القلوب الحناجر، فهم آمنون حيث يخاف الناس، كما قال الله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.

والظلم فسره النبي ﷺ في هذه الآية بالآية الأخرى، آية لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فمن سلم من ذلك فإنه يأتي آمنًا يوم القيامة، ومن وقع في هذا الإشراك بالله -تبارك وتعالى- فلا تسأل عن خوفه، وحاله، ووجله، وكربه في ذلك اليوم الشديد، الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، فهنا ينفي الله عنهم الخوف والحزن، وقد ذكرنا من قبل بأن أكثر ما يزعج الناس ويقلقهم إنما هو ذلك الاشتغال بأمور مضت مما يكرهون، ويسوؤهم، فيقع في قلوبهم الحزن، فيتكدر عليهم عيشهم، وراحتهم.

والأمر الآخر، وهو ذلك القلق من الأمور المستقبلة، أمور تكون في المستقبل فذلك هو الخوف، فالانزعاج من أمر مستقبل هذا هو الخوف، والانزعاج لأمر مضى هذا هو الحزن، والإنسان يدور بين هذا وهذا، فتنتابه المخاوف والأحزان، فيكون في حال من الضيق، والشدة، والكدر، وما إلى ذلك، إما لأمور مضت، وإما لأمور مستقبلة.

فهنا في الآخرة يقال لهؤلاء من أهل الإيمان: لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ لا تخافون من أمر مستقبل، فليس هناك مخاوف، ولا تحزنون على أمر فائت من أمور الدنيا، وإذا سلم الإنسان من الخوف والحزن، فإنه يكون في سعادة، وراحة، وهناء، وطيب عيش.

مَن هؤلاء؟ قال: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا يدخل في هذا الآيات التي هي من قبيل دلائل النبوات، دلائل النبوة التي جاءت على يد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فلم يجحدوا بها، ولم ينكروها، ولم يكابروا في ذلك، فآمنوا بهذه الآيات، وأذعنوا، وسلموا.

وكذلك أيضًا يدخل فيه الآيات المتلوة: القرآن الكريم، والكتب المنزلة على الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والإيمان بها يقتضي العمل بما تضمنته من الأحكام، والشرائع، والهدايات، ولهذا قال بعده: وَكَانُوا مُسْلِمِينَ يعني: أنهم في حال من الاستسلام لشرع الله وأمره وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.

فهذا هو حال المؤمن، وهذا هو حقيقة الإسلام أن يستسلم لربه، ومليكه، وخالقه فلا يكون في قلبه أدنى معارضة، لا لأحكامه الشرعية، ولا لأحكامه الكونية، يعني الأقضية والأقدار التي يقضيها الله -تبارك وتعالى- فيكون قلبه سالمًا من ذلك كله، وكذلك أيضًا يكون مسلمًا بلسانه، فيسلم الناس من شره، ويسلم هذا اللسان من كل ما يسخط الله -تبارك وتعالى- وكذلك أيضًا يكون مشتغلاً بما أمر به، وهكذا أيضًا يكون مسلمًا في جوارحه، وأحواله، وأعماله كلها، وعلى قدر ما يكون له من هذا الإسلام والإيمان، على قدر ما يتحقق له من تلك الأوصاف: لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ يعني على قدر إسلامهم، وإيمانهم يكون أمنهم، وينتفي عنهم الحزن؛ لأن الحكم المعلق على وصف، يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- في معناها الأعم الشامل، أعني قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ فعلى قدر ما يحقق الإنسان من هذه الأوصاف: الإيمان الذي لم يلبسه بظلم يكون له من الأمن والاهتداء، وإذا نقص ذلك الإيمان نقص من أمنه واهتدائه

فهنا قال: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ الله -تبارك وتعالى- يقول لهم ذلك، أو تقول لهم الملائكة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وقوله: أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ المفسرون من السلف فمن بعدهم لهم قولان معروفان فيها: بعضهم يقول: أنتم وأزواجكم يعني: الزوجات، كما قال الله : هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ فهؤلاء يعني مع الزوجات، وهذا معنى صحيح ومعروف، وذلك تكتمل به لذتهم وسعادتهم، وهناءتهم وراحتهم.

