الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «ألا تصفون كما تصف الملائكة»، «خير صفوف الرجال أولها..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا "باب فضل الصف الأول، والأمر بإتمام الصفوف الأُول وتسويتها والتراص فيها".

الصف الأول هو الصف الذي يلي الإمام مباشرة، وقد تكلم أهل العلم في الصفوف المتقدمة، التي تكون من النواحي الأخرى، قبالة الكعبة، هل يدخل في ذلك ما جاء في فضل الصف الأول أو لا؟

فبعض أهل العلم يرى أن المقصود بالصف الأول، وما جاء فيه، هو ما كان مما يلي الإمام، يعني: إذا كان في مكة مثلاً يصلي في الحرم، فإذا أراد فضل الصف الأول -عند جماعة من أهل العلم- فإنه يصلي مما يلي الإمام، دون اعتبار للصفوف المتقدمة، قبالة الكعبة، من النواحي الأخرى.

وعلى كل حال هذا ليس محل اتفاق، لكن قال به جماعة من أهل العلم.

والأمر بإتمام الصفوف الأول، بمعنى: أنه لا يصطف قوم في صف متأخر حتى يتم ويكتمل الصف المتقدم، هذا المراد بإتمام الصفوف الأول، فليس لأحد أن يصطف في صف جديد -الصف الثاني مثلاً- والصف الأول لم يكتمل، أو في الصف الثالث والثاني لم يكتمل، وهكذا.

وأما تسوية الصفوف فهو بمعنى: ألا يتقدم أو يتأخر فيها أحد، فيضطرب الصف، وإنما يكون في حال من الاستواء، والعبرة في ذلك هو الأعقاب والتراص بالأكعب، يعني: بمؤخر الرجل، وليس العبرة بمقدمها؛ لأن الرجل قد تكون طويلة، وقد تكون قصيرة؛ وذلك لا يُؤثر في استقامة الصف، وإنما الذي يؤثر فيه، ويحصل به إقامته وتسويته هو أن يكون الكعب بإزاء الكعب، أي يستوي الناس في مؤخر الرجل، هذا هو المعتبر، سواء كان المصلي صغيرًا أو كبيرًا.

وأما ما يتعلق بالجلوس -كالذي يصلي على كرسي، أو نحو ذلك- فإن كان في حال القيام -يصلي وهو قائم- فإنه يقف كما يقفون، ويكون العبرة بما ذكرتُ، فإذا جلس في حال الركوع أو السجود؛ لأنه لا يستطيع أن يسجد على الأرض مثلاً، فجلس على كرسي، فإن ذلك يمكن أن يكون ظهره متأخرًا عن الناس، بمعنى: أنه إذا اعتبر قيامه فإنه يراعي بذلك ما ذُكر: من الاستواء بمؤخر الرجل، فإذا جلس على الكرسي أثناء ركوع الإمام وسجود الإمام، فإن ظهره سيكون متأخرًا عنهم.

وأما إذا كان يصلي الصلاة كلها وهو جالس، فإن المراعى بذلك هو أن يستوي صدره وظهره مع الناس، ولو تقدمت أطرافه –رجلاه- فإن ذلك غير معتبر، يستوي ظهره معهم، لكن إذا كان يصلي قائمًا، ويجلس على الكرسي حال الركوع والسجود، فإنه يراعي في ذلك القدم حال القيام، فإذا جلس كان ظهره متأخرًا.

وأما التراص فيها بمعنى: أنه لا يدع فرجات في الصف، يلتصق المنكب بالمنكب، وليست العبرة بالتصاق الرجل بالرجل، فإن الإنسان قد يباعد بين قدميه، ولكن منكبه بعيد عن منكب الآخر.

وذكر حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- قال: خرج علينا رسول الله ﷺ فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول، ويتراصون في الصف[1]، رواه مسلم.

