الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا..»، «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي "باب فضل المشي إلى المساجد" أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط[1]، رواه مسلم.

قوله ﷺ: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات جاء به بصيغة الاستفهام؛ وذلك من أجل التشويق؛ ولتتطلع النفوس إلى معرفته، وهذا لا شك أنه أدعى إلى حضور القلب، والإنصات.

يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وقد مضى الكلام على هذا، وأن إسباغ الوضوء يحمل على أن يبلغ الوضوء إلى مواضعه التي أمر الله -تبارك وتعالى-، كما قال الله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] فهذا هو الإسباغ بمعنى: أنه يأتي به سابغًا تامًا على الوجه المطلوب من غير نقص ولا إخلال، دون أن يقصر عن الموضع الذي يجب غسله، كما أنه ينبغي أن يلاحظ ما ينبو عنه الماء من المواضع التي قد لا ينبو الماء إليها، كما ينبغي، كالبراجم، وعُقَد الأصابع، ونحو ذلك من المواضع.

"قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره" إسباغ الوضوء على المكاره: يدخل في ذلك أن يتوضأ الإنسان في حال البرد، ويدخل فيه أن يتطهر أيضًا في حال سخونة الماء إذا كان الماء حارًا في الصيف، فهو يعاني.

ويدخل فيه أيضًا أمور أخرى: كأن يكون الإنسان مثلاً لا يجد الماء إلا بالثمن، ويستثقل شراءه؛ لأن الماء شيء محبب إلى النفوس.

وكثرة الخطا إلى المساجد وهذا هو الشاهد، فيدل على أن من كان بيته أبعد من المسجد أفضل، وقد دل على ذلك أحاديث، ومضت منها حديث أبي موسى : إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم[2]، فكلما بعدت دار الإنسان عن المسجد، أو محل إقامته، فإن ذلك يكون أفضل في حقه.

وذكرتُ تفاضل الناس في الصلاة باعتبارات عدة، وهذا واحد منها، فهنا قال: كثرة الخطا إلى المساجد يعني: أنه يمحو به الخطايا، ويرفع به الدرجات.

قال: وانتظار الصلاة بعد الصلاة يعني: أن يجلس في المسجد، وليس معنى ذلك أن ينتظر وهو في بيته.

فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ذلكم الإشارة إلى البعيد هنا؛ لبيان شرفه، ورفيع مرتبته فذلكم العمل هو الرباط ودخول (أل) على الرباط تشعر بالحصر، الذي يسمونه الحصر الإضافي، بمعنى أنه هذا هو الرباط أو ذلكم هو الرباط حقًا، ذلكم هو الرباط الكامل، كما تقول: زيد هو الرجل مثلاً، أو الرجل زيد، فذلكم الرجل، فذلكم المال، فذلكم الإنفاق، وهذا للتنويه به على كل حال.

وأصل الرباط -كما هو معلوم- هو ملازمة الثغور المتاخمة لبلاد العدو، يعني: أطراف بلاد المسلمين، التي يتخوف عليها من العدو، فيلازمها، فهذا هو الرباط، وهذا جاء فيه أحاديث بفضله، وفضل من رابط يومًا في سبيل الله، ومن مات وهو في حال الرباط، ومع ذلك يقول النبي ﷺ في انتظار الصلاة: فذلكم الرباط، فذلكم الرباط فدل على أن هذا الرباط أفضل من الرباط في البلاد المتاخمة للعدو، مع أن النبي ﷺ يقول: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها[3].

وأخبر أن كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، يجري عليه أجره حتى يوم القيامة، ويوقى فتنة القبر[4]، ومع ذلك هنا يقول: فذلكم الرباط في انتظار الصلاة، ولعل السبب -والله تعالى أعلم- أن من يتطلبه هذا النوع من العبادة من المجاهدة أعظم مما يتطلبه ذلك النوع من المجاهدة؛ فالنفوس قد يكون فيها شيء من الشجاعة والإقدام، فيخف عليها الرباط في الثغور، ويخف عليها مزاولة القتال في سبيل الله، أو نحو ذلك؛ لما جُبلت عليه من الشجاعة؛ ولذلك كثير من الناس قد لا يحتمل أن يعيش على حال مستقيمة، كما يرضى الله -تبارك وتعالى-، ويحب من الطاعة، ومجاهدة النفس، والاستقامة على شرعه، وتحصيل العلوم النافعة، وما إلى ذلك، يستثقل هذا، ويستطيل هذا الطريق، ولكنه يسهل عليه أن يموت في سبيل الله، يرى أن هذا اختصار لهذا كله، ولذلك بعض الناس ما يصبرون، يقول: لماذا أحفظ القرآن؟ وكم أحتاج حتى أحفظ القرآن؟ وكم أحتاج حتى أتعلم التجويد؟ هي فقط خروج النفس، ثم بعد ذلك أصير إلى الجنة، هؤلاء لا يصبرون، كما يصبر هذا الإنسان الذي يحمل نفسه على الطاعة؛ ولهذا قيل: الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله، وما كل الناس يطيق هذا: أن يحيا حياة يسخرها على طاعة الله -تبارك وتعالى-، وإن طالت، يحمل نفسه على ما ينبغي، ويجاهد نفسه دائمًا، ويتعلم ما يحتاج إليه، ويتفقه، ويبذل ما يستطيع في نصرة دين الله -تبارك وتعالى-وتبليغه للعالمين، وما أشبه ذلك، فكثير من الناس لا يصبر.

ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ملحظًا مهمًا في هذا المعنى، فذكر أن كثيرًا من النفوس التي تقوى على إنكار المنكر، والجهاد في سبيل الله ، ولا شك أن إنكار المنكر نوع من الجهاد، تقوى وتصبر، لكنها قد تضعف في العمل والطاعة، يعني: يضعف في نفسه هو، يكون عنده تقصير، وعنده ضعف، لكنه في الجانب الآخر -في جانب الجهاد وفي جانب الإنكار- قوي جدًا، في غاية الصلابة والقوة والثبات، ولا يخاف في الله لومة لائم، ولكنه في حاله هو قد تجد عنده من التقصير في الطاعات والضعف والعجز الشيء الكثير، والسبب -والله تعالى أعلم- هو هذا الملحظ الذي ذكر، يعني: طبيعة النفوس الجريئة أنه يسهل عليها ويخف مزاولة مثل هذه الأعمال من الإنكار والجهاد، وما إلى ذلك، ولكن حينما تقول له: تعيش على طاعة الله ، وتستمر، وتستقيم على هذا ظاهرًا وباطنًا في خاصة نفسك؟ ستين سنة، أو سبعين سنة، فهذا قد يصعب عليه كثيرًا.

ولذلك ذكر أهل العلم: أن عامة من يخرجون في جيوش المسلمين أنهم قد لا يكونون بتلك الحال من الطاعة والاستقامة، وقيام الليل، وصيام النهار، وقراءة القرآن، وما أشبه ذلك، وقد يضعف كثير منهم عن هذا، بل قد يكون عند بعضهم من التقصير في الواجبات، أو فعل المعاصي أشياء، لكنه في مثل هذه العبادات الشاقة قد ينهض؛ لأنها قد توافق ما جبل عليه من الإقدام والشجاعة، وما أشبه هذا.

ولا سيما الأعمال التي فيها ارتحال وانتقال وذهاب ومجيء وسفر، وما إلى ذلك، غير لما تقول له: اجلس في المسجد، يمكن لا يستطيع أن يجلس عشر دقائق على بعضها، ما يستطيع، لكنه يستطيع أن يذهب ويجيء ويسافر وينتقل، ويرابط في الثغور، ويجاهد الأعداء، وما أشبه هذا، وهذا أمر مشاهد، قد لا يصبر على طلب العلم، وقد لا يصبر أن يتعلم مبادئ التجويد، أو مبادئ التوحيد، ولكنه يصبر على أمور غير هذا، كما نشاهد، والله قد فاضل بين الناس في القدر، لكن الكثيرين قد لا يصبرون على هذا اللون من الطاعات، أعني التي تحتاج إلى ترويض النفوس وتربيتها وتهذيبها، وإقامتها على طاعة الله ظاهرًا وباطنًا، بملازمة المساجد، وكثرة الخطا إليها، وعدم التخلف عن الصلاة المكتوبة، وعدم التأخر عنها، هذا قد يصعب على كثير من الناس.

وذكر الحديث الذي بعده، وهو الحديث الأخير في هذا الباب، وهو حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة:18] الآية، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن[5].

وهذا الحديث على كل حال فيه ضعف، لراوي تُكُلم فيه، يقال له: دراج، ولكن يشهد لمعناه هذه الآية: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة:18] وعمارة المساجد تدل على إيمان عامر في القلب، ويدخل في عمارة المساجد دخولاً أوليًا العمارة المعنوية بالصلاة، وذكر الله -تبارك وتعالى-، ويدخل فيه العمارة الحسية، وهي بناؤها، وترميمها، وتعاهدها بتنظيفها، وما إلى ذلك، هذا كله داخل في عمارتها.

وهنا يقول: إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان فالحديث ضعيف، ولكن عمارة المساجد تدل على الإيمان؛ لأن الله قال: إِنَّمَا بأسلوب الحصر يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.

وقال فيمن عمروها عمارة حسية دون العمارة المعنوية: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة:19] فيدخل في عمارتها، والتي يحبها الله، وأثنى على أهلها هنا: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ العمارة المعنوية بالإيمان والصلاة، وما إلى ذلك.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره برقم (251).
  2. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد برقم (662).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم (2892).
  4. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (23954) وقال محققو المسند: "حديث صحيح".
  5. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة برقم (3093) وضعفه الألباني.

مواد ذات صلة