والمعنى الثاني: أن المقصود بالأزواج يعني النظراء والأشكال، يعني: من كان مشاكلاً لهم في الإيمان والعمل، فيكون هؤلاء النظراء معهم في الجنة، ويرافقونهم فيها، كما أن الكفار الذين يساقون إلى النار: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ليس المقصود هناك في تلك الآية الزوجات؛ لأن الزوجة قد تكون مؤمنة، وإنما المقصود: وأزواجهم يعني: ونظراءهم، من كان على شاكلتهم، فاليهود مع اليهود، والنصارى مع النصارى، وأهل النفاق مع أهل النفاق، وهكذا يكونون مع من يشاكلهم، فيدخلون النار، هذه الآية هل هي مثلها، فيكون المقصود بذلك النظراء؛ لأن الزوجة أيضًا قد تكون غير مؤمنة، أو أن المقصود الزوجات؟

الذي يظهر، والله تعالى أعلم أن الآية تشمل ذلك جميعًا، تشمل هذا وهذا، فيكون أنهم يدخلون الجنة مع نظرائهم، ومن هؤلاء النظراء الزوجات، إذا كن على الإيمان، فإنهن يدخلن معهن، وبهذا تكتمل لذتهم، وسعادتهم بدخول الزوجات معهم، وكذلك أيضًا بدخول نظرائهم الذين يشاكلونهم في العمل، والطاعة، والاستقامة، وهذا المعنى الأعم الواسع هو الذي ذهب إليه بعض المفسرين، كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-[1] وأما كثير من المفسرين، فبعضهم ذهب إلى أنها الزوجات، وبعضهم ذهب إلى أن المقصود بذلك هم النظراء والأشكال.

تُحْبَرُونَ من الحبرة، وهي السرور، والتنعم، والراحة، فهم يدخلون في حال من الحبور، ليس هناك تعب، ليس هناك منغصات، ليس هناك مزعجات، ليس هناك أمر يقلق بحال من الأحوال، ليس هناك آلام، لا يوجد أمراض، لا يوجد حاجات، وفقر، ومسغبة، لا يوجد مشكلات، لا يوجد غل في الصدور، إنما هم في حال من الحبور، والراحة، والسرور، والنعيم.

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ الصحاف: جمع صحفة، هي التي تسمى بالقصعة، ويقال لها: الزبدية، ونحو ذلك، هذه ليست كالتي في الدنيا، لكنها من ذهب.

وَأَكْوَابٍ والأكواب: هي الكيزان التي لا عرى لها، وليس لها فم، يعني: يكون منه المائع، أو الشراب، يعني: ينصب منه، وإنما تكون من قبيل الكؤوس التي لا عرى لها، وليس لها أفواه، فهذه يقال لها أكواب، فهذه الأكواب من ذهب: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ هل هي فارغة؟ الجواب: لا.

وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ما الذي تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين؟ يجمع بين الأمرين، يعني هناك أشياء لذيذة في طعومها، ولكنها قد تكون ليست بتلك في المرأى، قد لا تقبل النفوس عليها إذا شاهدتها؛ لأن مرآها ليس بذاك، ولكن طعمها جيد، وهناك من الأشياء ما يكون جذابًا يعجب الناظرين، ولكنك إذا ذقته لم يكن بذاك، فهذه جمعت بين اللذتين؛ لأن العين تلتذ، وكذلك يلتذ الإنسان بذوق الطعام، فنفسه تلتذ بهما وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وما هذه للعموم، ما الذي تشتهيه الأنفس؟

كل ما تطلبه الأنفس من مطعوم ومشروب، فالمطعوم: بالصحاف، والمشروب: بهذه الأكواب، كل أنواع المشروبات التي تطلبها النفوس، الخمر -كما سيأتي- اللبن، العسل المصفى، إلى غير ذلك كله، كل ما تطلبه نفوسهم يطاف، ما يحتاج أن يذهب إليه، ويبحث عنه، ويطلبه، ويتعنى من أجله، أو أنه يعمله، ويصنعه، لا يوجد هذا، وإنما يطاف به عليهم، يصل إليهم، فهم في حال من النعيم، واللذة، والسعادة، والهناء، ولا يحتاج أن يتحرك، ويبذل جهدًا، أو يعمل عملاً حتى يحصل ذلك، أو يقطف الثمار، أو يصنع الطعام، أو يعصر هذه الخمرة، أو نحو ذلك، فهو ليس بحاجة إلى هذا بل يطاف به عليهم يُطَافُ عَلَيْهِمْ من الذي يطوف بهذه الأشياء؟