هذا أمر غيبي أخبر عنه النبي ﷺ، الملائكة كثير، لا يحصي عددهم إلا الله -تبارك وتعالى-، والبيت المعمور في السماء السابعة يأتيه في كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه ثانية، تصور هذا العدد من الملائكة كل يوم؟ سبعون ألف ملك يأتون، ولا يعودون ثانية، إذًا خلال عشر سنوات كم عدد الملائكة الذين جاؤوا إليه؟ وخلال مائة سنة؟ وخلال ألف سنة؟ فالملائكة عدد كثير، لا يحصيهم إلا الله -تبارك وتعالى-، والله قد تعبدهم بما شاء، وبما هو أعلم.

فأخبر النبي ﷺ أنهم عند ربهم يصفون صفوفًا، ويتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف.

ثم ذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لو يعلم الناس ما في النداء يعني: الأذان والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا[2]، متفق عليه.

وقد سبق الكلام على هذا في باب الأذان، وقلنا: إن الاستهام المقصود به: الاقتراع، يعني: يعملون قرعة من الذي يسبق؟ ومن الذي يصلي في الصف الأول؟ ولهذا فإن من الزهد البين، والغبن الكبير: أن الإنسان يأتي لربما مبكرًا، أو وهو يجد في الصف الأول مكانًا، ثم بعد ذلك يؤثر الجلوس في صفوف متأخرة، لا سيما يوم الجمعة، فإن ذلك يدل على زهد بما عند الله -تبارك وتعالى-.

ثم ذكر أيضًا حديثًا آخر لأبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها[3]، رواه مسلم.

خير صفوف الرجال يعني: أفضل صفوف الرجال أولها، فهؤلاء يكون لهم تحصيل هذا الفضل من جهة والتقدم، وهذا لا يكون عادة إلا بالتبكير، ثم أيضًا من جهة أخرى، فإن ذلك يكون أبعد عن الفتنة؛ لأن النساء مما يلي الرجال في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

قال: وشرها آخرها يعني: القضية تكون نسبية، يعني: الصف الأول أفضل من الثاني، والثاني أفضل من الثالث، والثالث أفضل من الرابع، وهكذا، حتى يصل إلى آخر الصف.

قال: وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها هذا يعني: البعد عن الفتنة، والنأي عن الرجال قدر الإمكان، فهذا في مسجد، وفي عبادة، وربما خلف النبي ﷺ، وما جاء في فضل الصف الأول، ثم بعد ذلك يكون في حق النساء الأفضل الصف الأخير، فهي تأتي أولاً وتُؤثر آخر الصفوف، تستند على الجدار، وتنتظر الصلاة، حتى تبقى في آخر صف.

وشرها أولها لأن ذلك مما يلي الرجال، والمقصود بذلك ما إذا كان الرجال والنساء يصلون في مصلى واحد ليس بينهم حاجز، أما إذا كان هناك مصلى للنساء، فإن أفضل صفوف النساء كالرجال هو الأول، وشرها هو الآخر، وقد ذكر هذا جماعة من أهل العلم، كالنووي -رحمه الله-[4] وغيره؛ لأن المقصود والعلة في ذلك هو البعد والنأي عن مواطن الرجال، والقرب منهم، والبعد عن الفتنة، فإذا كان النساء يصلين في مصلى واحد مع الرجال، كما لو كان في صحن الحرم مثلاً، أو نحو ذلك، دون حاجز، فإن شر صفوف النساء، أولها، وخيرها آخرها، وإذا كان كما في المساجد في هذه الأوقات النساء يصلين في مصلى مستقل، لا يراهن الرجال، فإن الأفضل هو الصف الأول، وشر صفوف النساء يكون هو الآخر.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة، والنهي عن الإشارة باليد، ورفعها عند السلام.. برقم (430).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان (615) ومسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (437).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول... برقم (440).
  4. شرح النووي على مسلم (4/ 159).

مواد ذات صلة