الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(1) حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم
تاريخ النشر: ٢٥ / ذو القعدة / ١٤٣١
التحميل: 75
مرات الإستماع: 303

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قال المصنف: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، وطلب القراءة من حسن الصوت، والاستماع لها، وذكر حديث:

"عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، يجهر به[1]، متفق عليه".

قوله ﷺ: ما أذن الله لشيء هذا من الأَذَن، وهو الاستماع، يعني: ما استمع الله لشيء كما استمع، أو كاستماعه، لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، يجهر به أورد المصنف -رحمه الله- هذا الحديث تحت هذا الباب: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، فالله -تبارك وتعالى- يستمع، أو ما استمع لشيء، كاستماعه لنبي حسن الصوت.

يتغنى بالقرآن والتغني: هنا قال: يجهر به فهذا تفسير، ولكن هذا من قول النبي ﷺ، أو أنه مدرج من كلام بعض رواة الحديث يفسره؟ هكذا قال جمع من أهل العلم، ففسر التغني: بالجهر.

وبعضهم فسر (يتغنى) بتزيين الصوت بالقرآن، وهذا معنى قريب، وربما يكون هو المتبادر إلى ذهن السامع، وقد قال بعض أهل العلم كعادة العرب قبل الإسلام كان الواحد منهم يتغنى كثيرًا في أسفاره، ويتغنى في فناء داره بأشعار يزين صوته بها ويرددها، فالتغني بالقرآن يكون بتزيين الصوت بقراءته.

ومن أهل العلم من قال: بأن المقصود بذلك هو الاستغناء بالقرآن، ولكنهم اختلفوا في توجيهه، فبعضهم كإسحاق بن راهويه، وسفيان بن عيينة، وجماعة من أهل العلم، قالوا: هو استغناء خاص[2]، والمقصود به: يستغني به عما سواه من الكتب، كالذي يشتغل مثلاً بكتب الأولين المحرفة، أو ربما يشتغل بتطلب أخبار بني إسرائيل، والقصص، وما أشبه ذلك.

وقل مثل هذا في أولئك الذين يطلبون التربية، أو الهداية، أو نحو هذا من نظريات غربية، يتلقونها، ويدرسونها، ويتشاغلون بها، ويعرضون عن هذا القرآن الذي هو مصدر الهداية.

وقال بعضهم كأبي عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- بأنه يستغني به عن الاستكثار من الدنيا[3]، وهذا يؤيده ما أورده البخاري -رحمه الله- في "باب من لم يتغن بالقرآن" وأورد قوله -تبارك وتعالى- في ترجمة الباب: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51][4]، فتفيد هذه الترجمة أن البخاري -رحمه الله- يحمله على الاستغناء بالقرآن الاستغناء الخاص، يعني: ألا يطلب الإنسان الهداية من غيره، وألا يشتغل بكتب أخرى يطلب بها كمالات النفوس، وما شابه ذلك.

وما يذكره الناس في كلام طويل، تجده في كلام الله، وكلام رسوله ﷺ بأوجز عبارة.

ومما يُؤيد ما قاله أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- أن المقصود الاستغناء عن الاستكثار من الدنيا: ما جاء في قوله -تبارك وتعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] ثم قال بعده: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [الحجر:88] والمقصود بالأزواج: الأصناف، يعني: لا تلتفت، ولا تطمح نفسك إلى ما أعطاه الله أصنافًا من الكافرين من متع الدنيا وحطامها وبهجتها وزينتها، وما أعطاهم من الأموال، والعرض الكثير، فيقول: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ۝ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [الحجر:87-88] فهذا وإن لم يكن قد نزل في هذا، إلا أن النظر في الارتباط بين الآية والآية -وهو ما يسمونه بعلم المناسبات- باب دقيق من العلم، لا يتفطن له أكثر الناظرين في تفسير القرآن، فقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] هذه واضحة، ثم نهاه أن يلتفت عما أعطيه الكفار من عرض الدنيا، فإذا نظرنا إلى ذكر هذه بعد هذه نقول: لا بدّ أن يكون هناك مناسبة، ووجه ارتباط، وهذا الوجه من الارتباط أحيانًا يكون متكلفًا، فلا يذكر، ولا يشتغل به؛ لئلا يكون الإنسان قائلاً على الله بلا علم، وأحيانًا يكون له وجه ظاهر من النظر، كما في هذا، فحينما امتن عليه بإنزال القرآن، والذي من أعظمه سورة الفاتحة؛ لأنها تجمع ما حواه وتضمنه القرآن، بسبع آيات، نهاه أن يمد عينيه، وأن ينظر إلى ما أعطيه الكفار من عرض الدنيا، فدل على أن ما أعطيه ﷺ من السبع المثاني، والقرآن العظيم، يكفيه عن هذا الحطام الزائل، الذي صوره الله -تبارك وتعالى- بماء أنزله من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيمًا تذروه الرياح، فهذه حقيقة هذه الدنيا، وما فيها من المتع واللذات؛ ولهذا سماها الله متاع، بل متاع الغرور، يغر من نظر إليه، وأقبل عليه، ثم ما يلبث أن ينصرم ويتلاشى، وأن الحياة الآخرة هي الحيوان الحقيقي، والحياة الحقيقة.

فالمقصود أن الله -تبارك وتعالى- ذكر له هذا، فدل على أن هذا معنى يؤيده القرآن؛ ولهذا لو قال قائل: بأن قوله ﷺ: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، يجهر به يدخل فيه دخولاً أوليًا تحسين الصوت، ومن ذلك الجهر؛ لأن ذلك يتعلق بالسماع، ما أذن يعني: ما استمع، فإن القراءة سرًا لا يقال: إنها تستمع، وإن كان الله يسمع السر وأخفى، لكن ذكر الجهر هنا مناسب في هذا المقام.

وكذلك أيضًا ما ذُكر من الاستغناء بالقرآن، وما ذكره البخاري في الترجمة التي أشرت إليها آنفًا، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51] كيف لا يكتفون بهذا القرآن؟ فمن المعاني الداخلة تحته تستطيع أن تقول: فيطلبون الهدى من غيره.

وكذلك الاستغناء به عن الاستكثار من الدنيا، لا ترك طلب المعاش والرزق، وإنما الاستكثار، والتهافت عليها، والله تعالى أعلم.

وذكر أحاديث أخرى في الباب، منها:

"عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله ﷺ قال له: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود[5]، متفق عليه".

مزمارًا من مزامير آل دواد: المقصود ما أعطيه من الصوت الحسن، وأبو موسى الأشعري كان صوته في غاية الحسن، ومزامير آل داود المقصود: من مزامير داود ، فإن قوله: آل داود يقصد به داود بعينه، كما قال الله -تبارك وتعالى- أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] وفرعون لا شك أنه داخل في هذا، وحينما تقول مثلاً: آل محمد ﷺ هكذا مجردة، فإن النبي ﷺ يكون داخلاً فيه، وهكذا، وهذا له نظائر كثير.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الماهر بالقرآن مع الكرام البررة)) برقم (7544) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن برقم (792).
  2. شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/259).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/59).
  4. صحيح البخاري (6/191).
  5. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن برقم (5048) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن برقم (793).

مواد ذات صلة