كما قال الله : وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا هؤلاء في غاية الجمال، هؤلاء الآن الولدان: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مخلدون، قيل على سن واحدة، وقيل: لا يهرمون، ولا يموتون، وقيل: في آذانهم الخلد، حلق يعني، محلاة آذانهم، فهؤلاء الغلمان والولدان الذين يخدمونهم في الجنة، ويطوفون عليهم: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا اللؤلؤ بلمعانه وبريقه، هؤلاء الخدم الآن، فكيف بالمخدوم؟

إذا كان الخدم كأنهم لؤلؤ، وهم مخلدون، فكيف بأهل النعيم الذين جاءوا هؤلاء من أجل خدمتهم، لاشك أن أهل الجنة أعظم من اللؤلؤ، وهنا ذكر اللؤلؤ بهذه الصفة: حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا وذلك أن اللؤلؤ المنثور ليس كالمنظوم، المنظوم يكون جيدًا حيث يلبس، إذا كان في عقد في الجيد، ونحوه، أما إذا كان في غير ذلك فإن اللؤلؤ المنثور فإنه يشع في المكان، ويكون أبهى، وأجمل من اللؤلؤ الذي يجتمع في مكان واحد، فهؤلاء في حال تفرقهم، في طوفانهم على أهل الجنة كهيئة هذا اللؤلؤ الذي قد نثر، يتلألؤون في غاية الجمال، والبهاء، والزينة، ويطوفون بهذه الصحاف مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ كما قلنا: لأن الإنسان يتنغص عليه النعيم حينما يتذكر أنه سيفارقه، فتأتيه الطمأنينة أن هذا النعيم دائم، لا يوجد هرم، ولا يوجد موت، ولا يوجد فوت، إنما هو بقاء أبدي سرمدي بهذا النعيم المقيم.

قال: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ يعني كيف نحصل هذا النعيم؟ تلك الجنة التي فيها هذا النعيم، والولدان، والصحاف، والأكواب من الذهب، قال: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الباء هنا سببية بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ يعني بأعمالكم جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فالجنة تحتاج إلى عمل، تحتاج إلى بذل، تحتاج إلى جهد، فهذه الأعمال التي عملوها كانت أعمالاً صالحة، وليس هذه الأعمال التي عملوها هي اللعب، والعبث، والتضييع، والجلوس أمام القنوات السيئة، والمواقع السيئة في الانترنت، أو تضييع الليل والنهار على وسائل اتصال، ووسائل لا تجدي عليه نفعًا، إنما ينظر فيها إلى ما حرم الله أو إلى أمور فارغة لا تبني معرفة، وعلمًا، ولا يحصل بها تقى، إنما هو تضييع الزمان والأعمار، فيأتي يوم القيامة يقدم قدوم المفاليس، ليس له عمل يعتد به.

وهكذا من ضيع الزمان بالتجوال هنا وهناك، يذهب، ويسافر إلى بلاد تظهر فيها المنكرات، وما حرم الله وله أصحاب يدفعونه إلى المنكر، هذا لما يجي يوم القيامة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أين الأعمال؟ أين البضاعة؟ أين الثمن لهذه الجنة؟

مع أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله كما قال النبي ﷺ فهنا الباء للسببية، ولا تعارض: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله[2] وإنما المقصود بذلك: أن العمل سبب، ولا يكافئ وحده نعيم الجنة، ورحمة الله -تبارك وتعالى- لأن نعم الله على عباده لا تعد ولا تحصى، ولو بقي الإنسان ساجدًا من أجل شكر نعمة واحدة لما أدى حقها، بل هو حينما يشكر الله فهذه نعمة تحتاج إلى شكر جديد، وإذا قال العبد: الحمد لله، هذه نعمة تحتاج إلى شكر جديد، وهكذا.

ومن ثم أيها الأحبة هذه الجنة تورث بالأعمال الصالحة، فنحتاج أن نعمل، وأن نقدم لهذه الجنة ما يرضي الله -تبارك وتعالى- وما يحصل به للعبد الراحة، والفرح، والسرور، حينما يشاهده في صحيفة العمل، أما التضييع، والغفلة فالحياة عما قريب تنتهي، وينقضي عمر الإنسان، وأجله، ثم يوسد في حفرة لا يبقى معه فيها إلا العمل، وتفنى لذاته، وإذا أردت أن تعرف هذا تذكر اللذات التي كانت أمس، هل بقي منها شيء، من مطعوم، ومنكوح، ومشروب، ومجالس أنس؟

كل ذلك يبقى ذكريات، وتبقى في صحائف الأعمال، إن كانت صالحة، أو كانت سيئة، وهكذا ما نستقبل، يطوي هذا الزمان حتى يوافي الأجل، فتبقى كل لذة، وراء ظهره لا يجد منها شيئًا، فالعاقل لا يغتر بمثل هذه الأشياء، ويعلم أن ما يستقبل من اللذات كالفائت، إذًا يحتاج إلى بذل في طاعة الله -تبارك وتعالى-.

قال: وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ أنواع الفواكه، ليست قليلة تنتهي، وتنقضي، وإنما لا حد لها، ولا حصر، منها يأكلون، ويتمتعون، وإذا كانت هذه الفواكه موجودة في الجنة، ومعلوم أن الفواكه إنما هي لمزيد التنعم، يعني: ليست هي غذاءً أساسيًّا، فالفاكهة التي توضع على الطعام هي من باب الزيادة في المهنأ، والنعيم، واللذة، وما إلى ذلك، إذا كان فيها فواكه كثيرة إذًا المطعومات الأخرى ما قدرها؟ ما حجمها؟ ما الذي يتصور منها؟

هو كما أجمل الله -تبارك وتعالى- ذلك بقوله: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ولك أن تسرح الذهن في كل ما يمكن أن يتصور، وما لا يتصور من أشياء نعرفها، وأشياء لا نعرفها، كما قال الله : كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا قيل: يشبه بعضه بعضًا، يعني إذا جيء بثمار الآن، وجيء بثمار بعد عشر دقائق، الذي بعد عشر دقائق يشبه الذي قبل قليل، لكن الطعم يختلف تمامًا، فهو متشابه، فيقولون: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ.

ويحتمل أن يكون المراد أنه يشبه في أشكاله الدنيا، هذا شكل رمان، هذا شكل كمثرى، هذا شكل تفاح، هذا شكل عنب، هذا شكل توت، ونحو هذا، وهذ الذي رزقنا من قبل في الدنيا، لكن الشكل فقط، طبعًا الشكل لا يقارن بالشكل في الدنيا، لكن هو يعرف كيف شكل العنبة فقط، لكن العنبة في الجنة ما حجمها؟ ما مقدارها؟

الله أعلم ما مقدارها، لا تستبعد أن تكون حبة عنب لربما أكبر من الكرة الأرضية، لا يستبعد هذا، لا يستبعد، فنعيم الجنة يختلف تمامًا عن الدنيا، كما قلنا لكم في الشجرة التي في الجنة، شجرة طوبى، الكرة الأرضية بكاملها، ولا حبة رمل بالنسبة إليها، هذه بحسابات تقريبية، ولا حبة رمل، الكرة الأرضية كلها، ولا حبة رمل، هذه الفواكه الكثيرة متنوعة في أشكالها، وألوانها، وطعومها، هذا كله من نعيم الجنة الذي خاطبنا الله به مما نعقله، وإلا فالأمر فوق ذلك، وإنما خوطبنا بما نعهد، وما نعقل، كما جاء ذلك عن بعض السلف ، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله.

  1. انظر: تفسير السعدي (769).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، برقم (5673)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2816).

مواد ذات صلة